مجلة الرسالة/العدد 869/القصص
→ البريد الأدبي | مجلة الرسالة - العدد 869 القصص [[مؤلف:|]] |
بتاريخ: 27 - 02 - 1950 |
جنة. .
للأديب أحمد كمال زكي
لا تسألني لماذا لم أحدثك من قبل بكل ما أحدثك به الآن. . فأنت تعرف من قديم طريقتي الخاصة في الحياة، وتدرك ني في أغلب الأحيان أوثر نفسي بأشياء أعلم أن ليس فيها غناء لأحد. قل هي رغبة مجهولة، ولكن أرجو أن لا تزعم أني غريب شاذ كما تقول. . .
ثم هل كان ينبغي أن أقول لك أني معذب؟ بالله لا تضحك. فقد كنت معذبا حقا، ألست بشراً ككل بشر؟ وماذا في ذلك هل ثمة ما يمنع أن يبكي قلبي وقد ضحك كثيرا؟ إنني أضرع إليك أن تنصت إلى دون تساؤل أو إثارة. . فبحسبي هذا القلب يضطرم في صدري كالأتون!
والآن دعني أسألك: أتذكر متى حدثتك عن فرقة آوتني فقلت لك إنها جنة أنيقة معطورة؟ أرجو أن لا تكون نسيت. . فليس يحزنني شيء كما يحزنني منك إهمال شئوني وهي جزء من ذات نفسي. في هذه الفرقة - يا صديقي - تبدأ قصتي، وكنت قد ودعت خارجها كل شيء. . حتى صبابتي العابثة.
لقد كنت مرهقاً، وكانت أعصابي في حاجة إلى أن تستريح وكنت أطمع أن أجد الناس الذين لا يعنيهم أمري، ولا يعترضون سبيلي. . فما أنفقت أسبوعاً حتى أدركت أني أصبحت - لأول مرة - ملك نفسي. فأما صاحب الفرقة أو صاحب المسكن كله فلم يكلف نفسه قط مشقة التحدث في شيء إلا مسكنه، وما اجتمع فيه من أسباب الراحة والدعة. وأما زوجه فكانت صموتا صارمة. . كرهت فيها نظراتها النافذة وحركاتها البطيئة، ولكنها لم تحاول أن تهتك ذلك الستر الذي أقمته بيني وبين سائر سكان (البانسيون).
ولكن حادثة صغيرة غيرت كل شيء. حادثة يعلم الله أني لم أكن راغباً فيها، فقد ناءت بروحي ثقال ضخام، وأصبحت لا أريد إلا أغنية رقيقة ترفه عن نفسي وترد لها شيئاً من قرار أتريد أن تعرف ما هي؟ لا تتعجل الحوادث. . فإني أرجو أن أقص عليك كل شيء في ترتيب.
لقد كنت في يوم أهبط الدرج حين رأيتها هي. . فتاة في عمر الربيع. . رشيقة خفيفة، تصخب في حياة دافقة حلوة. أرأيت إلى عصفور يفقر ذات صباح على أشجار الورد؟ لقد كانت هي أيها الصديق. .
ورمقتها. . ولأمر ما لم أستطيع أن أطرق، لا ولا أفسح لها السبيل فالتقي ذراعي ذراعها. . في لمسة ناعمة هادئة، وأردت أن أعتذر فهزت رأسها في وداعة وانفلتت كما تنفلت نسمة بين الزهور وخلفت وراءها سحبة عاطرة.
وماذا تتوقع مني بعد ذلك أيها الصديق وأنت تعرفني كل المعرفة؟ لقد فكرت فيها الكفاية. . وحين عدت إلى جنتي خيل إلى أني أشم فيها عطرها. وضج قلبي، وحاولت أن أمسك به. لقد كان يسوقني إلى ما يجب في إصرار عجيب. وأحسست وأنا واقف بنافذتي بصاحبة الدار تحمل الغداء، وتوقعت منها أن تقول طعامك. أيها السيد! ولكنها لم تفعل واكتفيت نحوها ثم. . ثم خنقت آهة كادت تثب من حلقي في دهشة وتمرد. أتدري لماذا لقد كانت (هي) يا صديقي. ولم تكن المرأة الصموت الصارمة.
اشتعلت أعماقي. . ومات الكلام على شفتي، واكتفيت بالتطلع إليها. ويبدو أن منظري كان مثيراً، فقد انطلقت تضحك. فسمعت موسيقى يرقص في أصدائها شباب مندفع يقظ. .
وفي جهد انتزعت صوتي، فإذا به همهمة بغيضة قلت لها (أنت؟) فأجابت وفي صوتها رنين أنوثة بكر: طبعا أنا. وعدت أسألها حالماً أو كالحالم: ومن تكونين؟ فأجابت في تردد مستطيل: أنا. أنا ابنة صاحب الفندق. ودفعت بأناملها شعرها ثم أدارت طهرها وانصرفت خفيفة كما أقبلت.
أتحسب أنى اعرف ماذا أكلت؟ كلا والله يا صاحبي. . فما كنت بحاجة إلى ذلك وقد تشبثت هي بخيالي وصدري لا تريد أن تبرحهما. على أنها حين عادت لترفع مائدتي الصغيرة خيل إلي أني أمير أسطورة من أساطير ألف ليلة وليلة وإلا بربك ماذا كنت أصور لنفسي وأمامي أنثى فاتنة تقوم على خدمتي؟
أين كانت هذه الحورية. ولماذا أتت؟ أكانت الأيام تدخرها لي لتضاعف من هناءتي؟ لعلها كانت في سفر. أو لعلها هبطت من السماء، فمن يدري. غير أنها كانت على أي حال ابنة صاحب الفندق. وقد أصبحت فإذا يحتويها مسكن يحتويني، فلا تسل كم وضعت من الخطط، وكم من المشرعات قتلته بحثا!! وتعودت رؤيتها كل يوم، كما تعودت أن أحادثها. . . فآمنت أني بحاجة إليها، فقد كانت أنثى يعانقها شباب العشرين أنثى عذبة تطوف حولها أحلام بيض، ويوم حدثتها عن نفسي وأنا آكل قلت لها أني أريد صداقتها. صداقتها فقط.
ورضيت بهذه لصداقة ورفعت الكلفة بيني وبينها. وكانت لا تكاد تدخل غرفتي حتى ترمي خارج الباب كل شيء يقيدها وكانت أحياناً تميل برأسها فتفتر أعصابي، وتلاشى في عطرها المترف الرقيق. ولم تكن تعمد مطلقاً إلى سحب يدها من يدي حين أمسك بها.
وقنعت يا أخي منها بذلك، وأبيت أن أخطو خطوة واحدة. فقد كنت أخشى أن أرتطم بألف سد، وكان حرصي الشديد عليها يحجم بي عندما كنت أظن أنه يؤلمها. ثم كان يجب أن أدرك أن عين الأم ترقبنا دائماً. فلم يحدث أن دعوتها للخروج معي، ولم تبدر مني بادرة توحي بأني راغب في قضاء سهرة معها. غير أني كنت أحس أنها لن ترفض إذا عرضت عليها عرضاً.
إلى أن التقيت بها في إحدى صالات العرض. . وكانت مع أبيها. ورأتني فابتسمت فدنوت منها متردداً وجلاً وما رآني الرجل حتى استقبلني مرحاً ضاحكاً، واستقبلتني هي في عين راعدة وشفة تختلج إلا أنها لم تستطع أن تكتم ضحكتها حين اعتذرت عما إذا كنت قد أقحمت نفسي عليها.
وعاد الرجل يضحك، ثم انطلق صوته في سرعة وعصبية ولكنه لم يتكلم هذه المرة عن مسكنه، فقد كان وراءه ما هو أهم كما راج يقول، ولولا هي. . . لولا ابنته لكان الآن في غير المكان ثم رجاني أن أعود بها إذا مل أمانع، وانصرف قبل يعرف رأيي، وكأنه كان على ثقة من رضائي!
حدث كل هذا في وجيز وبين دقيقة وأخرى وجدت نفسي نعها، غير أني استشعرت وإياها في بحر عريض وسيع، ولم أدر أين أذهب بها. . لقد كنت أريد أن أبتعد بها عن كل عين، كنت أريد دنيا لا يسعى على أرضها أحد سوانا!
ونظرت إليها. . وكانت هي تتطلع نحوي، فأسبلت أهدابها وحاولت أن تبتسم. وكانت خجلة على اكبر الظن، أو كانت مترددة مثلي لا تدري ما تقول. واجتذبتها من ذراعها وأنا أهمس أتريدين الرجوع؟ فأجابت في جفوت: وأنت ماذا تريد؟ ثم قضينا مما أبدع ساعات ثلاث. ولما قفلنا راجعين كادت لدموع تطفر من مآقينا. وعلى الباب تكلمنا كثيراً، وحاولت أن تشكرني، فاستوقفتها قائلاً: اسكتي. ودعيني أتطلع إليك، فإني أرى في عينيك دنياي!
وكنا في عتمة. وعلى ضوء المصباح الشاحب رأيت هاتين العينين تلمعان، وأردت أن أقول لها شيئاً، فلم تدعني لأنها. . . لأنها قاطعتني بلثمة مذعورة من ثغرها الدقيق. ثم انثنت تصعد الدرج مسرعة وأنا خلفها. . .
وفي اليوم التالي تحدثنا عن كل شيء، واستعرضنا ما حدث ولكنا لم نتحدث عن قبلة الليل وكنت سعيداً، وكانت هي سعيدة وأقسمنا معا أن نظل وفيين أفتحسبنا كنا نلهو أيها الصديق؟ أما الأم فلم أرها، وأخبرتني هي أنها غضبى. . لعل ذلك لأنها كانت معي، أو لأنها تألمت حين علمت أن زوجها فقد بالأمس بعض ماله في غير نفع.
ثم اجترأت، وحاولت أن أعيد عليها صورة وداعنا وأمسكت بها فتخلصت مني برفق تقول: أرجوك.
وتكرر خروجها معي وفي هذه الأثناء كانت صلتي بأمها تزداد توتراً، وكأنما كان بيني وبينها ثأر قديم. لقد كنت يا صديقي أحاول أن أجعلها في جانبي، ولكنها كانت كالجواد الجموح لا يرضيها لين، ولا تخدعها رقة، ولا يقنعها تظاهري لها بالخضوع وخيل إلى أنها لا ترضى من خروجي بديلاً.
وأقسم أن هذه الفكرة روعتني، وحاولت عبثاً أن أقنع نفسي بغير ذلك وفي اليوم الذي ظننت فيه أني موشك على إزالة حدة التوتر سمعت منها رأيها بصراحة لم تعجبني. وأؤكد لك يا أخي أن صورة صاحبتي هي التي حالت بينها وبين لساني ومع ذلك فقد تفضلت وصارحتني بحاجتها إلى غرفتها.
وفزعت إلى الرجل فنصحني بالتريث، وتفقدت صاحبتي فلم أعثر لها على اثر. وبدا لي أن العجوز عملت على إبعادها من طريقي. . فهل كانت تدري صلتي بها؟ أما أنا فقد كنت أوقن أنها لا تعرف شيئاً مطلقاً. على أني في يوم وليلة اعتزمت الرحيل!
وأرجو أن لا تحسب أن هذا الرحيل كان علي سهلاً. وكان شيء واحد يشغلني هو: كيف اتصل بها. وكنت ساهماً تائها حين سمعت بابي ينفتح في رفق، فالتفت لأراها تدخل ثم تغلق الباب علي وعليها. .
قالت: أسترحل؟ بالله قل لا، فأنا أريدك هنا.
وقمت لها وهمست: وأمك. . إنها لا تحبني ولا تريدني وأطرقت قليلاً ثم رفعت رأسها فإذا بدموع غزار تأتلق على خديها وتمزق قلبي أساً وأسفاً.
وتقدمت نحوي وانطوت بين ذراعي في وداعة، وأخذت تضغط على صدري كأنما تخشى علي شيئاً. ورفعت يدي لأمسح دموعها. . . ولأول مرة أحس أن شيطاني يتخلى عني فلا يغريني بإثم دفئ. ولم تغادرني إلا بعد أن أخذت مني وعداً بالبقاء. .!
يا صديقي لا تجعلني أطيل وقوفي هنا؛ فبحسبي أن أقول أني استشعرت أني أحبها من أعماقي. وآمنت أنها وإن كانت أنثى فهي لم تكن ككل واحدة. . كان يخيل إلي أنها غير من عرفت، وكان نجاحها في قتل غرائزي هو ما رفعها في عيني أنا الذي كان ينظر إلى المرأة دائماً نظرة جائعة. ملأني حبها فأحببت روحه. وهل كلن في وسعي أن أنسى هذه الليلة التي جمعتنا فيها ابتهاله مؤمنة طاهرة؟
إن نفسي أيها الصديق لم تنطو على طيش ونزق. ويوم عرفت أن بجانبي عذراء تريد أن تبقى نقية طاهرة حرصت على أن أصونها ولما رجتني أن لا آتي بما يعكر صوف علاقتنا قررت أن أنتظر. . وفي أثناء ذلك حاولت عبثاً كسب صداقة أمها.
لقد أصبحت هذه تؤرق مضجعي وتقلق راحتي وكنت من حين إلى حين ألمحابنتها فأرى في عينيها توسلا، وأحس بروحها الآلمة ترجو مني أن أبقى. . . من أجلها!!
وفي ظهيرة أحد الأيام - وكانت أمها في المطبخ - دخلت علي لهفه جازعة. وفي روعة المفاجأة نسينا نفسنا فاحتضنا، ورفعت إلي ثغرها فقبلتها، وارتعدت شفتاها في همس باك: سأسافر في الغد. . . ولن تبقى أنت أيضاً فلا أريد أن تبقى معها.
فأسرعت أقول: لنهرب. . فلن يمنعنا شيء من ذلك؛ فأنا أحبك وأريدك لنفسي. فاستضحكت في مرارة وقالت: أنسيت أني. . . أني مسيحية؟!
وطفرت من عينيها الدموع، ومالت علي تقول: ولكن تذكرني. . . تذكر أني أحببتك حبا باركته الأحلام والدموع والأنات. وانفلتت خارجة. . . ولم أرها بعد ذلك!
أجل يا صديقي. . . لقد أصبحت فإذا ورقة تحمل عطرها بجانب بابي، وقرأتها فإذا بها هذه الكلمات (ربما كان هذا كله حلماً. . أو ربما يكون واقعاً عشنا فيه. اسأل نفسك فسأسأل أنا نفسي دائما وعزائي أنك كنت معي لطيفاً مخلصاً).
وقبلت الورقة، ووضعتها في جيبي. وانطلقت خارجاً، ولم أعد إلا لأحمل حقائبي. . وتركت جنتي لأعيش على الأرض مع البشر!
أحمد كمال زكي