الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 869/الشعر المصري في مائة عام

مجلة الرسالة/العدد 869/الشعر المصري في مائة عام

مجلة الرسالة - العدد 869
الشعر المصري في مائة عام
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 27 - 02 - 1950


محمود صفوت الساعاتي

للأستاذ محمد سيد كيلاني

- 3 -

وقال:

طلبوا السلامة من سطاء وسالموا ... ملكا عليه عسيرهم لم يعسر

وقد استقالوا عثرة الحسن الذي ... زلت به قدم الضرير المبصر

وتزاحموا حول البساط لينظروا ... حرم الوفود وكعبة المستغفر

معنى البيت الأول جيد. وفي كلمة (عسير) تورية فهي اسم للبلاد الواقعة بين اليمن والحجاز. وتكون بمعنى الصعب من الأمور. ومعنى البيت الثاني جيد كذلك. وفي عجز البيت طباق بين (ضرير) و (مبصر).

ومعنى البيت الثالث رائع لما أسبغ عليه من جو ديني.

وقال:

حتى إذا ثبتت بهم أقدامهم ... نكسوا الرؤوس لذي المقام الأكبر

وهو جيد المعنى. وفيه طباق بين (أقدام) و (رؤوس)

وقال:

نظروا إلى ملك لديه كل ذي ... ملك كبير كالأقل الأصغر

والمعنى تافه. وقال:

ولو أن من قاد الجيوش إليهم ... غير ابن عون عاد غير مظفر

إن كنت تجهل فعله فاسأل به ... من شئت من أبيض أو أسمر

وسل الحجاز وأرض نجد والمخا ... عمن دحاها بالخيول الضمر

ومعنى الأبيات وجيز. ولكن الشاعر أطنب لأن المقام اقتضى ذلك. وعبارة (فاسأل به) من رديء القول. وكذلك (من شئته).

وق ذلت له أسد الوغى من حمير ... مذ أيقنت منه بموت أحمر

حتى إذا ما أذنوا بقدومه ... هبط الإمام وكان فوق المنبر

وتسابقوا طوعاً له في مشهد ... والكل بين مهلل ومكبر

سجدوا وقد نظروه شكراً للذي ... خلق العباد وخاب من لم يشكر

معنى البيت الأول تافه. وفيه جناس بين (حمير) و (أحمر). وفي البيت الثاني تلاعب بالألفاظ. فأذنوا بمعنى أخبروا. وتكون من أذان المؤذن. والإمام هو إمام اليمن. وقد يكون بمعنى الشخص الذي يؤم الناس في صلاة. والمنبر بمعنى العرش. ويكون بمعنى الكرسي المرتفع الذي يخطب عليه الإمام في المسجد. والمعنى في حد ذاته تافه وهو أنهم ذلوا وخضعوا. ولكن الساعاتي أتى به في صورة رائعة. وأراد أن يقول في البيتين الأخيرين إن الأعداء قدموا طاعتهم فأسبغ على هذا المعنى ثوبا دينيا جمع بين التكبير والتهليل، والسجود والشكر لله وقال.

كاد ابن يحيى أن يموت لرعبه ... لولا تبسمه وحسن المنظر

وابن يحيى هو إمام اليمن ... ولم يوفق الشاعر في عجز

البيت إلى الجودة في التعبير عما يريد.

وقال:

أم الحديدة آملاً لما رأى ... غوث اللهيف بها وكهف المعسر

جاء الحمى فروى بفضل وانثنى ... يروي الحديث عن الربيع وجعفر

رويت بجدوى آل محسن أرضهم ... حتى اكتسبت زهوا بثوب أخضر

لله قوم لم يول من دأبهم ... خوض البحار وكل بر مقفر

وليس في هذه الأبيات من المعاني سوى مدح آل محسن (آل عون) بالجود والبأس. وفي البيت الثاني جناس بين (روى) بمعنى سقى، و (روى) بمعنى أخبر. وقد بالغ كثيراً في قوله (خوض البحار. . .) فأوهم السامع أن الممدوحين يملكون الأساطيل القوية التي يجوبون بها البحار والمحيطات شرقاً وغرباً. والحقيقة أنهم نقلوا قليلاً من الجنود على ظهر بعض السفن. وفي قوله (حتى اكتست زهواً بثوب أخضر) معنى تداوله كثير من الشعراء. وقال: حرثت ربي نجد حوافر خيلهم ... قدماً وكم زرعوا بها من سمهري

وسقوا الرياض بجودهم فتزاهرت ... وغدت بغير مديحهم لم تثمر

كرر في هذه البيتين بعض المعاني التي سبق أن مدحهم بها. وقد شعر بإفلاسه فلجأ كعادته وكعادة غيره من الشعراء المفلسين إلى التلاعب بالألفاظ. فترى طباقا بين (حرث) و (زرع) وتورية في (الرياض) فهي عاصمة نجد، وقد تكون بمعنى الحدائق والبساتين. ولم تخل جعبة الشاعر من المعاني فقط، بل خلت من الصور كذلك.

فقال في الأبيات السابقة

رويت بجدوى آل محسن أرضهم ... حتى اكتست زهوا بثوب أخضر

وقال في هذه الأبيات

وسقوا الرياض بجودهم فتزاهرت. . . الخ فلم يجد أمامه غير صورة واحدة هي السقي والزرع وقال

آلت رماحهم وقد خاضوا الوغى ... إن لم ترد صدر العدى لم تصدر

وسيوفهم رأت القراب محرماً ... إلا الرقاب ورأس كل غنضفر

فسلوا الممالك عن نداه فأخبروا ... في أي قطر جوده لم يقطر

وليس في هذه الأبيات شيء جديد. بل هي تكرار لما سبق من مدحهم بالبأس والجود. وفيها طباق بين (ترد) و (تصدر) وجناس بين (صدر) بسكون الدال وبين (صدر) بفتحها. وبين (قطر) بسكون الطاء و (قطر) بفتحها وقال

ما روضة ماست حدائق زهرها ... طربا ونبهتها بالربيع المزهر

غنى الحمام على قدود غصونها ... سحرا فأغنى عن سماع المزهر

يوماً بأحسن من مديح صغته ... فيهم بنظم قلائد لم تنثر

وهنا تكرار لصورة الساقي والزرع. وفيها جناس بين (غنى) و (أغنى) وطباق بين (نظم) و (نثر) وقد تجلت براعة الشاعر في الانتقال من المدح إلى الفخر بشعره. فبعد أن أشاد بجود آل عون وصور الأقاليم التي غزوها وقد أصبحت جنة تجري من تحتها الأنهار، رجع فذكر أن مدحه يفوق تلك الجنة.

قال: فإذا شدت ورقى الحمى ناديتها ... يا ورق في ورق الغصون تستري

وإذا رأيت الجو مني قد خلا ... وهممت بالترحال بيضي وأصفري

إني لقاموس العروض ونظمه ... أروى الفرائد عن صحاح الجوهري

لا تعدلوا في الشعر كل معمم ... كالثور ذي القرنين بالإسكندر

ما كل من يملي القصيدة ناظم ... قد ينتمي للشعر من لم يشعر

لو كان فيهم شاعر لوقفت في ... ديوانه أدبا ولم أتكبر

لكنهم جهلوا به ثم ادعوا ... ما قصرت عنه شيوخ زمخشر

في هذه الأبيات قدم الساعاتي نفسه على من حوله من الشعراء ورفع منزلته في الشعر على منزلتهم. وأطال وأطنب وناقش وجادل دفاعاً عن هذه القضية. وقد أسرف في الزراية بشعراء الحجاز وبالغ في تحقيرهم. فشبههم بالثيران وشبه نفسه بالاسكندر. وأشار إلى الفرق العظيم بين الثور ذي القرنين واسكندر ذي القرنين. وقال لو أنه وجد فيهم شاعراً يستحق هذا الاسم لأكرمه وعظمه وأحله المنزلة اللائقة به ولكن هؤلاء الشعراء الذين يناصبونه يجهلون الشعر كل الجهل. ومع هذا فهم مدعون ينسبون لأنفسهم ما قصر عنه شيوخ البلاغة.

وقال:

حجوا ولكن بيت كل قصيدة ... وسعوا ولكن في استراق منكر

وقد اتهمهم في هذا البيت بالسرقة من شعره والسطو على نظمه. وأسبغ على هذا جوا دينيا كما هي عادته في كثير من أبيات هذه القصيدة فذكر الحج والسعي. وعظم من شأن قصائده فجعل كل بيت منها كعبة لهؤلاء الشعراء يحجون إليه، ويسعون حوله لسرقة ما فيه من المعاني.

وقال:

وحبوتموهم لا لشائب غفلة ... لكن لحلمكم وطيب العنصر

يا آل محسن لم يزل إحسانكم ... يدع الدنيء على حماكم يجتري

وفي هذين البيتين استطراد لحملته العنيفة على هؤلاء الشعراء وتحريض عليهم. وقد أجاد هذا التحريض. فلم يجعل إحسان آل عون إلى هؤلاء الشعراء من باب الغفلة وعدم الفهم ولكنه من باب الحلم وطيب الأصل. وذكر أن الإحسان قد جرأ كل حقير على قصد نوالهم والطمع في عطائهم. وهذه الأبيات التي ساقها في الفخر بشعره وفي التعريض بغيره هي - دون شك - من آثار الخصومة الهائلة التي نشبت بين الساعاتي وبين شعراء الحجاز.

2 - في مصر:

يختلف شعر الساعاتي في مصر عنه في الحجاز. فامتاز شعره في الحجاز كما أسلفنا باحتوائه على بعض المعتقدات الشيعية، وسيطرة الجو الديني عليه، والإشارة إلى المعارك والوقائع، تصوير الأعداء وقد جاءوا طائعين مستسلمين. وقد ظهرت في هذا الشعر آثار العداء الشديد الذي قام بين الساعاتي وشعراء الحجاز. وقد دفعه هذا العداء إلى الإكثار من مدح شعره، والتغني ببلاغة نظمه ومتانة تراكيبه، وقوة عباراته، كما دفعه إلى التحقير من شأن من حوله من الشعراء.

أما في مصر فقد كانت البيئة تختلف اختلافاً كبيراً عن البيئة الحجازية. لذلك بعدت الشقة بين مدائحه في أمراء مصر ومدائحه في آل عون.

كان الساعاتي إذا مدح حاكماً مصرياً خلع على مدحه ثوباً يلائم المقام ومزجه بالإشارة إلى أهم المظاهر الذي امتاز بها عصر الممدوح. فكان إذا مدح سعيدا أشار إلى جيوشه وأسلحته وقلاعه وحصونه، ونوه ببأسه وقوته وشجاعته وإقدامه.

وإذا مدح إسماعيل تغنى بثراء مصر وخصوبة أرضها ومزايا نيلها وأشاد بقصورها وبساتينها. وذكر أنها هي الدنيا التي جمعت بين الشرق والغرب، وحوت خزائن الأرض.

وإذا مدح توفيقاً أشار إلى جوده وكرمه وعدله وحلمه وما امتاز به من حسن التدبير وسداد الرأي وجودة التفكير. ومن أمثلة هذه لمدائح قصيدة مدح بها الخيدو إسماعيل. وقد بدأها بقوله:

لسعدك من فوق النجوم سماء ... سماها سنا من نوره وسناء

كان بوسع الشاعر أن يأتي بمعنى هذا البيت وهو تافه في عبارة جيدة وتركيب سهل مستقيم. ولكنه حرص على أن يملأ بيته بالجناس فجاء تعبيره سقيما ثقيلا على الأذن. فهناك جناس بين (سماء) و (سما) وبين (سما) و (سنا) و (سناء) وبين (سماء) و (سناء). كل هذا في بيت واحد. وليس وراء هذا العناء معنى قيم. وقال: عليك لواء الحمد ظل مظللاً ... علاء من النصر العزيز لواء

لأنك أولى الناس بالمجد والعلا ... كما لك بالفضل العميم ولاء

والبيتان ضعيفا المعنى والعبارة. فأثقل بقوله (ظلاً مظللا) وبدأ البيت الثاني بقوله (لأنك) وفي ذلك ضعف. وكذلك قوله (كمالك) فإنه من سقيم التراكيب الشعرية. وقوله (لأنك أولى الناس بالمجد والعلا) كلام خلو من المعاني. وقد أحس الرجل بضعفه في المدح فانتقل منه إلى التحدث عن مصر وخيراتها ونعيمها. فقال:

لك الملك فاحكم كيف شئت على الثرى ... فما الأرض إلا مصر وهي ثراء

مبوأ صدق وهي أنضر ربوة ... مقام كريم حله كرماء

وذات قرار وهي خير مدينة ... وملك عظيم أهله عظماء

والمعنى ضعيف إلى أبعد حد. ويتجلى هذا الضعف في قوله (مقام كريم حله كرماء) وقوله (ملك عظيم أهله عظماء) فهما خلوان من المعنى خلوا تاما. وقال:

على أنها من جنة الخلد غيضة=رياض بها عين وأنت ضياء

وصدر البيت جيد المعنى. وعجزه تافه. والقصيدة كلها ثلاثون بيتاً. ومع أنه نظمها في مدح إسماعيل إلا أنه استغرق أكثر من نصفها للتحدث عن مصر وأرضها وسمائها ورياضها وحقولها وليس ببعيد أن يكون هذا من أثر الأعوام التي قضاها الساعاتي في صحراء العرب. فوازن بين تلك القفار وبين مصر. فوجد أن مصر هي أم الدنيا وهي قطعة من الجنة وجزء من الفردوس.

وقال:

فأبصرت فردوساً تدانت قطوفها ... وللنيل فيها كوثر وشفاء

ومصر هي الدنيا جميعاً وربها ... عزيز وأهلوها هم النجباء

لقد جمعت ما بين شرق ومغرب ... كذلك بالفرقان جاء ثناء

خزائن أرض الله مصر وكم أتى ... حديث روته السادة القدماء

لقد صير الباري ثراها وأهلها ... وروى رباها كيف شاء وشاءوا

وهكذا وصف الشاعر مصر. ومع أنه أسهب وأطال في التنويه بمصر إلا أنه كرر المعاني وردد الصور. فالصورة واحدة في قوله (على أنها من جنة الخلد غيضة) وقوله (فأبصرت فردوساً تدانت قطوفها). على أن هذا الإسهاب والتكرار لم يأت عبثا. وإنما هو نتيجة لما شاهده في صحراء العرب من جدب ومحل، وفقر وبؤس، وبعد عن مظاهر الحضارة والعمران. فكبرت مصر في نظره وعظمت في عينه فأطنب في التغني بخصوبة تربتها وعذوبة نيلها أو ما فيها من ثراء ورخاء وترف ونعيم.

(يتبع)

محمد سيد كيلاني