الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 868/الكتب

مجلة الرسالة/العدد 868/الكتب

مجلة الرسالة - العدد 868
الكتب
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 20 - 02 - 1950


دعبل الخزاعي

تأليف السيد محسن الأمين

للأستاذ إبراهيم الوائلي

ليس من شك في أن دعبلا الخزاعي من أشهر شعراء القرنين الثاني والثالث للهجرة فقد تطرق في نظمه إلى مختلف المواضيع وتعرض بشعره إلى كثير من الأشخاص، وعرض نسفه إلى شتى لمخاطر حتى انتهت حياته إلى الاغتيال وهو بعيد عن أهله ووطنه.

ولقد نظر مؤرخو الأدب إلى هذا الشاعر من زاوية المقاييس العمة التي حددوا بها الشعر القديم فسموه شاعرا هجاء مقذعا في هجائه وشاركهم في الرأي بعض المؤرخين المحدثين، ولكننا حين ننظر إلى هذا الشاعر نظرة فيها شيء من العمق والتحليل نستطيع أن نسميه شاعر سياسيا وإن في شعره ما يسمى هجاء بالمعنى الدقيق لن بعض الذين تناولهم ليس خطرا في المجتمع.

وليس من شك في أن شعر دعبل يمثل حيته المضطربة ونفسه الثائرة ونوازعه المذهبية التي دفعت به إلى كثير من المخاطر، وما تعرض به للخلفاء العباسيين بمثل صفحة كبيرة من الشعر السياسي العارم في العصر العباسي الأول وليست السياسية بأكثر من أن يتعرض الرشيد وأولاده وأحفاده ويتناولهم تناولا شديد الوقع على أنفسهم حتى أغضبهم ولقي منهم الجفوة والعنت كم لقي منهم الحظوة والتكريم، يقربه الرشيد ويرفع من منزلته فيناله بعد موته، ويصفح عنه المأمون فلا يجد منه غير السكوت، ويسخر بإبراهيم بن المهدي اشد السخرية ويتندر بالأمين والمعتصم، ويغضب المتوكل فلا يسلم منه إلا بالهرب، ويتجاوزهم إلى غيرهم من ذوي المكانة في المجتمع في نعته مؤرخو الآداب بنعوت شتى من سلاطة اللسان وإفحاش الكلام وإقذاع الهجو، وكل هذه النعوت التي وصفها بها الشاعر مردها إلى تلك النظرة السطحية إلى لم تتوغل إلى دخلية القلب ولم تتعمق في مطاوي النفس، مع أن الأمر أيسر مما تتصوروه في هذا الشاعر. ولو أنهم أرجعوا هذه الثورة إلى منابعها الأصلية ودوافعها الذاتية لأنصفوا الشاعر وأعطوه نصيبه من الدراسة المتينة وأفادوا من شعره في تاريخ الأدب السياسي، وما هذه المنابع والدوافع إلا عقيدة الشاعر ومذهبه؛ فقد كان دعبل ممن يوالون آل علي ويتعصبون لهم، وقد مدح أحياءهم مدحا قوي العاطفة والإحساس، وبكى شهداءهم بكاء سخي الدموع شديد الحزن، وكان من البديهي أن يقف الشاعر من خصومهم موفقا لا يرضى الخصوم وأن يتعصب لأوليائه ويدافع عنهم ما استطاع إلى ذلك سبيلا، فالرشيد قد آذى الإمام الرضا وسجنه وهو من أثمة دعبل، والمأمون يبايع الرضا بولاية العهد ثم ينكل عن هذه البيعة، والمتوكل يغضب الشيعة ويطاردهم حتى في ضريح الإمام الحسين، وإبراهيم بن المهدي يبايعه الناس في بغداد عنادا للمأمون في موقفه الأول من الإمام الرضا، وإبراهيم هو من هو في لهوه ومجونه، وأبو عباد وزير المأمون كان شرس الخلق جافي الطبع. إن من الحق لدعبل - وهو يتولى العلي - أن ينتصف لهم ويدافع عنهم ويندد بخصومهم ولو ناله ما ناله من الأذى والتشريد لأن هذا جزء من عقيدته الدينية ومذهبه. وليس بغريب عليه أن يتعصب لعقيدته ومذهبه ما دام يجد في هذا التعصب لذاته الروحية واطمئنانه النفسي، وما دام يرى العلي أصلح من غيرهم لرعاية دينه وعقيدته وأولى بالحكم من سواهم.

هذه النقطة الدقيقة في تاريخ هذا الشاعر جدن منها لمحة عابرة في كتاب (دعبل الخزاعي) لسماحة العلامة السيد محسن الأمين وهو كتيب صغير ألف في الأيام القريبة وطبع بدمشق.

وكنا نود أن تكون هذه النقطة موضع عناية المؤلف الجليل ولكنه لم يفعل ذلك جريا مع عادته في التأليف إذ أنه يعني بالترجمة وجمع ما تفرق من أخبار المترجم له وتتبع حياته الأدبية والمادية إذا كان للثانية صلة بالأولى دون إطالة في التحليل أو عمق في الدراسة، على أنه لا ينسى أن يمحص الأخبار التي ينقلها عن حياة الشاعر ويطرح الزائف منها وينقد المشكوك فيه ويقارن ويوازن وكثيرا ما يستنبط من الخبر الواحد فوائد كثيرة تدل على ميله إلى التحليل والتعمق، ولكنه ميل قليل بالنسبة لطريقته العامة التي أشرنا إليها والتي تتجلى لنا في هذا الكتيب الصغير الذي جمع فيه معظم ما تحدث به المؤرخون عن دعبل الخزاعي وعن مواقفه من الخلفاء وصلته بهم ومقدار ما ظفر به من إطراء وتنويه بشاعريته. ثم علاقته بآل علي ومدحه إياهم. وفي الكتاب منتخبات كثيرة من شعر دعبل في المديح وفي السياسة، وقصيدته التائبة المشهورة في آل البيت التي يمدحهم بها ويستعرض مصارع الشهداء منهم استعراضا حزين وغير ذلك من المقطوعات.

ولعل هذا الكتاب عمل ضئيل بالنسبة لما أنتجه سماحة السيد الأمين من كتب وموسوعات في الأدب والشعر إلى جنبه كتبه العلمية النافعة.

إبراهيم الوائلي

أجواء

تأليف الأستاذ حسن محمود

للأستاذ إبراهيم محمد نجا

كتاب صغير الحجم، قليل الثمن، ولكنه على صغر حجمه، وقلة ثمنه، يجمع بين القيمة الكاملة، والمتاع النفسي الوفير.

ومؤلف هذا الكتاب هو الأستاذ حسن محمود، وهو كاتب قصصي من طراز رفيع، يعمل للمجد الأدبي، دون أن يحفل بالشهرة الزائفة، ولذلك يعني كل العناية بجودة إنتاجه وإتقانه، لا يكثرته والإسراع فيه.

وهذا الكتاب يضم طائفة من الأقاصيص ذات أجواء مختلفة بعضها يمثل الحياة المصرية التي يعرفها الأستاذ عن خبرة وتجربة، وبعضها الآخر يمثل الحياة الأوربية التي ألم بها في رحلاته وأسفاره، وإن كانت هذه الأجواء المختلفة تتفق في أنها تصور النفس البشرية، في إطارها من الحياة الإنسانية العامة.

وكثيرون من كتاب القصة المصرية يهدفون في قصصهم إلى إثارة القارئ إثارة حسية، أما بالإكثار من وصف أجساد النساء، وإما بالاعتماد على الحوادث الضخمة المثيرة، وإن كانت في صميمها فارغة من المعاني والدلالات! ولكن هؤلاء لا يفهمون فن القصة، ولا يعرفون رسالتها الفنية، وإنما يعرفون ويفهمون شيئا واحدا هو اكتساب الشهرة الزائفة، بتملق غرائز الجماهير!

أما الأستاذ حسن محمود فإنه يعني في قصصه أول ما يعني، بإبراز الأثر الداخلي الذي تعكسه الحوادث الخارجية في نفوس شخصياته؛ فالحادثة عنده لا تقصد لذاتها، ولكن لأثرها النفسي، ومن ثم تكون الحادثة الصغيرة لها حظ كبير، لأنه يعرف كيف يستلهم منها المعاني الكبيرة، وكيف يستخرج منها الدلائل العميقة، وهذه هي المقدرة، وتلك هي البراعة. وشيء آخر يتصل بذلك، هو أن الأستاذ حين رسم شخصياته لا يعتمد في ذلك على الألفاظ وحدها يسرد بها أوصاف تلك الشخصيات سردا متتابعا، كما يفعل بعض كتاب القصة عندنا، ولكنه يوزع لمساته التصويرية على أجزاء القصة كلها؛ ليتسنى له استخدام الحوادث في الرسم والتصوير، فلا ينتهي من القصة حتى تكون شخصياتها قد استوفت حظها من دقة التصوير، وبلغت قسطها من قوة الحياة.

وقد قلنا أن الأستاذ حسن محمود لا يعتمد في إثارة قارئه على الحوادث الضخمة المثيرة؛ ونزيد هنا أن مادة قصصه لهذا السبب تمتاز في مجموعها بالبساطة والعمق؛ لأنه يتناول الحادثة البسيطة في مظهرها الخارجي، فيتعمقها بفكره وروحه وتجاربه، ثم يعرضها لنا، فنرى فيها ما لم نكن نرى، ونفهم عنها ما لم نكن نفهم، وهو من أولئك الملهمين الذين يلتقطون الفتات المتساقط من مائدة الحياة، فيحيلونه بفنهم أعظم غذاء للنفس الإنسانية في حياتها المثالية الرفيعة!

وأسلوب الأستاذ في قصصه، يلائم مادة هذه القصص كل الملائمة؛ فهو مثلها بسيط عميق، ينساب كالماء في رقة ودعة، لا من ضحولة مجراه، ولكن من طبيعة مسراه، فلا ترى فيه العبارات الطنانة، والكلمات الضخمة، وإنما هي كلمات طبيعية يؤلف بينها في حذق وبراعة، فإذا هي عميقة الدلالة، قوية الإيحاء، وافرة الأنغام والأصداء، والأضواء والظلال!

والأستاذ هادئ الشخصية، كما يبدو من خلال أسلوبه وطريقة عرضه لقصصه، هادئ حتى حين يريد أن يسخر من بعض الناس سخرية خفيفة مبطنة، فتراه يفعل ذلك في شيء اقرب إلى الحياء، وبصورة لبقة مهذبة قد تثير الضحك، ولكنها على كل حال لا تجرح الإحساس!

وهو هادئ أيضاً حي يلمس في قصصه أحزان الناس ومآسيهم، وليس ذلك من قلة تأثره بها، ولكن لأنه من أولئك الذين يحزنون في صمت، فيكون صمتهم ابلغ من كل كلام حزين! وصراخ الإنسان قد يثير الفضول أكثر مما يثير الرثاء والإشفاق، ولكن دمعة واحدة تذرفها عين محزون، في صمت وسكون، تهز النفوس، وتثير الدموع!

وهو حين يسجل الانفعالات النفسية لشخصية إنسانية، يحيطها بما يلائمها من الأجواء والمشاهد، فيكون ذلك منها بمنزلة الإطار من الصورة. يتجلى ذلك في قصته (نظرة إلى شاعر). ففي هذه القصة تراه يرصد الانفعالات النفسية كما تظهر في شخصية شاعر ركب معه القطار الذاهب من مدينة (بون) الألمانية، إلى (كوبلنز) ويسجل مع هذه الانفعالات المختلفة، ما يطرأ على مشاهد الطبيعة من تغير واختلاف، بحيث يجعل من ذلك كله وحدة متناسقة.

وهو ينتقل بشخصياته من جو إلى جو، ومن حال إلى حال، بعد أن تمهد لذلك تمهيدا مناسبا، بحيث يبدو هذا الانتقال طبيعيا ممكنا، لا أثر فيه للتكلف والاستحالة، وهو يقتصد في طريقة عرضه، بحيث يتجنب الحواشي والفضول، كما يقتصد في تعبيره بحيث يخلص في لباقة من الكلام المكرر المألوف إن لك يكن منه بد في موضع من مواضع القصة؛ ففي قصة (قسم) نرى حسينا يسير بعد الغروب في طريق مهجورة، ثم يتنبه فجأة لوقع أقدام تطأ القوام تسير مثله في هذه الطريق. . . فلو أن قصاصا آخر عرض لمثل هذا الموقف في قصة من قصصه، لاستغله كما يشاء، في كلام كثير، وحوار طويل الحس، وينبه الغرائز.

ولكن الأستاذ حسن محمود يكتفي في هذا الموضع بأن يقول:

ارتاحت نفس حين لمنظر هذه الفتاة، فسار إلى أن حاذاها عازما على بأية وسيلة، ولسنا نريد أن نقص كيف بدأ الحديث فإن حسينا لا يذكر كيف كان ذلك، ونحن لا نود أن نفضح سرهما، ولكننا نقول أننا رأيناهما يسيران جنبا إلى جنب، ثم كانا بعد نصف ساعة في سيارة تسير بهما سريعا إلى حيث مسكن الفتاة). وهذا غاية في حسن الإيجاز، وبراعة التخلص.

وللأستاذ حسن محمود ملاحظات صائبة، ينثرها في خلال قصصه وهي ملاحظات تنم عن تجارب كثيرة، وثقافة واسعة، وفهم عميق للحياة.

أما بعد، فقد حلقت في هذه الأجواء حينا من الزمن، فأتاح لي ذلك لذة روحية عميقة، ومتعة نفسية كاملة، فمن واجبي أن أوجه إلى صاحب هذه الأجواء، شكري الخالص لما أتاح لي، ومن واجبي كذلك أن أعبر له عن تقديري الصادق لمقدرته الفنية. وأنا أعلم أنه لن يرضى عما كتبته عنه، تواضعا منه وحياء؛ فقد عرفته جم التواضع، وافر الحياء. ولكن ما ذنبي أنا، وما كتبته هو الحق والحق ينبغي أن قال؟

إبراهيم محمد نجا