مجلة الرسالة/العدد 867/مسابقة الفلسفة لطلاب السنة التوجيهية (6)
→ حول (موازنة أدبية) | مجلة الرسالة - العدد 867 مسابقة الفلسفة لطلاب السنة التوجيهية (6) [[مؤلف:|]] |
الأدب والفن في أسبوع ← |
بتاريخ: 13 - 02 - 1950 |
(2) مناهج الأدلة لابن رشد
للأستاذ كمال دسوقي
هذا الكتاب لابن رشد لا ينفك عن سابقه الذي تعود الناشرون أن يربطوه به، وأعني به، فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال، وغرض هذه الرسالة الطريفة الممتعة - كما يتبين من عنوانها - التوفيق بين الفلسفة والدين توفيقاً من شأنه أن يضع حداً للشكوك والأوهام التي تساور المقبلين على دراسة الفلسفة المشفقين على عقيدتهم منها، وأنا أنصح بقراءة هذا النص القوي كل من هو في شك وارتياب، فإنه إن لم يقنع قارئه المتعقل بضرورة التفلسف شرعاً، ولا أقل من أن يهديه إلى أن لا تعارض بين الفلسفة والدين.
وسبيل ابن رشد في التوفيق بين الحكمة والشرع والمؤاخاة بين الفلسفة والدين أن يتقدم في وضوح وبحجة ناصعة ليقول إن الفلسفة هي علم النظر في الموجودات من حيث دلالتها على موجدها، ولما كان طبيعياً أنه كلما زادت المعرفة بالصنعة زاد العلم بالصانع، أي أنه كلما قوي العقل على الاعتبار الذي حث عليه الدين والقرآن - وهو في الفلسفة القياس والاستنباط - أمكن أن يصل إلى حقيقة الخالق، وأن الشرع قد حثنا على معرفة الله فكأنه يحثنا على الفلسفة والنطق وعلوم العقل التي من شأنها أن تؤهلنا للوصول إلى الحق، خصوصاً إذا سلمنا بأن ما جاء به الدين حق، وأن الفلسفة هي الأخرى تنشد الحق، لم يبق إذن تعارض بينهما - لأن الحق واحد، وحتى لو تعدد لم يتعارض بل يتأيد ويتوافق، وبقى على ابن رشد بعد هذا أن يقرر أن ما يطرأ على بعض من يتعاطون الفلسفة ليس من ذنبها، وهو يلحقها بالعرض لا بالذات، كمن شرب الماء العذب فيشرق فيموت، وغاية ما في الأمر أن مباحث الفلسفة يجب أن يلجم عنها العوام كما قال الغزالي من قبل وإن لم ينجح في ذلك في نظر ابن رشد، وأن يقتصر تعاطيها على الخاصة حتى لا نزيع العامة وتضل. والشريعة إذن قسمان: ظاهر يجب ألا يتجاوزه العوام وأن يؤمنوا به، ومؤول هو فرض على العلماء والخاصة.
وهذه نقطة البدء ف الكتاب الذي تدرسونه، وابن رشد يذكر بعدها بوضوح أن غرضه فيه (أن يفحص عن الظاهر من العقائد التي قصد الشرع حمل الجمهور عليها متحرياً في ذلك قصد الشارع قدر الجهد والاستطاعة). وسترونه مخلصاً لهذه الخطة التي رسمها، أميناً على أن يجعل من نفسه الفيلسوف الذي يتصدى لأخص مسائل الدين دون أن يتعارض معه؛ حتى ليأخذ في كثير من الأحيان على أئمة الدين كالغزالي إقحام العامة في الفلسفة، مدعياً دائماً أنه على طريقته هو التي يشرحها يجب أن يكون تقديم أمور الدين للجمهور، ومخطئاً في أغلب الأحيان كافة الفرق الدينية التي حصرها منذ البدء في أربع: المعتزلة والأشعرية والباطنية ثم الحشوية؛ وإن كان لا يأتي بآراء هؤلاء جميعاً في كل مسألة مما عرض له - ربما لأنه لم يكن لها كلها آراء واضحة في كل المسائل، أو أنه هو لم يقف على كل هذه الآراء لأنها لم تصل إليه كما اعترف غير مرة.
ولا بد لكم من الرجوع إلى بعض مصادر الفلسفة الإسلامية أو معاجمها أو دوائر معارفها لتعرف نشأة هذه الفرق التي ذكرها ابن رشد وتميزها عن بعضها البعض والوقوف على أشهر علمائها وآرائهم. ومن حسن حظكم أن مؤلفنا لم يذكر إلا هذا العدد الضئيل من الفرق الإسلامية. وهذه أشهرها وأظهرها - وإلا فإن هذه الفرق تقدر عند الغزالي بثلاث وسبعين، وعند غيره بأكثر من ذلك. وقد ألفت في هذه المذاهب كتب جامعة شتى لا تحصر، أهمها: كتاب الملل والنحل للشهرستاني، ومقالات الإسلاميين للأشعري، والفرق بين الفرق للبغدادي - عدا الكتب الخاصة بكل فرقة ومذهب، ولكن يفيدكم فيها الرجوع إلى كتاب حديث كفجر الإسلام للأستاذ الدكتور أحمد أمين بك كما يتحتم عليكم الإلمام بتوسع أكبر بما ورد ذكره من الآراء لكل من هذه المدارس في كتاب ابن رشد.
أما موضوعات كتابنا فتبدأ (بتعريف ما قصد الشارع أن يعتقده الجمهور في الله) أولاً من حيث طريقة إثبات وجوده (ص 31 - 94) فبيان وحدانيته (49 - 53) فالقول في صفاته السبعة الثبوتية: العلم والحياة والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام (53 - 60) فمحاولة تنزيهه وتقديسه والترفع به عن الشبيه والجسمية والجهة والرؤية (60 - 80) وأخيراً الخمس المسائل التي يسميها معرفة الأفعال وهي: خلق العالم، وبعث الرسل، والقضاء والقدر، والتجوير والتعديل، والمعاد أو الحياة الآخرة، وفكرة الكتاب إذن - على ما في طريقة عرضها من خلط حيناً وقصور أحياناً، واستطراد أو شطط أحياناً أخرى - تتلخص في محاولة نصرة الدين بالفلسفة، ومناقصة أمور ما تسميه الأديان علم التوحيد أو العقائد بالنظر أولاً في إثبات وجود الله فوحدته فبقية صفاته الثبوتية التي تنسب له صفات، والسلبية التي تنزهه عما يقابل هذه الصفات (وعددها عند أهل السنة عشرون لا مجرد السبعة التي ذكرها ابن رشد)؛ وأخيراً النظر في الأفعال الإلهية ومحاولة تأويلها وتأييدها على ضوء العقل. ومهمة ابن رشد هذه التي اضطلع بها على وجه لا بأس به من الجودة ليست بدعاً من الفلسفة؛ فكم من فيلسوف مسيحي قبله أو يهودي بعده يتصدى لمظاهرة الدين بالفلسفة، أو قل لنصرة الدين على حساب الفلسفة. ولكم أنتم أن تحكموا على مدى نجاح هذه المحاولات في كل الأديان، فإن لي في ذلك رأياً أحتفظ به أن يصادر حريتكم فيما يجب أن تنتهوا إليه بأنفسكم.
ويبدأ ابن رشد بتسفيه رأي الحشوية فيما ذهبوا إليه من ضرورة الأيمان بوجود الله إيماناً أعمى أساسه السمع والطاعة، والاكتفاء بالنقل ونصوص الدين دون أي تفكير من جانب العقل، فإننا إذا تأملنا القرآن ذاته وجدناه يحثنا بين حين وآخر على التأمل والتدبر والاعتبار، ولا وجه لمعترض أن يقول أنه لو كان الإيمان بوجود الله لا يصح إلا بالدليل العقلي لكان على النبي وهو يعرف العقيدة أن يقيم على ذلك الدليل، لأن العرب حتى في جاهليتهم يؤمنون بوجود إله، فلا حاجة به إلى أن يقيم الدليل على شيء مسلم به كمن يستجمع قوته ليدفع باباً مفتوحاً على حد تشبيه الغزالي نفسه، أو أن يتصدى للبرهنة على بديهية بينة بنفسها قد لا يزيدها البرهان إلا تعقيداً وغموضاً خصوصاً عند البسطاء والسذج، وهم الجمهور الذي خاطبه الشارع فهذا موقف الحشوية الجامدة الغريب.
أما الأشعرية فكانوا أسعد حظاً ولكن أكثر تطرفاً في الفلسفة مما ينبغي، فقد اعتنقوا نظرية الجوهر الفرد وأقحموها في إثبات وجود الله - وابن رشد يتصدى لبيان أن مسلكهم هذا ليس هو أيضاً ما يقصد الشرع وأنه فضلاً عن تعقيده يعسر فهمه على الراضيين فضلا عن الجمهور، فإن صح ما يقولون من أن العالم محدث لكونه مركباً من ذرات محدثة، فإن للعالم لا بد فاعلاً لا نستطيع أن نقول أنه محدث أيضاً (لأنه يلزمه فاعل أقدم، وهذا يلزمه فاعل آخر اكثر قدماً وهكذا إلى غير نهاية - وهو محال) أو نقول أنه أزلي قديم (لأنهم بهذا يناقضون مبدأهم القائل بأن المقارن للحوادث حادث مثلها، فلا يصدر عن القديم إلا القديم، ولا عن الحادث إلا الحادث وحتى لو تخلو عن هذا المبدأ للزمهم أن يبينوا لنا كيف صدر الفعل الحديث عن فاعل قديم، وأية علة صيرته أولى بأن يفعل الآن فنه منذ الأزل).
سيقولون إن فعل الخلق مع أنه حادث فقد صدر بإرادة قديمة؛ وهذا التهرب بالتمييز بين إرادة الخلق وفعل الخلق سواء قدموا الإرادة على الفعل أو جعلوها مصاحبة له لا تغير من طبيعة الإشكال شيئاً. . . فعلى إمكانياتهما الثلاث (قدم الإرادة والفعل، أو حدوتهما معاً، أو قدم هذه وحدوث ذاك) يجب أن يفهموا أن الإرادة شرط الفعل لا الفعل، وأنها شيء آخر غير الفعل والفاعل والمفعول، وأنها إن كانت أقدم من الفعل لم تستطع أن تفعله بلا واسطة فضلاً عن أنها يجب ألا تظل متعلقة به دهراً لا نهاية له لكي يحدث الفعل بعد انقضائه إن كان لما لا نهاية له أن ينقضي خصوصاً وأن الإرادة يجب أن يطرأ عليها في وقت إيجاد المراد عزم على التنفيذ هو الذي يدفع إلى حدوث الفعل - إلى آخر ذلك مما يضل فيه العلماء فكيف بالجمهور؟ وابن رشد يستطرد ليبين مجافاة هذه الأدلة لذوق الجمهور وعقل الخاصة من العلماء بأن يحصر مسالكهم كلها في طريقين يناقشهما بالتفصيل، وينتهي في كليهما من إبطال المقدمات إلى إبطال النتائج، ثم يقرر أخيراً أن طريقة الأشعرية في إثبات وجود الله لا هي شرعية حقه ولا هي فلسفية حقه، وأنه ينقصها يقين الأدلة الشرعية وبساطتها.
ويعرض ابن رشد بعد هذا إلى طرق الصوفية في هذا الصدد. فيفرر في فقرة قصيرة أن معرفة الله نور يقذفه الله في قلب من استطاع أن يتجرد من عوارض الشهوة ودنس الحس - وهم يحتجون لذلك بنصوص دينية ويذهبون إلى كثير من الرياضات الروحية تحقيقاً لغايتهم.
ويرى ابن رشد أن هذه الطريقة مهما يكن من صحتها وضرورة تحقيق التجرد من الشهوة فعلا كشرط لصحة النظر والمعرفة؛ إلا أنها لا يمكن أن تكون عامة لكل الناس، وليست على أي حال ما يقصده الشرع بحث الجمهور على النظر والاعتبار والتأمل. أما المعتزلة فيعترف ابن رشد أنه لم يصله من كتبهم شيء ويرجح أن تشبه أدلتهم أدلة الأشعرية. وهذا عجيب من الفيلسوف ومأخذ لا يغتفر - أن يرجم بالظن في موضع كان يجب أن يلتمس فيه مذهب مدرسة حرة كالمعتزلة، فهؤلاء ليسوا كالأشعرية موفقين - أو ملفقين - بين مختلف الآراء على حساب بعضها البعض من غير شك؛ بل كانوا أصحاب نظر عقلي حر. ولكن لنلتمس له العذر.
وبعد إذ أبطل ابن رشد كافة أدلة هذه الفرق الأربع - شرع يذكر الطريقة الشرعية التي يقول إن القرآن قد نبه عليها ودعا إلى تعرف وجود الله عن طريقها. وهو يحصرها في دليلين: ما يسميه دليل العناية ودليل الاختراع - الأول يراد به أن من عناية الله بالإنسان خلق هذه الموجودات من أجله، والثاني مؤداه أن ما نرى من عنصر الإبداع في هذه الموجودات إنما هو من فعل. فاعل قادر مريد له في ذلك حمته وليس من عمل الصدفة أو الاتفاق وعند ابن رشد أنه لكي تتم المعرفة بالله يجب أن يجتمع لها الفحص عن منافع الموجودات كالشمس والقمر والفصول والليل والنهار والنبات والحيوان التي خلقت رحمة بالإنسان والوقوف على الاختراع الحقيقي في جميع هذه الموجودات للفصول من فهم المصنوع إلى فهم الصانع. هذان عنده عما دليلا الشرع - وحتى آيات القرآن لا تخرج في دلالتها عن أن تنبه على دليل العناية أو دليل الاختراع أو هما معاً. وأحب أن تفهموا أن هذين الدليلين: هما المحور الذي لا تخرج أية فلسفة عن الإتيان بواحد من شعبيته إما أن المستدل من وجود الأشياء على وجود الله (أي دليل الاختراع) أو تنتقل من الله إلى بيان موجوداته التي تعد حينئذ فيضاً منه ورحمة صادرة عنه بمحص جوده وكرمه. والدليل الأهم هو الأول ويسمى عند فلاسفة المسيحيين بالحجة الوجودية - وإن كانت الطريقة التي عرض بها ابن رشد هذا الدليل هنا تجعلنا نخشى - كما نبه الغزالي - أن يؤدي العلم بدقائق الاختراع وعنصر الحياة في الكائنات إلى الشك في وجود خالقها والارتداد عنها إلى الإيمان بالمادية وإنكار وجود الله عند ذوي الطبائع الفاسدة كما يؤدي إلى الهدي وزيادة الإيمان عند ذو الفطر السليمة.
وأما طريقة ابن رشد في إثبات وحدانية الله فهي الطريقة السليمة التي استفادها مما في الشهادة الأولى (لا إله إلا الله) من إثبات الوحدانية بهذا النفي للشريك - وهو يعمد إلى الآيات التي تناولت هذا الموضوع فيحللها ويؤول تفسيراتها -
ولابد لكم أن تحفظوا هذه الآيات جيداً وتعرفوا أرقامها من السور القرآنية وتلموا بتفسيرها في حدود ما يلزمكم - فهي في كثير من المواضع حجة ابن رشد الرئيسية؛ لا تستطيعون عرض رأيه قبل أن تحيطوا بها علماً)، ويبين أن الفرق بين العامة وخاصة العلماء في الإيمان بالوحدانية ما يجب على العلماء أن يزيدوا من العلم بارتباط أجزاء العالم كجسد واحد، ثم يعرض لنقض دليل الممانعة عند الأشعريين لأنه لا يجري مجرى الشرع أو الطبع بمعنى أن الجمهور لا يفهمه، وأنه ليس برهانا حتى لو فرضنا أن الإلهين في هذا الدليل يتفقان بدلاً من أن يختلفا، أو جعلنا أحدهما يفعل بعضاً والآخر بعضاً آخر، أو جعلناهما يفعلان بالتداول. ويقرر أن الأشعرية لم يفهموا مضمون آية (ولعلا بعضهم على بعض) بأخذها على الاختلاف بدلاً من الاتفاق في الأفعال، وباستعمال القياس الشرطي المنفصل بدلاً من المتصل، مما أدى بهم إلى محاولات كثيرة بدلاً من محال واحد. وينتهي أخيراً إلى أن من نظر إلى كلمة التوحيد (الشهادة بالوحدانية) على النحو الذي بينه فهو المسلم الحقيقي.
ولا يخفى عليكم ما في جدل ابن رشد من تحامل على غيره واعتساف وعناد، خصوصاً في المسألة الأخيرة مع ما في دليل الممانعة من وجاهة ظاهرة، ولكنه - على ما يبدو من قلة ما وصل إليه من آراء المتكلمين - يقحم هذا الدليل يحاول تطبيقه على آية لم يقصد هؤلاء أن يكون دليلهم تفسيراً لها. وإحلاله مسألة اتفاق الآلهة بدلاً من اختلافهم في الآية المذكورة جدل مغالطي لا يحتمله المعنى. فروا في هذا الأمر رأيكم، واحكموا عليه بما ترون دون أن تتقبلوا آراءه بالتسليم والرضى.
وسنأتي في المقال التالي على ما بقي من موضوعات الكتاب.
كمال دسوقي