الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 865/مسابقة الفلسفة لطلاب السنة التوجيهية (4)

مجلة الرسالة/العدد 865/مسابقة الفلسفة لطلاب السنة التوجيهية (4)

مجلة الرسالة - العدد 865
مسابقة الفلسفة لطلاب السنة التوجيهية (4)
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 30 - 01 - 1950


غاية الأخلاق عند أرسطو

للأستاذ كمال دسوقي

ويعود أرسطو منذ مطلع الباب الرابع إلى ما كان بسبيله قبل نقد المثل الأفلاطونية، فبعد الهدم البناء، وبعد التجريح التصحيح، وهنا يعود أرسطو إيجابياً كما كان، فيقرر ما سبق أن أنتهي إليه في الفصلين الأولين من أن لكل فن خيره الخاص وفقاً لغايته التي يرمي إليها بكل وسائله، وأن الخير الأعلى هو ما كان أكثرها كمالا ونهائية. . . أي الذي يبحث عنه لذاته لا لأجل خير آخر، وهو. . . في كلمة واحدة - السعادة. . . فإن كافة الخيرات الجزئية كالعلم والفضيلة واللذة والشرف لا ينبغي إلا من أجلها، كما أن السعادة لا تكون إلا بواحدة أو أكثر من هذه خصوصاً وقد بينا أن الإنسان حيوان اجتماعي لا يعيش منعزلاً، ولا يحيا لنفسه بقدر ما يحيا لأسرته وأصدقائه ومواطنيه؛ فسعادته لا تنفك عن الارتباط بسعادة هؤلاء جميعاً. والسعادة إلى جانب كونها غاية قصوى تطلب لذاتها، وتطلب الخيرات الأخرى لأجلها، هي كافية بذاتها بمعنى أنها تقوم بذاتها كغاية لا تحتاج إلى ما يحببنا فيها، بل لأجلها بالأحرى تحب الخيرات الأخرى. وهذا ما يعنيه بالاستقلال (ف 7، 8).

وها قد نأدي بنا أرسطو إلى تحديد ماهية السعادة بالمعنى الفلسفي، إنها تحقيق العمل الخاص بالإنسان، لا بما هو ذو وظيفة اجتماعية يكسب منها، فإن إمكان تغييرها ومزاولة غيرها تجعل الوظيفة غير ذاتية ومشخصة له، ولا بما هو كائن حي تام أو غاد، فتلك خصائص النبات أيضاً، أو حساس ومنحرك بالإرادة مادام أن هذه الصفات يشترك معه فيها الحيوان. بقي أن تكون خاصة الإنسان المميزة هي حياة العقل وفاعلية الفكر، وأن تكون وظيفته الخاصة به. . . بما هو إنسان هي فعل النفس المطابق للعقل؛ العقل الصادر عن طبيعة وملكة وسجية لا عن محض صدفة؛ والذي هو نتيجة مران واستمرار للمزاولة المنتظمة للفعل بما يؤدي إلى حسن الأداء؛ فإن الخير أو الفضيلة عند أرسطو يريدها أن تكون ثابتة راسخة وصادرة عن ذات الكائن بسهولة ويسر لا تكلف فيه ولا تعمل. . . حتى تكون فضيلة حقاً لا مجرد عمل فاضل أوحد.

ويفيدكم هنا كثيراً الرجوع إلى تقسيم أرسطو للنفس إلى نباتية وحيوانية ثم عاقلة ووظائف كل منها (في المراجع العربية التي سبق أن أشرت إليها). كما يفيدكم جداً بل من الضروري جداً - مقارنة نظرية السعادة عند أرسطو بالنظريات الأخلاقية الأخرى خصوصاً نظرية الواجب لكانت الفيلسوف الألماني (وقد أتى المترجم الفرنسي لأخلاق أرسطو على طرف منها)، وكذلك نظريات فلاسفة الإنجليز المحدثين في كتاب المدخل إلى الفلسفة المترجم إلى العربية والمقرر في الامتحان الشفوي (في باب النظريات الأخلاقية)

وكأن أرسطو لا يقنع بهذا التخطيط الذي وضعه للسعادة؛ فهو يصفه بالنقص، ويعتذر عن نقصه بأن الكمال لا سبيل إليه؛ وأن الزمان كفيل بالعمل على إكمال وجوه النقص التي تعتري الشيء بعد اكتشافه. وهنا إيمان قوي من جانب الفيلسوف بعنصر الزمان كعامل على التطور والتقدم. وأساس الروح العلمي أن نعتقد أن ما انتهيت إليه لابد أن ينير منه بإكمال نقصه أو ربما بإظهار خطئه وإدحاضه، وأنه ليس بعد فصل الخطاب أو نهاية المطاف.

ويعود ارسطو مرة أخرى فيحشد للتدليل على صحة نظريته في الخير والسعادة أدلة مستقاة من الواقع الحي، لأن الحقائق الواقعية عنده هي في اتفاق مع التعريف الصحيح (ب6ف1) فيكرر القسمة الثلاثية للخير التي سبق أن قال بها (ب2ف10) يجعل خير النفس من هذه الخيرات كلها في القمة، ما دام أنه مطابق للرأي الذي أجمع عليه الفلاسفة السابقون عليه ومنهم أفلاطون (ف2) ومطابق كذلك للمبدأ المعروف لدى اليونان من أن فضيلة الشيء إنما تكون في تحقيق وظيفته التي من أجلها وجد كالإبصار للعين، والبتر للسيف. . . الخ (ف3) ومطابق في المقام الثالث لما يرى الناس من أن السعادة الحقة هي في حسن السيرة وفلاح المرء (ف4) والنتيجة إذن أن ما قال به أرسطو كحد للسعادة يشمل كل وجهات النظر فيها سواء اقترنت بشيء من اللذة والخيرات الأخرى الضرورية كما يرى البعض أو خلت منها (ف5) وسيأخذ بها حتما أولئك الذين يرون أن السعادة هي الفضيلة، أو فاعلية النفس بما يطابق الفضيلة (ف7) كما سبق أن قرر (ب4ف14)

ثم إن أرسطو يردد رغبته الملحة في ألا يكون الخبر الأعلى محدوداً أو مشروطاً بظروف خاصة أو يكون ملكة سلبية معطلة قابلة غير فاعلة بل يريد، أن يكون فعلاً، وفعلاً حسناً صادراً عن روح طيب وطبيعة حيرة وسجية فاضلة (ف8) وعنده أن مقياس الحسن في الأشياء والأفعال أن تكون محبوبة خصوصاً لدى الذين يألفونها ويحسنون تقديرها (ف9)، فإذا لم يجمع هؤلاء على الإعجاب بها ومحبتها أو اختلفوا حولها لم نكن خيرات حقة، بل كانت أشبه بخيرات العامة من الناس الجزئية المتباينة التي ترضي هوى كل على حدة، أما الخيرات الكلية العامة فهي إلى جانب كونها مطلقة من كل هوى ومشتركة بين الأخبار جميعاً تحمل في طيها لذتها وقيمتها، واللذات الأخرى ملحقة بها وثانوية بالنسبة إليها. فليس أجمل ولا أكمل ولا ألذ في نظر الرجل الفاضل من أن يأتي الأعمال الفاضلة ويرى الآخرين يفعلونها أيضاً. وهذا شر إصرار أرسطو على جعل الفضيلة ملكة راسخة ثابتة في نفس أصحابها يصدرون عنها في كل ما يفعلون أو يتذوقون من أفعال غيرهم، وإن كان لا يعدم في نهاية الأمر (ف14. . . 16) أن يقيم وزناً ثانوياً للخيرات الخارجية كجمال الخلقة وشرف الأسرة والثراء والأصدقاء، يحسبانها للسعادة يؤدي الحرمان منها كلها أو بعضها لا فساد الحياة السعيدة وتعكير صفوها

وقد يحث أفلاطون ومن قبله سقراط فيما إذا كانت سعادة الإنسان وفضيلته يمكن أن تكتسب بالتعلم والمران أو أنها فطرية موروثة يهبها الإله، ويرقب أرسطو بأن يكون مرجع السعادة إلى النوع الثاني لتصبح أقدس ما يكون في حياتنا، وان كانت لتبدو نتيجة ألا تتمادى في تقديس السعادة إلى الحد الذي ننسى معه أنها ممكنة المثال لكل منا بقليل من العناية والدرية. . . حتى لا تسلم بأنها من عمل الصدفة والاتفاق أو خصوصاً وقد عرف السعادة من قبل بأنها فاعلية النفس بما يطابق الفضيلة، وهل الغرض من السياسة أن تقوم على تكوين نفوس المواطنين تكويناً يؤدي بهم إلى السعادة - وان الفاعلية عنده لتقترن بالسعادة اقتراناً لا نستطيع معه أن نقول عن الحيوان أو الطفل أنه سعيد لخلوهما بعد من هذه الفاعلية، وشرطها السعادة إذن هما تمام الفضيلة وكمال الحياة، ولا يعني أرسطو بكمال الحياة انتظار الموت للحكم بالسعادة كما يقول الشعراء، أو الخوف والإشفاق من تقلبات الدهر وآلام الشيخوخة وحظوظ الأبناء والأحفاد - فان من هذه ما يدوم حتى بعد الموت، ولو أقمنا لها وزناً في الحياة لوجب أن تكون كذلك بعد الممات (ب7ف14) كما أنه من الحمق عنده أن تقول عن الشخص بعد موته، لقد كان فلان سعيداً، ولا نملك أن تقول عنه أثناء حياته: أنه سعيد، مخافة أن تتبدل بد الحال بعد، وخشية أن يظن بالسعادة أنها شيء ثابت لا يتغير، وأن حظوظ الناس من السعادة قلب لا نستقر (ب8ف2) وأصحابها مهددون بزوالها بما لا يستطيعون دفعه أو رده من القضاء (ف3) - إنما يريد ارسطو أن يكون للأفعال الفاضلة وحدها الحكم بالسعادة (ف4) ما دامت هي أكثر الأشياء الإنسانية ثباتاً وبقاء، وأنها بالتالي أشعرها إعلاء لقدر أصحابها وهم المحظوظون الحقيقيون - الذين يتحملون بعد إذ تحلوا بها صروف العصر وأحداث الزمان بما يليق بهم من التسليم والرضا مع الكرامة والأباء، بل إن هذه الأحداث مهما حلت؛ أو المصائب مهما عظمت، لن تزيد الفضيلة إلا بهاء وجلاء. . . إذ هي محك النفس العالية الكبيرة (ف7) والرجل الحكيم هو الذي يواجه تقلبات الدهر دون أن يفقد شيئاً من كرامته، بل يستفيد بها في إسعاد نفسه رغم ما فيها من شقاء (8، 9) بمعنى أن يسير على مقتضى الفضيلة الكاملة في حدود الخيرات الخارجية للازمة (10 - 11)

ولا يستطيع أرسطو أن يدع مسألة منغصات الحياة المتعلقة بالخلف دون أن يعود إلى توكيد أهميتها في فصل خاص بها فيقرر أنه إذا كان ما يحدث بنا يمسنا مساً خفيفاً أو عنيفاً؛ فطبيعي أن يكون ذلك صحيحاً بالنسبة لمن نحب - إلا أنه كما يوجد فرق بين المآسي الواقعية والقصص الدرامية الخيالية؛ كذلك يكون إحساسناً بالمصائب أقوى في الحياة منه بعد الموت. وإذا صح أن يكون للموتى إحساس بما يجد أبناؤهم من سعادة أو شقاء فلا بد أن يكون الإحساس ضعيفاً في ذاته أو بالنسبة لهم - وعلى أي حال لا يستطيع أن يغير من سعادة الموتى أنفسهم أو شقائهم. فذلك ما يجب أن يكون لهذه المصائب من اثر علينا في حياتنا.

بعد هذا يبحث أرسطو فيما إذا كانت السعادة جديرة بالمدح والثناء أو الإعجاب والاحترام، فيرى أن الممدوح لا يُمدح لذاته بل لشيء آخر يتصف به أولى بالتقدير والحمد؛ حتى لو كان هذا الحمد موجهاً للآلهة لما يقوم حينئذ من العلاقة بينهم وبين الذي يمدحونهم أو الأشياء التي يُمدحون من أجلها، فما هو كامل بذاته ولا علاقة له بغيره لا يمدح بل يكون موضع إعجاب وتقديس. وعلى هذا فمن الممكن أن نمدح الفضيلة لأنها تعلم فعل الخير، أما السعادة فنحترمها ونقدرها في ذاتها لأنها مبدأ كامل وغرض أسمي لكل ما نعمل؛ وما كان كذلك وجب احترامه وتقديسه.

وفي الفصل الختامي من الكتاب الأول يمهد أرسطو لدراسة الفضيلة التي هي موضوع الكتاب الثاني كله. فمقتضى تعريفه للسعادة بوصفها فاعلية النفس بما يطابق الفضيلة يحتم عليه دراسة هذه الفضيلة. والفضيلة هي ما يجب أن يشتغل به رجل الدولة (السياسي) الحقيقي يجعل الناس فضلاء. تذكرون هنا ما سبق لأرسطو منذ الفصل الأول من ربط بين الأخلاق والسياسة، ولكم ألا تُقروه هنا على جعل مهمة السياسيين تعليم الناس الفضيلة بما لهم من سلطة القانون. على أن أرسطو حين يدرس الفضيلة الإنسانية (11ف5) وفضيلة النفس بالذات التي يجب على السياسي في نظره أن يُلمَّ بمعرفتها كما يتخصص كل امرئ في ميدان عمله (ف7).

وفي بقية هذا الفصل يعرض أرسطو إلى تقسيمه الثلاثي للنفس الإنسانية إلى نباتية وحيوانية وعاقلة كما وردت في كتابه (في النفس) ' ولما كان التقسيم الأفلاطوني لملكات النفس إلى شهوية وعضيية وعقلة. وتشبيهه لها بالعربة ذات الجوادين (الشهوة والإرادة) يقودها (العقل) لا ينحرف بها أحد الخيل إلى يمين أو شمال (في محاور فيدروس الجمهورية وغيرهما). . . لما كان هذا التقسيم الأفلاطوني أدنى إلى بيان مهمة الأخلاق وضرورة تغليب العقل على الإرادة والشهوة - فإن أرسطو - يخلطه بتقسيمه خلطاً بيناً. ولن يعسر عليك أن تدرس النظريتين في مصادرهما وفي بعض الكتب التي عرضت لهما، ثم أن تجمع بينهما لكي تقف على فكرة أرسطو.

ولا غنى لك - وقد فزعت من الكتاب الأول - أن تكمل معرفتك بنظرية الخير والسعادة الأرسطية بتصفح الكتاب الثاني في الفضيلة كما براها أرسطو، وبقراءة الكتاب العاشر والأخير من المجلد الثاني للوقوف على فكرة السعادة كما يجب أن يفهمها الفيلسوف.

كمال دسوقي