مجلة الرسالة/العدد 862/جان دارك
→ الحرية في المذهب الوجودي | مجلة الرسالة - العدد 862 جان دارك [[مؤلف:|]] |
الشعر المصري في مائة عام ← |
بتاريخ: 09 - 01 - 1950 |
(1412 - 1431)
سيظل اسم جان دارك مقروناً بالإعجاب والدهشة إلى الأبد، لأن هذه الفتاة البسيطة أنفذت في حياتها القصيرة عملاً جليلاً يعد من معجزات الدهر. وهي بذاتها وحدة من عناصر العظمة، وقائدة حيث نسي معنى القيادة، وإلهام في جيل إنعدم فيه الإيمان، ومنقذة لبلادها من وهدت الضياع.
وجان دارك رمز خالد للمحاربين الفرنسيين الذين عملوا معها على خلاص بلادهم من يد الأنجليز، وهي للفرنسيين الوطن الذي له يحيون ومن أجله يموتون، وهي في نظر الإنجليز ليست أقل من ذلك. ويقترن الاحترام المطبوع في نفس كل إنسان لجان دارك بالعار الذي لطخ الإنجليز به التاريخ بإحراق هذه الشهيدة القديسة ولا سيما إذا علمنا أن سبب إعدامها هو تخليص وطنها. ولتعجب عندما تعلم أن تسليمها إلى يد معذبيها كان بواسطة مواطنيها من أجل ثلاثين قطعة فضية بيعت بها.
وتتلخص قصة هذه البطلة في أن فرنسا كانت تحت حكم الإنجليز، وكان الملك في عهدها معتوهاً يطلق عليه الفرنسيون (ملك البورج) تهكماً وسخرية؛ لأن منطقة البورج هي كل ما بقيت له مما ورثه عن آبائه العظام. وكان حال الأمن في فرنسا على أسوأ ما يكون. فإلى جانب اعتداء جيش الاحتلال كان نهب قطاع الطرق وسلب اللصوص. وتعطلت الأعمال في نصف الأراضي الفرنسية بما عليها من كنائس جميلة البناء وقرى مستقرة بزرعها وصناعاتها بينما كان ولي العهد محاطاً ببطانته السيئة يحيا حياة فراغ وكسل وإهمال.
ومن هذه الصورة التي رسمتها لك قامت لنجدة فرنسا فتاة قروية لا شأن لها إلا رعاية أغنام أبيها وقطعانه، أو تطريز أقمشة للكنيسة بمساعدة أمها. وكان قلبها ملآن بالورع والتقوى تتخيل وهي أمام القداس أنها ترى الضوء المعكوس على زجاج نوافذ كنيسة دومرمي كأنه نصر مزدهر للأيمان والوحي اللذين لم تستطع أن تفهم كنههما بأكثر من أنهما هبة من الله القدير. وكانت عذراء دومرمي تستمع إلى قصص الحرب وأهوالها في أبناء وطنها وسلب أراضي بلادها، وقوى أثر هذه القصص في نفسها فملأها قوة وحماسة. وتحول إيمانها الذي أكسبتها الكنيسة إياه إلى ما يشبه الوحي المنزل عليها من السماء.
وتخيلت أنها ترى قديسون يزهون في لباسهم الأبيض الناصع ينادونها أن خلصي فرنسا، بل لقد أفزعتها يوماً أصوات تحدثها وهي منفردة في حديقة دارها (يا ابنة الله، إلى الأمام وأنا معك). أنصتت لهذه الأصوات وهي مأخوذة خائفة، وأصبحت تحيا في عالمين أحدهما بيئتها والثاني السماء والقديسون والملائكة. واعتقدت أن الله يوحي إليها. وهكذا رسخت هذه العقيدة في نفسها إلى آخر يوم في حياتها.
ومن هذا الأيمان الغامض الذي لا يمكن تفسيره بانت معجزتها. ولسنا إزاء الحقائق التي حصلت على يدها بقادرين على إنكارها، فإنها قلبت التاريخ رأساً على عقب. ولم تبلغ هذه العذراء سوى ستة عشر سنة عندما نهضت لخلاص فرنسا وتثبيت عرش ملك مزعزع وطرد الإنجليز ومنح بلادها روحاً جديدة جعلتها بين مصاف الدول الكبرى. وبدأت مخاطراتها العظيمة مسلحة بالأيمان بالله، ولم يستطع أحد إرجاعها عن عزمها بل لم يجد غضب أبيها ولا إغراؤها ولا السخرية منها بل ولا حرمان الكنيسة شيئاً لردعها عن تصميمها، وصرح لها أبوها بأنه يفضل إغراقها في نهر الميز على أن يراها تعتلي صهوة جواد بجانب الجند. وعندما قابلت حاكم المدينة وطلبت إليه تقديمها إلى ولي العهد لتبليغه رسالتها طردها مشيعاً إياها بالسخرية، وعندما اجتمع الحاكم بعمها وقسيس الكنيسة تداولوا في شأنها فلم يسع القديس إلا أن يطلب إلى الله أن يبعد عنها الأرواح الشريرة.
ولكن لله حكمة: يختار أبسط الأشياء ليحير به الألباب. وفي النهاية تم النصر لجان إزاء إصرارها، فإن حاكم فاكولير أرسلها مع جنديين إلى البلاط في شبنومرتدية ملابس الفرسان، وسافرت مع رفيقيها أحد عشر يوماً في طريق غير مأمونة، فكانوا ينامون النهار ويسيرون الليل اجتناباً لمصادمة الفرق الإنجليزية الجوالة، ويخوضون الأنهار حتى لا يدخلوا المدن. وكانت تتمتم وهي سائرة (مهد الله السبيل إلي فإني خلقت لهذا) حتى بلغوا البلاط حيث كان يقضي الملك شارل السابع أيامه وسط المهرجين والمنافقين.
وكانت جان ترى أن الملك الطيب هو الذي يكرس حياته لأسعاد بلاده ومع ذلك أرادت أن تثبت عرش شارل السابع وهو مجرد من كل فضيلة لأن تثبيته تثبيت للملكية وهي أساس نظام الحكم في فرنسا.
أرادت أن يخلص أمر فرنسا ليد ولي العهد ليسير بها إلى المجد عن طريق جديدة غير التي سلكها أبوه، وأن يبدأ هذه الطريق بتتويجه ملكاً أمام جميع الفرنسيين - وبعد انتظار يومين مثلت بين يديه. ومما لاشك فيه أن هذه المقابلة كانت مثاراً للغرابة والتسلية. وسارت العذراء القروية التي كانت تجهل كل من قابلتهم في البلاط إلى حيث الملك وركعت أمامه وقالت مشيرة إلى ولي العهد بارك الله في حياتك، فابتسم ولي العهد وقال لها: لست أنا الملك ها هو جلالته. فأجابته، أيها الأمير الرقيق، انك هو وليس غيرك، أرسلني إليك ملك السماوات لأبشرك أنك ستتوج ملكاً في ريمس. ثم همست في أذن الملك شارل بكلمات عدها فيما بعد برهاناً ساطعاً على ولائها وصدق إلهامها.
كان الملك في أول الأمر تحت تأثير عاملين: أحدهما نوع من الهيبة من هذه الفتاة الغريبة التي جاءته وفيها قوة مقدسة؛ والعامل الآخر هو السخرية والتهكم اللذان قابل بهما كل فرد مطالبها الغريبة. ولكن الأمر انتهى بانحياز الملك إليها وأعلن أن جلالته اقتنع بقداسة الفتاة وأنه قرر الانتفاع بها.
وكان الجيش الإنجليزي محاصراً لأورليان وساداً الطريق إلى ريمس؛ فكان أول أوامر الفتاة طرد الفصائل الإنجليزية من خطوطها ورفع الحصار. وأعطيت علماً أبيض ذهبياً مرسوماً عليه صورة المسيح فكانت طوال أوقات انتصاراتها تحمل هذا العلم، وأتى إليها بسيف لم تستخدمه مطلقاً من وراء محراب تصورت أنه أوحى إليها به؛ فكنت تراها صورة مقدسة في لباسها الأبيض تجتاز على جوادها الطرق منتصرة كأنها رسالة الله إلى وطنها.
وتقرر تنصيبها قائدة على رأس الجيوش الملكية. وفي أبريل من سنة 1429 سارت بجيشها إلى أورليان حيث طلبت من الإنجليز - بأمر الله القاهر - مفاتيح المدن التي استولوا عليها عنوة واقتداراً ورجت منهم الخروج من البلاد، وأعلنت في حالة عدم تصديقها (أنها ستقيم ثورة في البلاد لم تعرفها فرنسا منذ آلاف السنين).
وسخر منها المغتصبون وأجابوا على طلبها بأن الأجدر بها الرجوع إلى مهنتها: حلب الأبقار ورعاية الأغنام. ولكن كان في هذه الراعية إلى جانب إيمانها الثابت برسالتها صفة القيادة، وكانت أكثر من مساعديها من القواد عرفاناً بالواجب الملقى على الجيش، فأندفع الجنود والمتطوعون متأثرين بروحها فيهم إلى الحصون الإنجليزية واستولوا عليها وارتد الأعداء هاربين وقد انكسرت قوتهم، وأزيل الحصار الذي لزم لإقامته سبعة أشهر في ثمانية أيام؛ وأصبحت جان دومرمي بطلة أورليان.
أذيعت أخبار هذا النصر في كافة أرجاء فرنسا، وكانت لغرابتها غير مصدقة بل قوبلت في البلاط بنوع من الخوف والريبة. ولما طلبت جان إلى ولي العهد أن يتبع الانتصار بالسير إلى ريمس أجاب بأن في الوقت متسعاً لهذا فردت عليه قائلة: تنبأت أني (سوف لا أعيش غير سنة واحدة فأستغل وجودي) ولقد صدقت النبوءة فإنها لم تعش غير عام واحد وأي عام!! ففي طريقها إلى ريمس سلمت مدينة تروس بمجرد ظهورها أمام أبوابها ثم سقطت شالون. ولما كانت هذه المدينة لا تبعد إلا قليلاً عن دومرمي سار إليها جيرانها ليتأكدوا من صحة كل ما سمعوه عن عذرائهم.
ولم تستمر الغزوة أكثر من ستة أسابيع امتاز كل يوم فيها بالنصر المبين، وركب شارل إلى ريميس حيث توج ملكاً في كنيستها، رمز فرنسا الروحي - وركعت جان المنصورة أمامه صائحة وعيناها مغرورقتان بالدموع: (لقد تم ما أراده الله).
ولو قدر لقصتها أن تنتهي إلى هذا الحد؟ ولكن القدر فرض عليها أن لا تكون خاتمة بطولتها في كنيسة ريمس بل في كنيسة روان بعد سلسلة أثيمة من الغدر والهزيمة والفزع إذ حكم عليها بالموت الشنيع. وتفصيل الخبر أن جان قررت العودة إلى قريتها وفي يدها المكافأة الوحيدة التي طلبتها وهي إعفاء قريتها من الضرائب ولا تجد سجلات ضرائب مدن وقرى فرنسا أمام قرية دومرمي إثباتاً لدفع الضرائب مدة ثلاثمائة وستين سنة.
إذن نجحت جان في عملها. وحركت نشوة النصر في نفوس قواد الجيش رغبة في التوغل. وترددت جان لأول مرة منذ خروجها من قريتها في قبول هذه الرغبة وتهيبت التوغل المطلوب فلقد أتمت ما أملاه عليها وحيها وهو لا يطرق صوته أذنها الآن، إلا أنها واصلت الغزوات معتزمة تخليص باريس. وسلمت لها سواسون وكذلك شاتوفيري. ومن الغريب المدهش أن الملك شارل الخبيث الذي قامت جان بهذه الأعمال من أجله عقد اتفاقاً سرياً مع أعدائه خان فيه جيشه؛ ففي الوقت الذي كاد يتم فيه تخليص باريس استدعى قواده وترك جان وحيدة في غير معين.
حتى هذه اللحظة لم يستطع أعداء فرنسا هزيمة جان إلا إن إهمال الملك إياها غير من حظها فقد هبط ميزان الإخلاص لها ولكنها ظلت برغم هذا الغدر موالية للبلاط. ذهبت إلى كنيسة سانت دنيز وألقت عن نفسها لباسها الحربي وتركته على هيكل الكنيسة واندمجت في البلاط مدة قصيرة مخلصة له فلما رأت أن لا محل لها به هجرته.
لا بل إنها مدت يد المساعدة من جديد إلى هذا المخلوق المسكين الذي أهملها وهي توجته وذلك في كامبين حيث حلت به ورطة كادت تفقده حياته فأسرعت إليه وألفت فصيلة للسعي إلى تخليصه. وفي أثناء هجوم غير منظم أحاط بها الأعداء فسقطت عن جوادها وقبض عليها ثم بيعت إلى الإنجليز مقابل دراهم معدودة.
لم يمد أحد يده لنجدتها. نعم إن سكان المدن الذين خلصتهم بكوا من أجلها ولكن فرنسا الرسمية لم تحرك ساكناً بينما أشعلت باريس المشاعل وأخذ أهلها يغنون فرحين لأن جان قيدت بالسلاسل وأودعت قفصاً من حديد، وفي روان أخرجوها من قفصها وشدوها إلى عمود يحرسها الجند ليلاً ونهاراً يتجسسون عليها، ثم واجهوها في كنيسة صغيرة في معقل روان بقضاة عينوا لمحاكمتها.
وليس هناك إنجليزي واحد لا تخجله هذه الصفحة من تاريخ إنجلترا. ولو عذرنا الإنجليز فيما فعلوه بجان لأنها عدوة لهم يرون فيها ساحرة ذات دهاء وخبث وقوة وإصرار فما الذي نقوله عن مواطنيها أنفسهم الذين تخلوا عنها وباعوها ثم قعدوا ساكنين لا يتحركون يشاهدون أدق فصل من فصول مآسي التاريخ كما يشاهد المتفرج قصة بسيطة على مسرح التمثيل؟
وكان لا بد من محاكمة جان دارك بتهم وضعوها لها وأحاط بها القضاة كما تحيط الذئاب الكاسرة بالحمل الوديع مصممة على الفتك به. هددوها بالتعذيب وأمطروها وابلاً من الأسئلة ولكنها رغم كل ذلك بقيت على إنكارها للتهم التي كيلت لها.
وفي النهاية أخبروها أنها لو وقعت على ورقة تقر فيها أنها مذنبة قاتلة لا يحكمون عليها بالقتل، فأجابتهم متحدية أنها لا تخضع لأمرهم ولو رأت النار مهيأة لها - وأخيراً بعد أن ذاقت جان مر العذاب أخذت المسكينة تستعطف قضاتها معلنة إليهم أنها امرأة ضعيفة كسر قلبها طول العذاب والتهديد بالنيران. ولم يجد استعطافها شيئاً أكثر من زيادة التعذيب فخضعت لهم بدافع حب الحياة وتأثرت بصياح الشعب فيها (هل تودين الموت يا جان؟ ألا تنجين نفسك؟).
ووقف كوشون وفي يده ورقتان مخطوطتان عليهما جملتان أحدهما السجن المؤبد إذا خضعت لما طلب إليها؛ والثانية إحراقها لو ظلت على إنكارها. فلما قدمها إليها للتوقيع على أحدهما وقعت على الأولى وخط كاتب الجلسة وهو جيلبرت مانشون على هامش الورقة هذه الكلمات (وفي آخر الحكم قالت جان تحت تأثير الخوف من الإحراق بأن عليها إطاعة أوامر الكنيسة).
حصلوا على مبتغاهم فأرسلوها موثقة إلى سجنها. فلما رأت نفسها وحيدة عاودتها شجاعتها فأعلنت أنها لم ترتكب أي جرم وإن كل ما قالته كان خوفاً من النيران؛ إلا أن صراخها ذهب هباء وتقرر إحراق العذراء البريئة التي كانوا يخشونها في قلوبهم.
وتبع الجنود الإنجليز العربة التي حملتها إلى السوق القديمة في روان حيث أعدت لها النيران، وصفت الكراسي على الأفريز جلس عليها الأساقفة لمشاهدة حفلة إحراقها وخطت إليهم طالبة صليباً إلا أن أحداً منهم لم يجرؤ على إعطائها إياه.
وأوقدت النار، وتطلعت جان لآخر مرة إلى العالم الذي ملأته نصراً وإعجاباً فظهرت وعليها مسحة نبيلة هي قوة مقدسة من وراء العالم وتخيلت أنها تسمع الأصوات التي اعتادت سماعها تكلمها من قلب النيران وصاحت (قد كنت أضنني مخدوعة) وهذه هي آخر جملة فاهت بها - وجمع أسقف وينشستر رفات جسدها المحروق ونثره في نهر السين وحلقت روحها العظيمة فطمست عار الذين حولها وقسوتهم. وترى اليوم تمثال جان دارك الذهبي مواجهاً لأسقفية وينشستر في كاتدرائيتها وستظل إلى الأبد رمز المثابرة والوفاء والشجاعة النادرة وطهارة القلب - وإذا كانت قلوبنا تتفطر حسرة على نهاية هذه البطلة المحزنة إلا أن هذه النهاية تتوج من غير شك قصتها العجيبة.
عبد الرحمن فهمي