الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 862/الوضع اللغوي وهل للمحدثين حق فيه؟

مجلة الرسالة/العدد 862/الوضع اللغوي وهل للمحدثين حق فيه؟

مجلة الرسالة - العدد 862
الوضع اللغوي وهل للمحدثين حق فيه؟
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 09 - 01 - 1950


يذكرني موضوع الوضع وهل للمحدثين حق فيه بطائفة من البديهيات كان المعلمون الطيبون يكلفون بها تلاميذهم، كفضائل العلم، ومحاسن الأدب، وفوائد الثياب، فيكتبها التلاميذ على أنها واجب يؤدى، ويقرأها المعلمون على أنها جمل تصحح. والواقع أني سألت نفسي حين اقترح علي هذا الموضوع: ما الفرق بين سؤالنا هل للمحدثين حق في الوضع وسؤالنا: من الذي يملك على التراث حق الانتفاع به وحق التصرف فيه؟ الميت الذي ورَّث ثم غاص في أعماق العدم، أم الحي الذي ورث ولا يزال يضطرب في آفاق الوجود؟ أو سؤالنا: من الذي يملك أن يزيد في اللغة أو يهذب منها وهي وسيلة الفهم والإفهام؟ اللسان الذي سكت وبلى وانقطعت أسبابه بالحياة، أم اللسان الذي لا يزال يتحرك ويلغو ليسمي كل وليد تضعه القريحة، ويعبر عن كل جديد تخلقه الحضارة؟

أليست الأجوبة عن هذه الأسئلة هي من نوع ذلك الكلام الذي كان يمتحن به عبقريات الأطفال في سنيهم الأولى؟

إذن ما الذي سوغ أن يكون مثل هذا الموضوع من الموضوعات التي أقرها المجمع لتلقى في المؤتمر؟ سوغه أن الحق في الوضع اللغوي على وضوح الرأي فيه، كان عقبة من العقبات التي أقامها المجمع لنفسه بنفسه وذلك إن المجمع وهو وحده السلطة التشريعية العليا للغة العربية يستطيع في حدود قواعدها الموضوعة وقوالبها الموروثة أن يزيد عليها وينقص منها ويغير فيها، ولكنه يعطل مختاراً هذه القدرة التي لم يؤتها غيره باستشارته القدماء في كل إصلاح لغوي يقترحه، وفي كل قرار نحوي يقره. واستشارة الماضين في شؤون الباقين مع تبدل الأحوال وتغير الأوضاع وتقدم العلوم وتفاوت العقول واختلاف المقاييس، تكون في أكثر الأحيان معطلة أو مضللة. فلو أن معالي رئيس المجمع استشارهم مثلاً فيما ينقل من كتب أر سطو لقال له ابن فارس وهو من رجال القرن الرابع: (زعم الناس أن علو ما كانت في القرون الأوائل والزمن المتقادم، وأنها درست وجددت منذ زمان قريب، وترجمت وأصبحت منقولة من لغة إلى لغة؛ وليس ما قالوا ببعيد، وإن كانت تلك العلوم بحمد الله وحسن توفيقه مرفوضة عندنا).

ولو أن معالي وزير المعارف استشارهم مثلاً في البعثات التي يبعث بها في طلب العلم إلى أوربا وأمريكا لقال له الشيخ محمد عليش مفتي المالكية في أواخر القرن الثالث عشر رسالته التي رد بها على عالم من علماء الجزائر أفتى بجواز لبس القبعة للطلاب المسلمين الذين يطلبون العلم في فرنسا ما نصه: (تقرر في شريعة الإسلام أن السفر لأرض العدو للتجارة جرحة في الشهادة ومخل بالعدالة فضلاً عن توطنها وطلب العلم بها. والمقرر في شريعة المسلمين أن المطلوب تعلمه من أقسام العلم، العلوم الشرعية وآلاتها وهي علوم العربية، وما زاد على ذلك لا يطلب تعلمه بل ينهى عنه. ومن المعلوم أن النصارى لا يعلمون شيئاً من العلوم الشرعية، ولا من آلاتها بالكلية، وأن غالب علومهم راجع إلى الحياكة والقبانة والحجامة وهي من أخس الحرف بين المسلمين، وقد تقرر في شريعتهم أنها تخل بالعدالة).

عرض المجمع الموقر لمسألة التعريب وهي مسالة حلها الشعر القديم والقرآن الكريم والسنة الصحيحة والدول المتعاقبة والطبيعة التي تنشئ الأمم بالتوالد والتجنس، والحضارة التي تسد عوزها بالأخذ والاقتباس؛ ولكن المجمع رأى مع كل أولئك أن يستفتي فيه المتقدمين فقالوا:

- لا يملك التعريب إلا من يملك الوضع

- ومن الذي يملك الوضع؟

- يملكه العرب الذين يعتد بعربيتهم

- ومن هم العرب الذين يعتد بعربيتهم؟

- هم قوم محصورون في حدود معينة من المكان والزمان لا يتعدونها؛ حدودهم المكانية شبه جزيرة العرب على تفاوت بينهم في درجات الفصاحة. وحدودهم الزمانية آخر المائة الثانية لعرب الأمصار، وآخر المائة الرابعة لأعراب البوادي. هؤلاء الذين تنزل عليهم وحي اللغة، وألهموا سر الوضع، فكلامهم حجة، وأقوالهم حكمة، وصوابهم قاعدة، وخطأهم شذوذ، وضرورتهم مقبولة. .

- أذن من نكون نحن؟

- طبقة مولدة فقدت أهلية الأصل فلا ترتجل، وأضاعت مزية الفرع فلا تشتق. إنما تتكلمون ما تحفظون. فإذا وقع لكم ما لم يقع للعرب الخلّص من الأعيان والمعاني فعبروا عنه بأي لسان تشاءون ولا شأن لنا به.

ولقد كان لنا أيها السادة غُنية عن هذه الفتوى بحكم الرسول صلوات الله عليه حين سمع أن منافقاً نال من عروبة سلمان الفارسي فدخل المسجد مغضباً وقال: (يا أيها الناس، إن الرب واحد، والأب واحد، وليست العربية بأحدكم من أب ولا أم، وإنما هي اللسان، فمن تكلم بالعربية فهو عربي). ونحن بحمد الله نتكلم العربية ونحرص عليها ونتعصب لها ونريد أن نهذب منها ونزيد فيها.

وكان بحسبنا في تزييف قول ابن فارس: (ليس لنا اليوم أن نخترع ولا أن نقول غير ما قالوه، ولا أن نقيس قياساً لم يقيسوه) قول فيلسوف العربية ابن جني: (ما قيس على كلام العرب فهو من كلام العرب)، ولكن القدماء رووا قول الرسول؛ ووعوا قول ابن جني، وسمعوا كثيراً من نحو ذلك، ثم ظلوا متبلدين يهابون الوضع ولا يقطعون فيه برأي. وإذا حاولنا أن نعلل هذا اليبلد وتلك الهيبة كان أول ما يخطر في الذهن تلك القداسة التي أسبغوها على اللغة العربية لصلتها الوثيقة بالدين، فهي لغة القرآن والحديث، وأداة التحدي والإعجاز، ولسان الدعوة والخلافة، فالعناية بها عناية بكلام الله، والتعصب لها تعصب للغة الرسول، ولذلك وضعوا النحو والصرف، ورسموا النقط والشكل، واستنبطوا المعاني والبيان، وقطعوا بوادي الحجاز ونجد وتهامة ليسمعوا المناطق المختلفة، ويجمعوا الألفاظ الغريبة، فأخذوا أكثر ما أخذوا عن قبائل قيس وتميم وأسد، وتحاموا الأخذ عن الأعراب الضاربين على التخوم الموبوءة، وعن العرب المتصلين بالأجانب في التجارة.

فعلوا ذلك ليدرءوا عن العربية شبهة العجمة، ويبرئوها من تهمة الدخيل، وظنوا أنهم استطاعوا ذلك فقالوا: ليس في كتاب الله من لغة العجم، يتأولون بذلك قول الله تعالى (إنا جعلناه قرآناً عربياً) وقد جهدوا جهدهم في التماس الأصول العربية لجميع الكلمات الأعجمية، فجاءوا من ذلك بما لا يتفق مع فضلهم، كقولهم في الخندريس مثلاً، وهي تعريب خندروس باليونانية: (الخندريس: الخمر القديمة، واشتقاقه من الخدرسة ولم تفسر، أو من الخدر لأن شارب الخمر ربما أصيب به، أو من الخرس لأنه في حال السكر يصير كالأخرس!

وقد حاول مثل هذه المحاولة فقيد المجمع المرحوم الأب انستاس ماري الكرملي فكتب طائفة من الفصول في مجلته (لغة العرب) بعنوان (العربية مفتاح اللغات) رد فيها كثيراً من الكلمات الإفرنجية إلى أصول عربية كقوله مثلاً: إن كلمة الفرنسية ومعناها الأحمق، مأخوذة من الكلمة العربية بأقل العي العربي المشهور، ويقول إن القاف في العربية تكون كافاً في اللاتينية وسيناً في الفرنسية؛ فإذا رددناها إلى اللاتينية وجردناها من الزوائد كانت باكول أو باقل. وقد افتعل عليه أدباء الشام والعراق طرفاً من مثل ذلك فزعموا أنه يقول إن (جرسون) أصلها العربي جار الصحون، خففت الراء والصاد ثم حذفت الحاء لعسر النطق بها.

ولقد غلا الأقدمون في تقديس اللغة العربية حتى أدعو أن واضعها الأول هو الله سبحانه، محتجين بقوله تعالى: (وعلم آدم الأسماء كلها) وهي حجة لا تنهض بدعواهم إلا إذا ثبت أن الأسماء التي علمها الله آدم كانت عربية. والذين فندوا هذا الرأي وقالوا إن اللغة اصطلاح لا توقيف، أكبروا هذه اللغة عن أن يضعها الأعراب والأوشاب والعامة، فتوهموا لها واضعاً لم يسموه ولم يعرفوه، وإنما تخيلوه منقطعاً في خيمته للوضع، كما ينقطع الناسك في صومعته للعبادة، فيذهب إليه الناس كما يذهبون اليوم إلى القصاب والبدال، يسألونه ما اسم هذا الشيء، وما لفظ هذا المعنى، فيجيبهم عما سألوا فيحفظونه وينشرونه. قال صاحب الخصائص: (إن واضع اللغة لما أراد صوغها وترتيب أحوالها هجم بفكره على جميعها، ورأى بعين تصوره وجوه جملها وتفصيلها؛ وعلم أنه لابد من رفض ما شنع تأليفه نحو هع وقج فنفاه عن نفسه).

وقال صاحب المثل السائر: (حضر عندي رجل من علماء اليهود بالديار المصرية، فجرى ذكر اللغات وأن اللغة العربية هي سيدة اللغات، فقال اليهودي: وكيف لا تكون كذلك وإن واضعها تصرف في جميع اللغات السالفة فاختصر ما اختصر وخفف ما خفف؛ فمن ذلك اسم الجمل، فإنه عندنا في اللسان العبراني (كوميل) فجاء واضع اللغة العربية وحذف من الكلمة الثقل المستبشع وقال (جمل) ولقد صدق في الذي ذكره).

هذه القداسة أيها السادة التي كسبتها العربية من القرآن والحديث، أكسبتها هي أيضاً العرب وجزيرة العرب في تلك الحقبة المحدودة. مصداق ذلك أن علماء المصرين البصرة والكوفة لم يدعوا في البوادي العربية بقعة ولا صخرة ولا نبتة ولا حشرة ولا وجهاً من وجوه الأرض، ولا ظاهرة من ظواهر السماء، إلا عرَّفوها ووصفوها وسجلوها، ورووا ما قيل فيها من الشعر، وقصوا ما جرى عليها من الوقائع؛ ولم يتركوا من مناطق البدو ووسائل حياتهم ومظاهر اجتماعهم ومختلف عاداتهم لفظة ولا لهجة ولا حالة ولا أداة ولا لعبة إلا جمعوها ودونوها، حتى الكلمة الغريبة والعبارة المهجورة والصيغة المماتة، فإجتمع لهم من كل أولئك سجل محيط شامل فرضوه بفضل هذه القداسة على جميع المتكلمين بالعربية في العصور الأربعة والقارات الثلاث، فظلوا على رغم ما بلغوه من السلطان والعمران والمدنية والعلم والأدب والفن يستعملون أمثال البدوي وصوره وأخيلته ومجازاته وتشبيهاته وكناياته، فيقولون مثلاً: جاءوا على بكرة أبيهم، وألق دلوك في الدلاء، وقلب له ظهر المجن، وضرب إليه أكباد الإبل، وركب إليه أكتاف الشدائد، واقتعد ظهور المكاره، وأنبت حبل الرجاء، وضل رائد الأمل، وهو شديد الشكيمة، وله غرر المكارم وحجولها، وإن حلمه أثبت من ثبير، وأوقر من رضوى، وأوسع من الدهناء. ولو ذهبت أستقصي هذه الأوضاع وتلك التراكيب لما أبقيت في المعجم إلا المصطلحات التي فرضها الدين، والمعربات التي أقحمتها الحضارة.

ثم اعتقدوا أن اللغة قد كملت في عهد الرواية كما كمل الدين في عهد الرسالة، فختم الرواة السجل، وأغلق علماء اللغة باب الوضع، كما أغلق فقهاء السنة باب الاجتهاد، وتركوا الأمة العربية التي امتد ملكها من الهند والصين شرقاً إلى جبال ببرانس غرباً، تتعامل خارج البرصة، وتتجاوز حدود المعجم، كأنهم نسوا أن اللغة لا يمكن أن تثبت ثبوت الدين، ولا أن تستقل استقلال الحي، لأنها ألفاظ يعبر بها كل قوم عن أغراضهم؛ والأغراض لا تنتهي، والمعاني لا تنفد، والناس لا يستطيعون أن يعيشوا خرساً وهم يرون الأغراض تتجدد، والمعاني تتولد، والحضارة ترميهم كل يوم بمخترع، والعلوم تطالبهم كل حين بمصطلح، ولا علة لهذا الخرس إلا أن البدو المحصورين في حدود الزمان والمكان لم يتنبئوا بحدوث هذه الأشياء، ولم يضعوا لها ما يناسبها من الأسماء:

ترتب أيها السادة على إغلاق باب الوضع، وتخصيص حكم القياس، وتقييد حق التعريب، وإنكار وجود المولد، وطرد الأمة العربية بأسرها خارج الحدود، أن حدث أمران خطيران كان لهما أقبح الأثر وأبلغ الضرر في كيان اللغة وحياة الأدب.

الأمر الأول طغيان اللغة العامية طغياناً جارفاً حصر اللغة الفصحى في طبقات العلماء والأدباء والكتاب والشعراء، يكتبون بها للملوك، ويؤلفون فيها للخاصة؛ وسيطر على حياة الأمة في شؤونها العامة وأغراضها المختلفة؛ لأن العامية حرة تنبو على القيد، وطبيعية تنفر من الصنعة؛ فهي تقبل من كل إنسان، وتستمد من كل لغة، وتصوغ على كل قياس، وبذلك اتسعت دائرتها لكل ما استحدثته الحضارة من المفردات المولدة والمقتبسة في البيت والحديقة والسوق والمصنع والحقل. والناس في سبيل التفاهم يؤثرون السهل، ويستعملون الشائع، ويتناولون القريب. وتخلف اللغة عن مسايرة الزمن وملاءمة الحياة معناه الجمود. والنهاية المحتومة لجمود اللغة اندراسها بتغلب لهجاتها العامية عليها وحلولها محلها، إذ تكون بسبب مرونتها وتجددها، أدق تصويراً لأحوال المجتمع، وأوفى أداء لأغراض الناس. وهذا ما حدث للغة اليونانية القديمة حين خلفتها اليونانية الحديثة، وللاتينية حين ورثتها الفرنسية والإيطالية والأسبانية. وهذا ما يحدث حتماً للعربية الفصحى لولا أنها لغة القرآن. واللغات السامية كما يقول (رينان) مدينة ببقائها للدين، فلولا اليهودية ما بقيت العبرية، ولولا المسيحية ما عاشت السريانية، ولولا الإسلام ما حفظت العربية.

والأمر الآخر حرمان الفصحى كل ما وضعه المولدون من الألفاظ، وما اقتبسوه من الكلمات؛ لأن اللغويين الذين أقاموا أنفسهم على أسرار اللغة مقام الكهنة على أسرار الدين، أبو أن يعترفوا بهذه الثروة اللفظية الضخمة لصدورها عمن لا يملك الوضع والتعريب بزعمهم، فحرموا اللغة مورداً ثراً كان يقيها الجفاف والذبول، ويؤتيها النماء والخصب. ولولا أن العلماء والمترجمين - وجلهم من غير العرب - تجاهلوا أوامر اللغويين في الوضع والتعريب لما استطاعوا أن ينقلوا إلى العربية علوم الأولين من فرس ويونان وهنود ويهود، ولما قال أبو الريحان البيروني في العربية: (وإلى لسان العرب نقلت العلوم من أقطار العالم فازدانت وحلت في الأفئدة، وسرت محاسن اللغة منها في الشرايين والأوردة. والهجو بالعربية أحب إلى من المدح بالفارسية).

وقد أدى احتقار اللغويين للغة المولدين إلى احتقار الأدباء لأدب العامة. فكما أن أولئك لم يدونوا في معجماتهم الكلام المولد، لم يدون هؤلاء في مؤلفاتهم الأدب الشعبي. ولو أنهم دونوا أحسن ما دار على الألسنة في جميع الطبقات والبيئات من الأمثال والحكم والمجازات والكنايات والطرف لوفروا للغة الفصحى وللأدب العالي مورداً لا ينضب ومادة لا تنفد. فإن العامة كانوا تسعة أعشار الأمة العربية وهي في أوج سلطانها، وأكثرهم أعقاب أمم مختلفة الجنسية والعقلية والعقيدة، دخلوا أو عاشوا في كنفه، واتخذوا العربية العامية لغة لهم أودعوها معانيهم وتصوراتهم، وأفضوا إليها بأسرار لغاتهم؛ فكانت أمثالهم تسير، وأقاصيصهم تحكى، ومصطلحاتهم تنقل، ومواضعاتهم تذيع. فإذا كانت الفصحى نهراً تجمع من أمطار، فإن العامية بحر تجمع من أنهار. والنهر إذا أخلفه الغيث غاضت منابعه وجفت مجارية، ولكن البحر إذا اخلفه رافد هنا أمدته روافد هناك.

ولست أذكر مزايا العامية لأهتف بها وادعوا إليها، وإنما ذكرتها لأقول إن سادتنا اللغويين وأدباءنا الأولين لو أنهم أزالوا هذا السد الذي جعلوه بين اللغتين لاكتسب الفصحى من العامية السعة والمرونة والجدة، واكتسبت العامية من الفصحى السلامة والصيانة والسمو، ولكان لنا من تداخل اللغتين وتفاعلهما لغة واحدة تجمع بين محاسن هذه ومحاسن تلك. فأما مساوئ الفصحى أو عنجهيتها فتموت كما يموت الحوشى المهجور من كل لغة. وأما مساوئ العامية أو حثالتها فتبقى على الألسنة التي تستذيقها من الطبقات الدنيا وتكون هي اللغة العامية التي لابد منها في كل لغة من لغات العالم؛ ولكن بالنسبة القليلة التي لا تطغيها على الفصحى ولا تفرضها على الناس.

سادتي: ي إن حق المحدثين في الوضع مقرر بالطبيعة فلا مساغ للنزاع فيه. وإن الذين أنكروه لم ينكروه بقول يناقش ولا حجة تسمع. إنما قولهم فيه أشبه بقولهم في كتابة المصحف. فقد قالوا لابد أن نكتب القرآن بالرسم الذي كتب به في زمن عثمان، فنكتب الصلاة بالواو ونلفظها بالألف، ونكتب والسماء بنيناها بأيد بياءين ونلفظها ياء واحدة، ونكتب لشيء بألف زائدة بين الشين والياء وننطقها بدونها. ولو كان هذا الرسم موحى من الله على رسوله لآمنا به وحرصنا عليه، ولكنه من عمل قوم كانوا قريب عهد بالخط فوقع فيه الخطأ والنقص والإشكال. والغرض من كتابة القرآن أن نقرأه صحيحاً لنحفظه صحيحاً، فكيف نكتبه بالخطأ لنقرأه بالصواب، وما الحكمة في أن نقيد كتاب الله بخط لا يكتب به اليوم أي كتاب؟ وإذا احتجنا في دفع هذه الأقوال إلى غير الوجدان فلن يصح في الذهان شيء كما يقول أبو الطيب.

بقي أن نعرف من هو المحدث الذي له الحق في الوضع. أهو فرد معين أو جماعة معينة كما كان يظن الأوائل، أم هو كل فرد وكل جماعة يتكلمون العربية وتدعوهم الحاجة إلى وضع اللفظ للمعنى الذي ولدوه، وللشيء الذي أوجدوه؟ إن حق الوضع حق مطلق لا يتخصص بأحد ولا يتعلق بظرف، يملكه الفرد والجماعة، وتملكه الخاصة والعامة؛ فالعلماء يضعون مصطلحات العلوم، والرياضيون يضعون مصطلحات الرياضة، والأطباء يضعون مصطلحات الطب، والفقهاء يضعون مصطلحات الفقه، كما أن الصناع يضعون لغة المصنع والورشة، والزراع يضعون لغة الحقل والحظيرة، والتجار يضعون لغة الدكان والسوق، ومجمعكم الموقر يشارك هؤلاء وأولئك في الوضع والتعريب، ويختص جميعاً بالتسجيل والتصديق. فأيما كلمة توضع لا تدخل في اللغة قبل أن يسمها بميسمه ويدخلها في معجمه؛ وبدون ذاك نقع فيما وقع الأولون فيه من تعدد الوضع في المرتجل واختلاف الصيغ في المشتق.

وإذا سمحتم أيها السادة أن أجعل لهذه الكلمة نتيجة إيجابية فإني أتقدم إلى معالي رئيس المجمع باقتراح يشمل أربعة أمور أرجو أن يأذن في عرضها عليكم لتمحصوها وتصدروا قراركم فيها:

1 - فتح باب الوضع على مصراعيه بوسائله المعروفة وهي الارتجال والاشتقاق والتجوز.

2 - رد الاعتبار إلى المولد ليرتفع إلى مستوى الكلمات القديمة.

3 - إطلاق القياس في الفصحى ليشمل ما قاسه العرب وما لم يقيسوه، فإن توقف القياس على السماع يبطل معناه.

4 - إطلاق السماع من قيود الزمان والمكان ليشمل ما يسمع اليوم من طوائف المجتمع كالحدادين والنجارين والبناءين وغيرهم من كل ذي حرفة.

فإذا أقررتم هذا الاقتراح أيها السادة دفعتم معرة العدم والعقم عن هذه اللغة الكريمة التي سمعناها في القرن الخامس تصف ناقة طرفة فتسمى أعضائها عضواً عضواً، وتنعت أوضاعها وضعاً وضعاً، في 34 بيتاً من معلقته؛ ثم نراها في القرن العشرين تقف أمام سيارة فورد بكماء بلهاء، تشير ولا تسمى، وتجمجم ولا تبين. وأني أشكر لكم يا سادتي حسن التفاتكم وكرم إصغائكم؛ والله يهدينا الطريق ويلهمنا التوفيق.

أحمد حسن الزيات