مجلة الرسالة/العدد 861/الطريق
→ إيمان عظيم | مجلة الرسالة - العدد 861 الطريق [[مؤلف:|]] |
الخدمة الاجتماعية في الإسلام ← |
بتاريخ: 02 - 01 - 1950 |
للأستاذ محمد أحمد الغمراوي
(وإن صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم
عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون) صدق الله العظيم
لكن المسلمين وا أسفاه قد ضلوا السبيل واتبعوا السبل - وما أكثرها - فتفرقت بهم عن سبيل الله، فحقت عليهم كلمة الله في كل ما خالفوا الله فيه. وتاريخهم الحديث فيما يقرب من قرن كله أمثلة توضيحية لهذا.
أهملوا أمره تعالى (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة) فعاشت دولة خلافتهم - التي كانت - لا تجدد جيشاً ولا تصنع سلاحاً حتى ثار عليها عقبان البلقان فألجئوها إلى شطلجة. ولولا أن دبت الفرقة بين أعدائها ما استردت منهم أدرنه ولجاءت الحرب الكبرى الأولى وما بيده من أوربا شيء. ولم ينتفع المسلمون بتلك العبرة فظلوا كما كانوا لا يهتمون بالجيش ولا يصنعون السلاح وإنما يعتمدون في تسليح جيوشهم على الأجنبي، إن شاء أعطى وإن شاء منع. وهو لا يعطي إلا بثمن، والثمن هو ما نعلم من احتلال الديار والتقييد بتلك المعاهدات المخزية التي لا يزالون يحاولون التحرر منها فلا يستطيعون.
والاتحاد قوة، يعلم ذلك كل أحد. وأحق الخلق بالاتحاد الضعفاء، يعلم ذلك حتى ضعاف الحيوان في الغاب. وقد جعل الله الاتحاد على المسلمين فرضاً وديناً حين أمرهم به في قوله تعالى (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا) لكن المسلمون لم يعتصموا بحبل الله في الماضي وما هم بمعتصمين به في الحاضر ثم هم ليسوا بجميع. حتى في أحرج الأوقات وأحوجها إلى اجتماع القلوب وتساند القوى، كانوا ولا يزالون متفرقين. ففي الحرب الكبرى الأولى بلغ بهم التفرق أن حارب بعضهم بعضاً طمعاً في استقلال بعضهم عن بعض وفي تأسيس دولة عربية تضم شتات العرب. فكان أن انهزمت دولة الخلافة إذ ذاك في الشرق، في ديارها، على أيدي أبناءها العرب. وكان أن دخل العدو بيت المقدس بما مد له عمال المسلمين ومهد له جنودهم، فإذا به يظهر ما كان يبطن إذ أعلن أن فتح بيت المقدس خاتمة لآخر الحروب الصليبية! فيالها من خدعة خدعها الناس لا تزال ممتدة إلى اليوم فإن من العرب من لا يزال يثق فيه كأنه وفي لهم بعهوده التي استذلهم بها وعاونوه من أجلها وما وفاؤه الذي كان إلا أن أنزل اليهود فلسطين، ونزل هو بجنوده في العراق، وأنزل إخوانه وأعوانه في لبنان والشام. أما مصر فظل محتلاً لها ولا يزال.
وليت المسلمين حين جاءت الحرب الثانية الكبرى اعتبروا بالحرب الكبرى الأولى وبما كان فيها وفي أعقابها من أحداث عملاً بقوله تعالى (فاعتبروا يا أولي الأبصار) وبقول رسوله صلى الله وسلم عليه (لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين). ولكنهم لم يعتبروا وسار العدو معهم وساروا معه سيرته وسيرتهم الأولى: يقول فيصدقون، ويعد فيثقون، ويخدع فينخدعون. وهاهو قد مكن لليهود في فلسطين بأكثر مما مكن لهم في أعقاب الحرب الأولى، فصارت لهم صولة وصارت لهم دولة والمسلمون من حولهم كثير، ولكنهم في تفرقهم قليل.
حتى في حرب فلسطين لم يعتصم المسلمون بحبل الله بل تفرقوا. دخلوها جميعاً وقلوبهم شتى. ومع ذلك فقد وفى الله لهم بوعده وأتاهم نصره ما كانوا جميعاً، فلما دحروا اليهود وجحروهم في تل أبيب ولم يبق إلا احتلالها واستئصالها استغاث اليهود فلباهم الغرب والغرب كله في محاربة الشرق أمة واحدة. ارعد الغرب في هيئة أممه وبرق، وأوعد وأنذر، وأمر أن تقف الجيوش العربية في زحفها فوقفت، وأن تدخل الدول العربية في هدنة مع العدو المنحجر فدخلت، كأن قادة العرب إذ ذاك لم يكونوا قرءوا قط آيات القتال في القرآن، ولا طالعوا قط غزوات الرسول في السيرة الكريمة: كأنهم لم يقرءوا قط سورة القتال، ولا سورة براءة، ولا سورة الأنفال، ولا درسوا غزوة بدر، ولا آيات آخر سورة الأنفال التي نزلت في أسرى بدر، والتي كادت تنزل بالعذاب على المسلمين حين آثروا أخذ الفدية على الإثخان في الأرضبعد وقعة مكن الله للمسلمين فيها من المشركين بعد الهجرة كما مكن للعرب من اليهود بعد دخولهم فلسطين. لقد وقى الله المسلمين العذاب بعد بدر بكتاب سبق منه سبحانه: (لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم). وكان هذا إنذاراً عظيماً منه سبحانه أهمله المسلمون في فلسطين فكان من نزول العذاب بإخوانهم فيها ما كان، ومع ذلك فقد أتاح الله للمسلمين الفرصة مرة أخرى حين تحركت طبيعة الغدر في اليهود لما استقووا بالسلاح المختلس في غفلة هيئة الأمم أو بأعين منها، فحرقوا الهدنة، وشردوا عرب فلسطين، وغدروا بالجيش المصري في العيد الأكبر غدرة هي شر من غدرة اليابان بأمريكا في بيرل هاربر. فلو أن قادة المسلمين في شمال فلسطين وفوا بعهد الجامعة العربية، أو فعلوا ما يفعله أولو النجدة والحمية، أو ما تقتضيه أبسط قواعد الكيد والحرب، فهاجموا اليهود من ورائهم حين أوغلوا في الجنوب وانشغلوا بالجيش المصري من أمامهم، إذن لحصر وهم حصر الحب بين شقي الرحا، ولانتصف الله بهم للمستضعفين من رجال القرى العربية ونسائها وولدانها الذين فعل اليهود بهم الأفاعيل، ولم يرعوا فيهم عهداً ولا عقداً، ولا إلا ولا ذمة. لكن ثالثة الأثافي وعجيبة العجائبوغلطة الدهر ومعرة العمر أن قعدت جيوش المسلمين في الشمال، وتركت اليهود ينفردون بجيش المسلمين في الجنوب، تقاعساً من الحكام وتفرقاً، وتنازعاً وتحاسداً، فعصوا بذلك ربهم مرة أخرى في قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون. وأطيعوا الله ورسوله، ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم، واصبروا، إن الله مع الصابرين). وقد حقت كلمة الله على المتنازعين ففشلوا في فلسطين. ووفى الله بوعده للجيش الذي قاتل وثبت وحده فكانت آية الفالوجة، وكان من الممكن في سياستهم الخارجية قد ضلوا السبيل سبيل الله الذي انزل الكتاب والذي يتولى الصالحين وهم في أمورهم الداخلية أيضاً قد ضلوا الطريق لأن الذي حملهم على غير سبيل الله في الخارج لا يزال بهم بحملهم على غير سبيل الله في الداخل: هو أن في النفس وقلة ثقة بها يحمل على إكبار العدو وتقليده، وضعف في الإيمان وقلة طاعة لله يعرض لغضب الله ونقمته وزوال نعمته.
لقد وقى الله العالم الإسلامي ما نزل بالعالم الغربي في حربين كبيرتين أكلتا الأخضر واليابس، وخربتا العامر والغامر، ولم يرعو الغرب ولم يعتبر فهو لا يزال يظلم، ولا يزال يحكم طبق الهوى والمنفعة لا طبق العدل والإنصاف، ولا يزال العيش فيه عيش شهوة واستمتاع، لا عيش فضيلة ودين. والشرق هو أيضاً لا يزال في اغتراره بالغرب يظنه المثل الأعلى ولا يعتبر بما جرته عليه مدنيته المادية من وبال، ولا بما يهدده به علمه المادي من دمار، إذا وقع فلن يدع منه أو يذر. والعلة التي جرت على العالم الغربي حربيه الماضيتين هي التي توشك أن تجر عليه الثالثة ساحقة ماحقة: نسيانه الفضيلة وضلاله عن الله وقد عرف الغرب ذلك حين كان مأزوماً مهزوماً في الحرب. لكنه بعد النصر نسي ما كان يدعوا من قبل وظن أنه إذا أغدق المال على صنائعه وأشبع البطون من الأمم التي أفقرها بطمعه وجشعه عمرت الدنيا واستقام الحال وعم السلام، ولكن هيهات! فلن يكون سلام إلا إذا رجع الغرب والشرق كلاهما إلى الله الحق السلام. ومهما يكن ما بين الغرب فالمسلمون بيدهم من الله كتابه المبين الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فليرجعوا إليه ويعملوا به ويستمسكوا به استمساك الغريق بحبل النجاة عسى الله أن ينجيهم مما يظل العالم اليوم من كارثة لا تبقى ولا تذر. فإن لم يفعلوا وركنوا إلى الغرب ومدنيته وماديته فلا يلومن إلا أنفسهم، فإن الله سبحانه وتعالى يقول (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون) ويقول في مثل أهل الغرب اليوم (فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم؟ قل فانتظروا إني معكم من المنتظرين ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا، كذلك حقاً علينا ننجي المؤمنين) وقد أعذر من أنذر. ولله الأمر من قبل ومن بعد.
محمد أحمد الغمراوي