مجلة الرسالة/العدد 86/القصص
→ فصول ملخصة في الفلسفة الألمانية | مجلة الرسالة - العدد 86 القصص [[مؤلف:|]] |
البريد الأدبي ← |
بتاريخ: 25 - 02 - 1935 |
من أقاصيص الجاهلية
3 - حرب البسوس
بقلم اليوزباشي أحمد الطاهر
تتمة
كان للناس عجباً أن اعتزل الحرب الحرثُ بن عباد والفند الزماني، وامتزج العجب بالحسرة حين انحازت إليهما عشائرهما. ولكنهما والعشائر قوم جنحوا للسام، وأرادوا أن يأخذوا الأمور بالرفق والحلم، وعز عليهم أن تطير بالقوم عنقاء، وأن تراق هذه الدماء، في مقتل ناقة عجفاء
جلس الحرث بن عباد يوماً على شرف من الأرض واجتمع الناس حوله يقصون عليه من أنباء القتال ما أمضه وزاد في حسرته. واندفع الحرث في اللوم والتثريب: يعيب على بكر ما فهل فتاها من قتل كليب يناب من الإبل وما جرت فعلته النكراء من كرب وبلاء. قال له الفند الزماني: (إنك يا حرث قد أسرفت في اللوم والتثريب، أما ترثى لهذا الشيخ مرة بن ذهل وقد توالت عليه المصائب وتزاحمت عليه النوائب، وكانت أخراها قتلى ابنه همام الذي ضن به يوم عرض الفدية. وأنت تعلم مكان همام من قومه وعشيرته! لشد ما يحزنني قتل هذا الفتى. لشد ما يحزنني قعودنا على نصرة بكر وقد أسرف المهلهل في النكال. وهالني ما يتندر به القوم علينا في مجالسهم ومجامعهم: قال قوم: إننا جبناء، وقال آخرون: إننا ضعفاء الرأي قليلو الحيلة، وقال آخرون إننا أذلاء نتملق تغلب ونصطنع عندهم يداً بعقودنا عن مناجزتهم. وحسبنا بها فرية تحط من كرامتنا وتضع من عزتنا. فهل أنت على رأيك مقيم؟)
قال الحرث: (أما مرة بن ذهل فلقد والله عز على مصابه في ولده ما يحز قلبي إلا مرآه مضرجاً بدمه وموقف المهلهل منه بظهر الأسى ويخفي الشماتة. ولكنك تعلم أن من دخل الحرب لم يأمن عواديها، وأن من نصب نفسه للقتال فقد استهدف للموت. وإن في ضن الرجل بفتاه يوم الفداء وبذله يقتل بسيف الأعداء شرفاً لا يطاوله شرف وفخاراً لا يتسامى إليه فخار، ولا أحب إلي من أن يقتل بُجير ولدي إن كان في قتله صلاح بين أبني وائل وفي دمه وفاء لدم كليب. وأما مقالة السوء التي تتناولها بها ألسنة بذيئة فما أحفل بها ولا أقيم لها وزناً. . . . .)
وفيما هو يتحدث إذ قدم رجل قد أطلق ساقيه للريح يلهث من فرط التعب ولا يكاد يبين: قال الملأ (ما بال هذا الرسول يعدو كأنما يسابق الريح؟) (والله ما نحسبه إلا أتى ينعي لنا المهلهل!) وانكب النذير على الحرث بن عباد واحتضنه بين ذراعيه وقال:
- (عزاء يا أبا بجير! عزاء!)
قالوا: 0يا لهول المصاب! وما وراءك يا غراب البين!)
- (عزاء يا حرث! لقد والله كان أشجع من شهدته الحرب:
أفتقعد عن حربهم بعد هذا؟)
- (قل يا رجل من الذي مات؟)
- (بجير ولدك!)
- (وكيف مات!)
- (بل قتل. قتله المهلهل بن ربيعة. أفتقعد عن حربهم بهد هذا؟
- (مالك والمسألة عن هذا! أما بجير فنعم القتيل أصلح بين بكر وتغلب
وما أحسب المهلهل إلا قد أدرك به ثأر كليب وجعله كفؤاً له)
قال الناعي: (لا. لقد غابت عنك أشياء. أما علمت أن المهلهل عندما طعن بجيراً قال له: (بؤبشسع نعل كليب)؟)
قال الحرث: (أقالها والله؟)
- (نعم ولقد تجاوبها الحي من أقصاه إلى أقصاه)
قال الفند الزماني: (يا للمذلة! ويا للعار!)
قال الناعي: (وارحمتاه لهمام زين الشباب!)
قال الحرث: (دعا هماماً وقتل زين الشباب. لقد أسرف المهلهل وجاوز الحد. وما عرف لها الفتى الذي لم يخط العشرين حرمته وهو ابن اخته. ولم يعرف لي سابقتي وقد كففت عن حربه: قربا مربط النعامة مني ... لقحت حرب وائل عن خبالي
لم أكن من جناتها علم الل ... هـ وإني بحرها اليوم صالي
فأحضر له غلامه النعامة وهي فرس له، فركبها وخرج يدعو العشائر للقتال فلبته يشكر، وعجل، وبنو حنيفة، وبنو قيس بن ثعلبة، وسادتهم، وسار في القوم الفند الزماني وكان يقوم بألف رجل، وترأس القوم الحرث بن همام البكري
ولما اجتمع القوم وقف الحرث بن عباد خطيباً فاعتذر لهم عن نفسه وعن الفند الزماني فيما كان منهما من إحجام عن خوض هذه اللجة التي طغت على القوم فأصبحوا فيها مغرقين وقال أنه والفند قد استمسكا بالصبر والأناة حتى لم يعد في قوس الصبر منزع، والمهلهل قد أسرف في سفك الدماء جاوز حد الفداء، ولم يحتسب لنا قعودنا عن حربه وقد ناصبه قومنا العداء، وها هوذا قد قتل بجيراً ولدي وإني لأشهدكم - علم الله - على أنني حين بلغت مقتل بجير طابت نفسي واطمأنت ظناً بأن المهلهل سيجد في قتله غناء عن الحرب وكفاء للفدية، ولكنني أسرفت في الظن الجميل، وأسرف المهلهل في التنكيل، فالسكوت بعد اليوم لا يزكو بالحر، ولا يبرره عذر، يا قوم! لا أدعوكم للقتال انتقاماً لعزة ديثت بالصفار، ودماء جرت كالأنهار، ودفعاً للمذلة والعار. . . . . . .)
ثم نظر إلى الحرث بن همام البكري وقال له (وأنت يا ابن همام هل أنت مطيعي فيما آمرك به؟ قال: (ما أنا بتارك رأيك إلى ما هو شر منه) قال: (أعلم أن القوم مستقلون لقومك في السلم وازدادوا جرأة في الحرب فلنقاتلهم بالنساء فضلاً عن الرجال)
قال: (وكيف قتال النساء؟) قال: (تعمدون إلى كل امرأة لها جلد ونفس، فتعطى كل واحد منهن اداوة وهراوة، فإذا صفقت أصحابك فصفهن خلفهم فان ذلك مما يزيد الرجال جلداً وشدة ونشاطاً، ثم تعلموا بعلامة تعرفها نساؤكم فإذا خرج منكم إنسان في القتال أمرن بسقيه، وإذا مررن من عدوكم بإنسان ضربته بالهراوة فقتلنه) وفعل الحرث بن همام ما أمر به الحرث بن عباد.
وكان هو أول من أشار بحشد النساء مع الرجال. وحلقوا رؤسهم علامة بينهم وبين النساء. وسمي هذا اليوم يوم (تحلاق اللمم)
وخرج النساء من دورهن أسراباً محتشدات، وفي يد كل واحدة اداوة وهراوة، ووقفت تلقاءهن إحدى بنات الفند الزماني وصاحت: (يا معشر القوم! أحب إلينا أن نموت مع الرجال في ساحة الوغى أحراراً، من أن نقبع في دورنا ذلة وانكساراً. فأما عدوا مع رجالنا منتصرين، أو هلاكا مع الهالين، وسيرى القوم أن المرأة البكرية لا تقل عن الرجل تحمساً للشرف وحفظاً للكرامة، وحرصاً على الثار. يا نساء الحي! حي على القتال! حي على القتال!)
ثم برزت أختها وقفت إلى جوارها وتغنت الفتاتان بأبيات ترهف الشعور، وتوغر الصدور
وتدافع القوم رجالاً ونساء للقتال: فما كنت ترى إلا أعناقاً تمتد إلى الموت، وأجساماً تتزاحم على الردى، وصدوراً تهبط وتعلو من فرط الجوى. ثم حمي وطيس الحرب، واشتد البلاء.
واشتبكت الأسنة، وسالت الدماء، وظهرت تغلب حمرة تستمر استعاراً، وناراً تضطرم اضطراماً، وانقضت على بكر تحصد أعناق رجالها، وتطيح رقاب أبطالها، حتى تراجع البكريون وأيقنوا بالفناء، وظنوا أن لا كاشف لهذا البلاء، وفيما هم يتعثرون في انكسارهم أقبلت كرمة بين صلع أم مالك بن زيد فارس بكر وغنت
نحن بنات طارق ... نمشي على النمارق
مشي القَطى البارق ... المسك في المفارق
والدر في المخانق ... إن تقبلوا نعانق
عرس المولى طالق ... والعار منه لا حق
وما أشد ما يفعل الغناء والنسا في نفوس الأبطال. كان لهذه الأنشودة نغم كأنه خيوط انتظمت عليها الصفوف واتحدت في سلكها القلوب، بل كان النغم قبساً من نور سماوي نفذ إلى القلوب فأضاءها، وإلى النفوس فأنارها، وإلى العزائم فقواها، والى الهمم فدعاها. وسار القوم على هداه إلى نصر مبين. تدافعوا على العدو واقتحموا الصفوف واستباحوا المعاقل، وانكشف الهول فإذا المهاجم يرتد، وإذا المهزوم يشتد، وإذا تغلب بين قتيل وأسير وشريد
وانكشفت الغاشية، ونظر البكريون فيما بينهم فإذا بالحرث ابن عباد قد خلت منه الصفوف. فجزعوا وفزعوا. وذهبت بهم الظنون كل مذهب. وفيما هم في حيرتهم إذ أقبل فارس ينهب الأرض نهباً. قالوا لعل عنده الخبر اليقين. قال: (كأني بكم تبحثون عن الحرث من أبطال تغلب وانقض الحرث عليه كما ينقض النسر على الفرخ، وإذا بطل تغلب بين يديه كالعصفور قد هيض جناحه وقال له الحرث: أتدلني على عدي بن ربيعة المهلهل وأخلى عنك؟ قال الأسير: أدلك عليه إن وثقت من وعدك. قال الحرث: قد وعدتك. قال الأسير: أنا المهلهل! فما وسع الحرث إلا أن يفي بوعده ويخلي الرجل)
صاح القوم صيحة نكراء وهاجوا وماجوا. قالوا: (لقد أسرفت الحرث)، (يخلي المهلهل بعد أسره؟)، (أليس المهلهل قاتل ولده؟)
(قلنا إن الحرث ضعيف الرأي). (بل الحرث جبان!)
(كانت فرصة ولن تعود). (ولكن هو الوفاء). . .
- ولكن اسمعوا يا قوم. سماع! سماع! سماع: لقد بالغ الحرث في مذلة المهلهل ومهانته. فما تركه إلا وقد جز ناصيته كما يجز صوف النعاج)
وفيما هم يتندرون على المهلهل وجز ناصيته، ويختلفون في تأويل مسلك الحرث، إذ أقبل الحرث على وجهه آثار مختلفة فيها الإعياء وفيها الزهو وفيها الأسف وفيها الرضى. فأقبل عليه القوم بعضهم يسد يده مهنئاً، وبعضهم ينحي عليه باللائمة، وبعضهم يقره على وفائه بالعهد
قال الحرث بن عباد: (وما تركته حتى جززت ناصيته عبرة ونكالاً، أما تخليته فما كنت لأعدل عنها، وقد وعدت الرجل وأنا أجهله، ولو قد نكثت بعهدي للحقت بي سبة لا يمحوها الدهر ولا يغفرها الأهل
لهف نفسي على عدي، ولم أع ... رف عدياً إذ أمكنتني اليدان!
قال الراوي: ومنذ ذلك اليوم فارق المهلهل قومه ونزل في مذحج ولم تقم له قائمة، وظل البكريون من رحيق النصر ينهلون
اليوزباشي أحمد الطاهر