الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 86/الأزهر بين الماضي والحاضر

مجلة الرسالة/العدد 86/الأزهر بين الماضي والحاضر

مجلة الرسالة - العدد 86
الأزهر بين الماضي والحاضر
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 25 - 02 - 1935


ويل للأزهر من أهله! كان منيعاً بالدين فابتذلوه بالدنيا، وعزيزاً بالعلم فأذلوه بالمال، ومستقلاً في حمى الله فأخضعوه لهوى الحكم! وكان سُنة واضحة لِهَدْى الشريعة استقام الناس بها منذ ألف عام على عمود واحد، فشبهوا وجوهها بالأنظمة الفجة، ولبسوا صورها بالأعلام المستعارة، ثم وقفوا لدى المفترق المبهم الذي أحدثوه يديرون أعينهم في الفضاء، ويردونها من الأمام إلى الوراء، فلا يرون أقدامهم على أثر، ولا يجدون وجوههم على سبيل!

كان للأزهر، على عهدنا القريب، جلالة تغشى العيون، وقداسة تملأ الصدور، لأنه المعقل الوحيد الذي ثبت لحملات الغيرَ فانتهت إليه أمانة الرسول، واستقرت به وديعة السلف، واستعصمت في لغة القرآن، واستأمنت إليه آداب العرب، فأرضه حَرم لا يُنتهك، وأهله حمى لا يستباح، وأمره قَدرٌ لا يُرد؛ وكان لعلمائه مكانة في القلوب، ومهابة في النفوس، لأنهم دعاة الله، ووراث النبي، وهداة المحجة؛ ينطق على ألسنتهم، وتتمثل في أفعالهم السنة؛ فمحبتهم السنة؛ فمحبتهم عقيدة، وطاعتهم فريضة، وإشارتهم نافذة

وكان لطلابه كلف به لا يُهتم، وثقة برجاله لا تحد، وانقطاع إلى جواره لا يبغون من ورائه غير فقه الدين وتحصيل المعرفة وتجديد حبل الدعة، فهم عاكفون على معاناة الدرس، قانعون بميسور العيش، لا ينصرفون عن حلقات التعلم بالقاهرة، إلا إلى حلقات التعليم في الريف

كانت صلة العلماء بالحكومة صلة دينية، تقوم على حسم المشاكل بالقضاء، وحل المسائل بالفتوى؛ وكانت صلتهم بالأمة صلة روحية، يجلون صدأ القلوب بالذر، ويكفكفون سفه الجوارح بالموعظة، ويشفون على الجوانح بالمؤاخاة، فكانوا لذلك موضع الاجلال أني حلوا. كنا نرى العالم اذا نزل مدينة أو قرية كان يوم نزوله تاريخاً لا يُنسى: يأخذ الناس فيها حال من الشعور الصوفي يدفعهم إلى رؤيته، فيهرعون إليه كما يهرعون اليوم إلى زعيم الأمة أو إلى رئيس الحكومة، فيتوسمون في أساريره نور الرسالة، ويتنسمون من أعطافه ريح النبوة، ويتخففون على يديه من أوزار العيش وتبعات الجهالة. وطلاب الأزهر القديم لا يزالون يذكرون ما كان في نفوسهم لشيوخهم من الحب والتجلة. كانوا يتحلقون حول كرسي الشيخ من غير نظام ولا ضابط، فيكون لهم على السبق إلى الأمام عراك دامٍ وصخب مُضم، حتى اذا ما أقبل خشعت الأصوات وسكنت الحركات كأن شيئاً علق الأنفاس فلا تنسم، وعقد الشفاه فلا تنبس! وربما نزا اللجاج على لسان أحدهم أثناء المناقشة فيغضب الشيخ فلا يكون أنكى في عقابه من الاشارة إليه بالخروج من الدرس، أو الدعاء عليه بالقطيعة من الأزهر! والقطيعة عن الأزهر كانت أقصى ما يتصوره الأزهري من شقاء الحياة! فإذا انقضى الدرس وقال الشيخ: (والله أعلم) تضامت أطراف الحلقة عليه، وأنحى الطلاب بالقبل على يديه وردنيه، فما يشق بينهم إلا بعد لأي

تدبر ذلك في نفسك على إجماله وعمومه، ثم اقرنه إلى ما تسمع اليوم أو تقرأ من خير الأزهر وحال علمائه وأبنائه، فهل تجد المعهد هو المعهد والناس هم الناس؟ إن الأزهر البائد على فوضاه المنظمة كل أجدى على الدين وأعْوَد على الثقافة من هذا الخَلْق المسيخ الذي وقف بين الماضي والحاضر، وبين الدين والسياسة، موقفاً يُندى الجبين الصُّلب، ويوجع الفؤاد المُصْمت!

تقلب بعض زعمائه على فرش الديباج، وخبوا في أفواف الشاهي، وتأنقوا في ألوان الطعام، وتنبلوا بالمظاهر الفخمة، وسردوا أعداد الدنانير على المسابح العِطرة. وكان أسلافهم طيب الله ثراهم كما طيب ذِكراهم يتسترون بمرقعات القطن، ويتبلغون بقشور البطيخ، ويستروحون النسيم على شرفات المآذن

ثم شايعوا أهواء الناس، وصانعوا أهل النفوذ، وجَرَوا في تمكين أمورهم وترفيه نفوسهم على الضراعة والملق؛ من أجل ذلك فقدوا خطرهم في الخاصة، وأثرهم في العامة، وجروا معهم كرامة الدين إلى هذا المنحدر

ان في بقية السلف من أعلام الأزهر مَفْزعاً من هذه الحال الأليمة. فليعملوا لرد هذا المعهد الكريم إلى نظامه، فان شديداً على النفس أن يضطرب فيه الأمر ويشرى به الفساد حتى تطرد طلابه، وتغلق أبوابه

لقد قرأت بالأمس فصلا عن الإسلام في مجلة شهرية فرنسية يقول كاتبه فيه: (لقد انحسر الإسلام عن بلاده أو كاد، فلم يبق داوياً متوثباً إلا في الزهر) فماذا عسى أن يقول هذا المأفون إذا قيل له غداً إن هذا الدوي قد سكن، وهذا التوثب قد قر؟

لا جرم أن المخلصين من علماء الأزهر وأبنائه أقدر على درء هذه الكارثة متى أنضجوا الرأي وأجمعا الكلمة؛ والحكومة القائمة أربأ بعهدها عن هذا الحدث، وأضنُّ بتاريخها على هذه الصفحة؛ وليس في مصر ولا في غير مصر ضمير نزه يرضيه أن تعبث الشهوات الرعن بهذا المعقل الديني الذي عصم القرآن ولغته وعلومه من طغيان الأحداث والفتن عشرة قرون

أحمد حسن الزيات