مجلة الرسالة/العدد 859/مرثية طائر
→ في الأيام الخوالي | مجلة الرسالة - العدد 859 مرثية طائر [[مؤلف:|]] |
قلب يتعذب ← |
بتاريخ: 19 - 12 - 1949 |
للأستاذ محمد إبراهيم نجا
قصيدة رمزية في رثاء الصديق الكريم، والشاعر العظيم
الأستاذ علي محمود طه، فقيد الشعر العربي.
طائر كان في ذرى الأغصان ... يتغنى بأجمل الألحان
كان يحيا كما يشاء طليقاً ... وطروباً كما تشاء الأماني
سابحاً في الفضا حبيناً، وحيناً ... ثاوياً في خميلة الفينان
كان ملء الوجود صوتاً ندياً ... حافلاً بالحنان والتحنان
عاش أيامه بإحساس فنا ... ن، وأحلام عاشق ولهان
طالما هز بالغناء قلوبا ... عذبتها الأيام بالأشجان
وسقاها الرحيق وهي ضماء ... تشتكي من مرارة الحومان
كان روحاً مجنحاً في سماء ... تتحلى بأجمل الألوان
صاغه الله من ضياء وعطر ... وصفاء ورقة وحنان
هام بالنور والظلال، ولكن ... لم يهم بالضباب كالغربان
كلما هزه الجمال تغنى ... بأغان تهز قلب الزمان
كان قلباً كأنه همس ناي ... عانقته ترنيمة من كمان
يزدهيه الجمال في كل شيء ... وهو بالحب دائم الخفقان
أسكرته الحياة بالوهم حتى ... ليرى الغيب مائلاً للعيان
يبصر النور والوجود ظلام! ... ويحس الربيع قبل الأوان!
ويرى الروض في القفار، ويشفي ... هـ سراب من حرقة الضمآن!
خير ما في الحياة وهم جميل ... في حياة المتيم الهيمان
هكذا عاش ذلك الطائر الشا ... دي، يغني في غبطة وأمان
فهو أنس وسلوه وعزاء ... في حياة المعذب الحيران
غير أن الزمان، وهو بكاءٌ ... من غناءٍ وفُرقةٌ من تدان أبصر الطائر العزيز يغني ... في الأعالي بقلبه النشوان
فرمى قلبه بسهم رهيب ... مستطار من قوس الرنان!
فهوى مسبل الجناح، يعاني ... من جراح بقلبه ما يعاني
فهفت نحوه الطيور، وناحت ... إذ رأت جرحه عميق المكان!
وانحنت فوقه، وطارت به تس ... عى إلى عشه الجميل الحاني
وأست جرحه بوحي هواها ... والهوى بلسم الجريح العاني
ومضت حقبة، فصار كما كا ... نت تراه في سالف الأزمان
فاستفاض السرور في كل قلبٍ ... وتعالى الفناء في المهرجان
جملت عشه بزهر ندى ... أنبتته له روابي الجنان
ثم قالت له: ليهنك. رنمِّ ... بالأغاني في ظل تلك المغاني
ثم حلق في كل أفق جميل ... يتلقاك بالسنا الفتان
هكذا قالت الطيور، ولكن ... رنَّ صوت الغناء في الوجدان!
رفع الطائر العزيز جناحاً ... فارتمى عاجزاً عن الطيران!
قلَّبته فما رأت غير جسم ... غادرته الحياة منذ ثوان!
لمحة وانطوت حياة تروَّى ... كل حي من نبعها الريان!
والذي لم يسعه كون رحيب ... دفنوه في حفرة بمكان!
والذي عاش في الحياة طليقاً ... جعلوا قيده من الأكفان!
أيها الطائر العزيز وداعاً ... بل لقاء في عالم غير فان
يا رفيقي الذي عرفت هواه ... حين كان الشباب في الريعان
وبقلبي سقيته صفو ورودي ... وبأصفى مما سقيت سقاني
أبعدتني عنك الحياة، وكنا ... نتلاقى في أكثر الأحيان
فتصبرت حين قلت لنفسي: ... عن قريب يكون يوم التداني
وطواك الفناء، فاليوم أطوي ... ما بقلبي من أمنيات حسان!
ليت هذا الفناء لم يدع يوماً ... شخصك المفتدى، وكان دعاني
ما له يؤثر البقاء لنفس ... لا ترى في البقاء غير الهوان؟! والتي ثؤثر البقاء نراها ... غرضاً للفناء في كل آن!
كم تعرضت للفناء بنفس ... فعداني كأنه ما رآني!
عبث هذه الحياة، وفوضى ... ما نراه في هذه الأكوان
ولو أن الحياة تنظم شعراً ... جعلت شعرها بلا أوزان
ولو أن الحياة ترسل نثراً ... جعلت نثرها بغير معان
يا رفيقي تدري بأن حياتي ... ملأت بالدموع كل دناني!
يا رفيقي تدري بأني غريب ... بين قومي! أجل، وفي أوطاني
يا رفيقي تدري بأني وحيد ... في حياتي إلا من الأحزان!
قد شربت الأحزان من كأس أيا ... مي بروحي ومهجتي وكياني
وألفت النواح دهراً، فلو شئ ... تُ غناء، بقلبي الأغاني
أنا أبكيت يا رفيقي، وأرثي ... لشباب بكيته وبكاني!
أنا أبكيت يا رفيقي، وأبكي ... من حياة بها الزمان رماني!
تنثر الشوك في طريقي، وأزها ... رُ الروابي تود لو تلقاني!
تملأ الكأس من دموعي وتسقي ... ني، وكم قلت: يا حياتي كفاني!
شهد الله أن طيفك دان ... إن يكن صار شخصه غير دان
شهد الله أن ذكراك أقوى ... في حياة الورى من النسيان
وأغانيك تملأ الكون سحراً ... بصداها المنغم الرنان
عش قرير الجفون في عالم الخل ... د وغرد في جنة الرضوان
ولعل الحياة تخلي سراحي ... وعسى الموت أن يكون اصطفاني
إبراهيم محمد نجا