مجلة الرسالة/العدد 859/صور من الحياة
→ علي محمود طه | مجلة الرسالة - العدد 859 صور من الحياة [[مؤلف:|]] |
اللغة الفلسفية عند ابن سينا ← |
بتاريخ: 19 - 12 - 1949 |
قسوة!
للأستاذ كامل محمود حبيب
طلع إلى الحياة طفلاً ضئيلاً يعاني الضوى من سغب، ويشكو الهزال من شظف، ويقاسي الهم من ضياع؛ يقيم على الطوى، ويغض بالضنى، ويشرق بالضيق، وتعلم من أبيه - أول ما تعلم أن المال هو الغاية العظمى، وأنه هو الهدف الأسمى. ورأى أباه وهو رجل ريفي فظ الطبع غليظ القلب شحيح النفس، ينهره في جفوة أن طوعت له نفسه أن يسأله قرشاً، ويرده في غيظ أن طلب إليه حاجة. ثم شعر بابيه وهو يقذفه إلى المدرسة هناك في المدينة ثم ينطوي عنه كأنما نسي أن له في المدينة ابنا ينظر حواليه في حيرة وقلق فيرى أبناء الناس يعيشون في دنيا غير دنياه، ويرفلون في طفولة غير طفولته، وينعمون بعيش غير عيشه، فأنضم على شجن انهمر في قلبه الغض وهو ما يزال لدى الأفق الشرقي من الحياة، انضم إلى شجن عارم فوّار لأنه لا يجد القرش؛ وهو نعيم الحياة ولين العيش ونور العين وبهجة القلب وسرور النفس. وأحس في حاجته إلى المال خشية أورثته الاستخذاء، وضعه علمته الذل، وصغاراً وسمه بالهوان، فأخذ حب المال يتدفق في قلبه جارفاً يصرفه عن إنسانيته ورجولته وكرامته جميعاً؛ والسنون تنطوي، حتى تخرج من مدرسة التجارة المتوسطة، وعين موظفاً ببنك مصر.
وظن رفاقه أن راتبه كفيل بأن يهيئ له حياة كريمة طيبة تخلع عنه ثياب رثه زريه، وتنفض عنه عفر الحاجة وغبار المسكنة وتنسق ما تشعث من حاجاته ومن خواطره، ولكن الأيام راحت تنطوي في غير ريث ولا مهل، وهو في زيه القديم البالي لم يبد علية اثر النعمة ولا سمات الخفض لأنه لا يهدف إلى غاية سوى أن يجمع المال ويكدسه فيحرص عليه فلا ينفقه ولا يبذره. وتقزز زملاءه في البنك من هذا المظهر الوضيع ومن اللباس القذر ومن الوجه الأغبر ومن الشعر المشعث، وأنفوا أن يندس في زمرتهم فتى تشغله الكزازة عن الكرامة ويصرفه الشح عن الترفع فأجمعوا أمرهم على أن ينشروا الخبر على عيني المدير؛ وثار المدير لما سمع فما تلبث أن جذبه من البنك ليقذف به في مخزن الحبوب ليتوارى هناك خلف سحابه كثيفة من الغبار الثائر، وليتيه في ضجة الع الصاخب بين الحمال والعامل. وانطلق الفتى إلى عمله الجديد هادئاً لا يستشعر الحيف ولا يحس الجور.
وجاء أبوه - ذات مرة - يحدثه حديث الزواج، فدفعه عنه في رفق ودعه في هوادة، وهو يقول (دع عنك، يا أبي، هذا الحديث. فإن تكاليف العروس وحاجات الزوجة ورغبات الولد أشياء تبهظ الغني وتثقل كاهل الثري. فما بالي وأنا - كما تعلم - موظف صغير أحس الإرهاق والضيق وأشعر براتبي ينوء بأعبائي وأنا عزب. . .) فقال الأب في هدوء (لا بأس عليك أن تعللت بالضيق أو تذرعت بالحاجة ولكن الزوجة المنتظرة فتاة من ذوي قرابتك، ريفية المنشأ والمربى، تقنع بالضئيل وترضى بالتافه، لم يبهرها زخرف الحياة ولا خطفها ألق الحضارة. ثم هي يتيمة، مات أبواها منذ سنة واحدة فورثت عنه كذا وكذا من الأفدنة. . .) فهمس كأنما يتحدث إلى نفسه وقد بدا في نبرات صوته أن أسهل وانقاد (أنها ثروة. . . ثروة طائلة، تكفل لي حياة ناعمة) وأجاب الأب (إنك - ولا ريب - ستجد إلى جانبها راحة القلب وهدوء النفس ورغد العيش. فقال الفتى (ولكني أعجز عن أن أدفع المهر) فقال له أبوه (أما المهر فسأحمل عنك بعضه ليكون ديناً عليك تسدده بعد سنة من زواجك، أي بعد سنة من استيلائك على ثروة الزوجة المنتظرة) وانفرجت أسارير الفتى وتبسط في الحديث، وأقبل إلى أبيه يسأله (أو أستطيع أن أنزع ثروة زوجي من يد أخيها الأكبر؟) فأجابه الأب في ثقة واطمئنان (ومن ذا عساه يمنعك من أن تقوم على شأن زوجك؟) وفي ضحى اليوم التالي انطلق الفتى وأبوه إلى القرية. . . إلى دار العروس. وتحدثا إلى أخيها الأكبر، وهو - إذ ذاك - الوصي على مالها، فما تعسر عليها وما تمنع، فما لبثت الفتاة أن سميت إلى الفتى، وخرج الفتى من دار الفتاة وهو يتوثب فرحاً وسروراً ويتألق بهجة وأملاً.
ورأى الوصي الفتى يسر إلى أبيه بأمر فأحس بما يحس به الثري يقهق جيبه حين يسمع همسات اللص تطوف حواليه فتفزعه عن الأمان والقرار. ولكنه رجل ذو حيله وخداع وذو مكر ودهاء فأسر في نفسه أمراً.
وراح الوصي يعد الجهاز؛ ينفق عن سعة ويبذل في سخاء، يستفرغ الجهد ويستنفذ الوسع، والفتى يرى ويبسم لأنه يستشف آثار البذخ والإسراف فيخيل إليه أن الرجل يكلف نفسه فوق طاقتها ليرضى هو ولترضى الزوجة، فاطمأنت نفسه وسكنت نوازعه، ثم انطلق ليهيأ لنفسه حاجاتها ويعد للعرس طلباته، يغرق في الأنفاق ويفرط في العطاء حتى كاد أن ينفذ وفره، وفي رأيه أنه يوشك أن يعوض ما فقده وأن يسترد ما أنفق.
وانطوى شهر العسل، والفتى يمرح في بحبوحة من النعيم فيها الصفاء والدعة، ويرشف رضاب حياة سعيدة طبية فيها الهدوء والطمأنينة. انطوى شهر العسل، ثم آفاق الفتى فإذا يده صفر إلا من راتبه، وإذا مال زوجته بين يدي أخيها الأكبر لم ينزل له عن شبر واحد. وأحس الفتى بالألم يخز قلبه وخزات عنيفة قاسية لأنه أضاع ما ادخر في سنوات، ولكن صبابة من الأمل كانت تعاوده - بين الفينة والفينة - فيطمئن لها قلبه وتسكن ثائرته
وحين أحس الفتى الضيق والعنت، انطلق إلى شقيق زوجته يطلب إليه أن ينزل له عن مال زوجته. غير أن الرجل ربت على كتف الفتى في هدوء وهو يقول (إنك فتى صغير السن، لا تستطيع أن تشرف على أطيان زوجك) وأحس الفتى أن الرجل يسخر من غفلته في غير رفق ويهزأ من طويته في غير لين، فهم يريد أن يثور في وجهه ولكن الرجل عاجله بقوله (أتذكر، يا أخي، أن جهاز العروس قد كلفها نيفاً وألف جنيه، وهذا دين على زوجتك أنتظر وفاءه؟ فأطيانها بين يدي رهينة حتى تفي أنت بدينها أو تفي هي. . .) وهبطت كلمات الرجل على قلب الفتى صفعات شديدة تهد من قوته وتعصف بكيانها، ولكن لم يستطع أن يفعل شيئاً، فأنفلت من لدن الرجل وقد ارتاع واستطار لبه.
وبدا للفتى إنه خسر في شهر واحد كد سنوات طواها يستمرئ ضنك العيش ويستعذب جدب الحياة ويتلذذ بالحرمان، ليكون بعد سنوات - رجلاً فيه الثراء والغنى. . . بدا له أنه أضاع ماله فاستشاط غيظاً واحتدمت الثورة في قلبه، ولكن.
وانطوت الأيام فإذا الفتى قد انتكس إلى حاله الأولى، يستمرئ ضنك العيش ويستعذب جدب الحياة ويتلذذ بالحرمان ثم راح يضرب زوجته بالجوع والعرى في خشونة وعنف، لا تأخذه شفقة ولا ينبض قلبه برحمة. والفتاة صابرة لا تتحدث بما تعاني ترفعاً منها وكبرياء، ولا تشكو قسوة الزوج آنفة منها سمواً - حيناً - على هم يضطرم في قلبها عسى أن تجد الرقة في زوجها أو تحس الرأفة من أخيها، والأيام تمر.
وضاقت نفس الزوجة بما تقاسي ونفذ صبرها، فانطلقت إلى أخيها تبثه شكواها وتسر إليه بكربة نفسها، فما ألقى إليها السمع إلا ريثما يقول لها في فتور (وماذا أعجبك من هذا الفتى الوضيع القذر؟ لو شئت وجدت عندي الرحب والسعة)
وخرجت الفتاة من لدن أخيها الأكبر وقد حطمها الأسى وارمضها الغم، لأنها فقدت العطف من قلب زوجها، وفقدت الحنان من قلب أخيها.
وخشيت أن يجرفها تيار الحاجة إلى الهاوية فآثرت أن تستقر في دار أخيها علها تدرأ هناك غائلة السقوط والانهيار وهي تشعر بالشيطان يوسوس لها بأمر؛ وعلها تسترد ما انطبعت عليها من أنفة وإباء فهل وجدت في دار أخيها غناء عن الزوج والابن، وهما روح الحياة وبهجة العمر وسعادة القلب؟
يا عجباً للنفس الإنسانية حين يطغي عليها حب الذات، ويعميها شر المال، فتنزل عن الشرف والكرامة والإنسانية جميعاً.
كامل محمود حبيب