مجلة الرسالة/العدد 859/الأدب والفن في أسبوع
→ قلب يتعذب | مجلة الرسالة - العدد 859 الأدب والفن في أسبوع [[مؤلف:|]] |
البريد الأدبي ← |
بتاريخ: 19 - 12 - 1949 |
للأستاذ عباس خضر
هل تقدمنا في الميدان الاجتماعي؟.
جرت يوم السبت الماضي مناظرة في القاعة الشرقية بالجامعة الأمريكية موضوعها: (لقد تقدمنا تقدماً مرضياً في الميدان الاجتماعي) أيد الرأي رجلان هما الدكتور محمد عوض محمد بك والدكتور محمد صلاح الدين بك، وعارضه سيدتان هما السيدة زاهية مرزوق والسيدة أسمى فهمي. وقد بدأ الكلام الدكتور عوض فقال إن وجود هاتين السيدتين الفاضلتين بهذا المكان الآن في هذه المناظرة دليل على التقدم الاجتماعي الذي نؤيده، فهما بنشاطهما المعروف تدلان على تقدم المرآة المصرية.
وألقت السيدة زاهية مرزوق كلمة طيبة تضمنت نظرات فاحصة في أحوال المجتمع المصري وأيدت آرائها بالإحصاء ونتيجة البحوث العلمية الاجتماعية، وقد تعرضت لعدة نواح مهملة في مجتمعنا كالأمومة والطفولة ومستوى المعيشة وانحطاط المساكن في الريف ومما قالته أن المطاعم الشعبية التي تقام في المدن تنشئ جيوشاً من الشحاذين، فما هي إلا صورة أخرى من الشحاذة إلى جانب توزيع الخبر والفول النابت أمام المساجد والأضرحة، وهذه المطاعم تلجأ اليها الأمم في حالات الضرورة للمنكوبين واللاجئين في أيام الحروب، ولكننا في مصر اتخذناها نظاماً دائماً، فبدلاً من أن نساعد الناس ونمهد لهم كي يحصلوا أرزاقهم بعملهم نهدر كرامتهم بهذه الصورة التي لا تتفق والآدمية الكريمة. وقالت السيدة زاهية إن مما زاد مستوى المعيشة انحطاط الغلاء الذي كاد يذهب بالطبقة المتوسطة التي هي ميزان المجتمع وأصبحنا مهددين بانعدام هذه الطبقة بحيث تكون البلاد طبقتين طبقة عليا وطبقة سفلى، ولا شك أن إهمال طبقات الشعب يغرس في النفوس الشعور بالظلم، فتنعدم روح التضامن، وهذا يؤدي إلى التفكك الاجتماعي.
ووقف الدكتور صلاح الدين فقال أنه يشعر بالحرج إزاء هذا لبحث القيم الذي سمعه من السيدة زاهية، ولكنه مضى في تأييد الموضوع فذكر أننا حقيقة لم نبلغ أوج التقدم ولكننا تقدمنا تقدماً مرضياً في ربع القرن الماضي، ودلل على ذلك بالمقارنة بيننا وبين بعض الأمم المتأخرة! وبأن ممثلي مصر في حلقة الدراسات الاجتماعية التي عقدت بلبنان تحت أشراف هيئة الأمم المتحدة كانوا متفوقين بعددهم وبحوثهم وكانوا لا يقلون في مستواهم العلمي عن مندوبي أوربا وأمريكيا، وقال أن مصر تقدمت هذا التقدم رغم انشغالها بالنضال السياسي.
وقد ردت عليه السيدة أسمى فهمي، ومما قالته أن التناحر الحزبي والخصومات السياسية شغلت القادة والرؤساء عن الإصلاح الاجتماعي، وكان من الممكن لولا ذلك أن تنهض الأمة نهوضاً اجتماعيا كبيراً في هذه الفترة، واستدلت بما أحدثه محمد علي من الأثر في حياة الأمة المصرية في وقت قصير، وبنهضة تركيا الحديثة في زمن قليل.
والواقع أن حجج المؤيدين لم تستطع أن تقف أمام الحقائق الصارخة، ولا أشك في أن ذلك يرجع إلى ضعف جانبهما لا إلى عدم احتفالهما وإعدادهما وان كان ذلك ملحوظاً أيضاً. . . وقد طغت السيدة زاهية مرزوق على الجميع وكسبت الموقف حتى إنه عندما اخذ رأي الحاضرين لم يشذ عن القول بتأخرنا الاجتماعي سوى بضعة أفراد. وقد كانت هي - على خلاف ما قال عوض بك - دليلاً على الهوة الواسعة بين عدد قليل من النساء النابغات وبين سائر النساء الجاهلات. وقل مثل ذلك في علماء حلقة الدراسات، فليس وجود طبقة من المثقفين لدينا تماثل علماء الأمم الكبيرة يستلزم تقدمنا في الناحية الاجتماعية.
الأجسام العارية والفن الهزيل:
استفاضت الشكوى أخيراً من نشر الصور العارية في الصحف وإسراف السينما في عرض أجسام الممثلات والراقصات والمواقف الحيوانية بين الذكر والأنثى. وأرسل صاحب السمو الملكي الأمير محمد علي إلى رفعة رئيس الوزراء في شأن الصور الخليعة التي تنشرها بعض الجرائد والمجلات. فكان ذلك مثار اهتمام الحكومة بالأمر، وكتب رئيس الوزراء إلى الأمير الجليل بأنه معني بدرس أوجه العلاج الحاسم لهذا المرض.
أما الناحية الخلقية في هذا الموضوع فهي ظاهرة. والذي أقصد اليه هو أن ذلك العمل إنما يراد به ستر العجز الفني واتخاذ تلك المغريات أداة للترويج والربح المادي، فالمجلات التي جعلت من صفحاتها معارض للإثارة الجنسية إنما تلجأ إلى ذلك لأن أصحابها ليسوا من ذوي الرسالات الصحفية القلميه، وبدلاً من أن يتعبوا أنفسهم في التماس القوة التحريرية والمادة الصحفية القويمة يقدمون تلك الصور، وصارت الحالة إلى حد التنافس في ذلك، فإذا ظهرت مجلة بصورة بالغة في الإثارة حرصت الثانية على نشر صورة (أنأح) منها!
ولاشك أن الحكومة إذا منعت هذه البضاعة فأن أولئك الصحفيين يضطرون إلى كسب القارئ عن طريق الفن الصحفي المستقيم، فإذا أخفقوا في ذلك طهرت منهم الصحافة وأفسحوا للعناصر الصالحة النافعة.
وكذلك الحال في الأفلام السينمائية، فأن القائمين بها يوجهون همهم إلى جذب الجمهور بتلك الوسائل بدلا من أن يقدموا قصصاً ذات موضوعات قيمة، وقد أسرفوا في ذلك أخيراً إسرافا طغى على الناحية الفنية، فأصبح الفلم الناجح عندهم هو الذي يحتوي على تلك الأثارات دون اعتبار للقيم الإنسانية والاجتماعية التي تهدف اليها الفنون.
وإن واجب الدولة أن تحمي الفن الصحيح والذوق السليم من ذلك الانحدار البهيمي، وأعتقد أن الرقابة الحكومية لا تخدم الأخلاق، بل هي أيضا بذلك تعمل على ترقية الفن السينمائي وتصفية جوه من الدخلاء الذين لا يفهمونه إلا على هذا الوضع المذري. وهنا كما في الصحافة تطهير من أشياء القوادين وإفساح لذوي الكفايات الفنية، وعندئذ يكون التنافس في الإجادة الصحيحة وتقديم الإنتاج الجيد في ذاته.
فلم الأسبوع:
(التخت) في هذه المرة بسينما أستوديو مصر، وهو يتكون من فريد الأطرش وسامية جمال وإسماعيل يس ولولا صدقي وآخرين، فالأول مغن والثانية رقاصة والثالث مضحك والرابعة على الهامش الخ. . . ولابد من قصة تظهر فيها هذه (الكفايات) وقد جاءت القصة على وفق المراد. كنا نرى الأبطال في الأفلام الأخرى تخرج من المجتمع، لأسباب مختلفة، إلى المسارح والمراقص حيث تهيأ الفرصة لإظهار الرقاصة والمغني، أما هنا في فلم (عفريتة هانم) فتبدأ القصة على المسرح مباشرة، فالرقاصة علية (لولا صدقي) هي ابنة صاحب المسرح الاستعراضي الذي يعمل فيه المغني عصفور (فريد الأطرش)، ويملى صاحب المسرح على ابنته علية أن تغري الشاب الغني (ميمي بك) وتتصيده زوجاً لها، وتقوم بهذا الأغراء ويقع ميمي بك في شباكها فيخطبها إلى أبيها ويدفع إليه ثلاثة آلاف جنيه مهراً لها. ويظهر من خلال ذلك أن عصفور يحب علية ويرى علاقتها بميمي بك ولكنه لا ييأس. إذ يعتقد واهماً أنه تبادله الحب فيتقدم لخطبتها فيسخر منه أبوها ويطلب منه أن يمهرها ثلاثة آلاف جنيه.
ولكن السيد عصفور مفلس طروب. . . فماذا يصنع؟ لجأ إلى حديقة يغني فيها، وإذا شيخ عجوز يظهر له ويدور بينهما حديث عن القسمة والنصيب، ثم يختفي بعد أن يتفق معه على مقابلته في غار بجبل المقطم، ويذهب عصفور ومعه صديقه بُقًّو (إسماعيل يس) إلى الغار، ويظهر الشيخ في الغار فيدفع إلى عصفور مصباحاً، ويتلاشى الشيخ، ويقلب عصفور المصباح فتخرج منه العفريتة الحسناء كهرمانة (سامية جمال) وتقول له إنها تحبه منذ ألف سنه!
وتصنع كهرمانة أعاجيب، منها أن في الحال قصراً لعصفور وصديقه بقو، وتمدهما بالمال فيشتريان المسرح المقابل للمسرح الذي كانا يعملان به، وينافسان صاحبه، وتحضر رقاصة تشبهها تماماً ليغني لها عصفور وهي ترقص، واسم هذه سمسم (سامية جمال أيضاً) وفي أثناء ذلك تغازل كهرمانه عصفور وهو يغازل سمسم. ويتضايق أبو علية من هذه المنافسة وقد تحول الناس عن مسرحه إلى المسرح الجديد، فيبعث بابنتة إلى عصفور لتحاول مصالحته وإغراءه، فتاتي إليه وهو لا يزال يحبها فيرحب بها، ويأتي معها أبوها بعد ذلك ويتودد أليه، ثم تعلن خطبة عصفور لعلية، فتغضب سمسم وكهرمانه، وتعمل الثانية بأساليبها الخارقة على إفساد هذه الخطبة ومنع الزواج، فيغضب منها عصفور ويذهب إلى المصباح ويلقي به، فيأخذه الشيخ العجوز ويضع علية فيه. . . ويذهب القصر ويعود كل شيء إلى ما كان عليه.
ويغني عصفور ويظهر له الشيخ فيقول له إنه ضيع الفرصة التي لا يمكن أن تتكرر ومع ذلك يستطيع أن يسعد بسمسم. ويستأنف عصفور عملة على مسرحه، فيعد (أوبريت) وتظهر فيها سمسم وقد عادت إليه بعد أن هجرته غاضبة. وبعد انتهاء (الأوبريت) يظهران سعيدين في الختام.
ويقال إن القصة وضعها (أبو السعود الأبياري) تعرض لمسألة القسمة والنصيب وجزاء من لم يرض بما قسم له. وهذا كلام فارغ، لأن هذه مسألة قديمة مبتذلة، على أن تطبيقها في الفلم لا هدف له، فعصفور يحب علية وكل ما يريد أن يظفر بها فكيف يؤخذ عليه سعيه لنيل أمنيته ورفضه قسمة العفاريت؟ ثم إن صرفه عن حب عليه ليس طبيعياً وإنما هو مفتعل إذ نصحه الشيخ بحب سمسم. . . ومتى كان الحب بالنصيحة؟ وليس في القصة أي مغزى اجتماعي، بل هي بعيدة عن المجتمع العام فحوادثها تجري في بيئة (الأرتستات) تربط بينهما تلك الروابط الخرافية التي لا غاية لها سوى عرض الغناء والرقص.
والمجهود القيم (نسبياً) في هذا الفلم للمخرج (بركات) وهو الذي أجرى تقطيع القصة (السيناريو) فقد قام بعملة في الحدود المرسومة، ومما أجاد إخراجه المنظر الذي ظهرت فيه عليه وهي تحدث ميمي بك بالتليفون ويحدثها عصفور من وراء ستار إذ قالت له أنها تبدل ثيابها، فيجيء حديثها رداً على كليهما في آن، وأريد أن أسأل بعد ذلك: لماذا بدا القصر خالياً من الأثاث؟ وكيف عجزت العفريتة عن تأثيثه وهي التي أوجدته في طرفة عين. . .؟ وكيف وجد هذا القصر في القاهرة فجأة وذهب فجأة على أعين الناس؟!
وقد شاهدنا عصفوراً حين أزمع الذهاب إلى صاحب المسرح ليخطب عليه، مع أصحابه في سيارة قديمة يقودها، وهم يخترقون الشوارع في منظر غاية في التهريج السخيف، هو بغني وهم يتراقصون منظرفين، وهذا إنما هو أليق بالنسوة اللائى يركبن عربة (كارو) وينشدن (سلمى يا سلامه!) ومن أين لعصفور هذه السيارة (الملاكي) وهو يعمل بقروش في المسرح مهما كانت قديمة؟
وترى كهرمانه تعرض على عصفور أن ترقص أمامه على مسرحه الجديد، فيقول لها إن الناس لا يرون رقصها لأنه هو وحده الذي يراها، فتأتي له بسمسم، وكهرمانه تعرف أن الناس لا يرونها فكيف كانت تريد أن ترقص على المسرح؟
نخلص بعد ذلك إلى المقصود من هذا الفلم (الاستعراضي) هو الرقص والغناء، قيل إن عليه رقاصة مع أنها لم ترقص أبداً بل ظهرت على المسرح مع عصفور يغني لها وهي إلى صدره يتحسسها وتميل إلى عليه فقط! أما سامية جمال فقد رقصت ورقصت ويعتمد رقصها على رشاقة جسمها وإظهار مفاتنه، وليس وراء ذلك فن من تعبير.
أما فريد الأطرش فقد أمطر الفلم غناء. غناؤه كرقص سامية لا تعبير في كليهما، والأوبريت التي قدمها كلها تطريب فهو يقف ليغني ولا شيء وراء ذلك، فكل مواقفه (فواصل) غناء ليس إلا، وفن الأوبريت مظلوم! وهو يغني في موقف الحزن كما يغني في الفرح، ووجهه جامد في التمثيل أيضا، وان كان لا بأس به فيما عدا قصور وجهه في التعبير، وكان دوره ملائماً لشخصيته الهادئة، فلم يستفزه منظر حبيبته في أحضان غريمه، واكتفى بأن راح يستعد لخطبتها!
أما إسماعيل يس فقد أصبح دوره في الأفلام المختلفة أن يكون صديقاً للبطل بقصد التضحيك. وهو ظريف الشخصية أينما وضع، غير أن حظه من ذلك قليل في هذا الفلم.
عباس خضر