مجلة الرسالة/العدد 856/غزل أبي فراس
→ مكانة الدين في التعليم | مجلة الرسالة - العدد 856 غزل أبي فراس [[مؤلف:|]] |
الخطر إليه ودي ← |
بتاريخ: 28 - 11 - 1949 |
للأستاذ أحمد أحمد بدوي
غزل أبي فراس قصير النفس، لا يكاد يتجاوز ما أنشأه للغزل قصدا البيتين والثلاثة غالبا، مكتفيا بذلك في التعبير عما ألم به، من انفعال سريع.
أعرف شاعرنا الحب؟ أم أن غزله تقليدي لا ينبعث عن حب ولا عاطفة؟
أرجح أن الشاعر عرف الحب وتأثر به، بدليل هذه القطع التي نظمها خاصة في النسيب، ولم يقف عند حد المقدمات التي يفتتح بها بعض قصائده. ولم يكن أبو فراس ممن ينشئ الشعر إلا ترجمة لعاطفته، وتعبيراً عما في نفسه، ولكننا نكاد نلمس أن هذا الحب، ما كان يشغل من هذه النفسية الشاعرة إلا حيزاً محدوداً صغيراً، لأن هذا القلب الكبير كان في شغل بكبار الأماني وسامي الآمال، ولم يدع ذلك منه إلا فراغاً يسيرا تشغله هذه العاطفة القوية.
عرف شاعرنا الحب، ولعل من بادلها تلك العاطفة كانت قريبة له، وربما كانت جميلة بنت ناصر الدولة، فإنه أنشأ قصيدة يودع فيها بعض أهله، وقد خرجت تسعى إلىالحج، وهذه القصيدة تفيض بعواطف حارة متدفقة، ينم عنها بكاؤه، ويذكيها في صدره ما امتازت به تلك الفاتنة من غرام بالصون، وحب للحجاب حتى ليكاد وجهها تخفى معالمه على خدرها، وها هو ذا يقص علينا حديثه يوم سافرت تلك الحبيبة المصونة ولعلها جميلة:
أشيعه، والدمع من شدة الأسى ... على خده نظم، وفي نحره نثر
رجعت، وقلبي في سجاف غبيطه ... ولي لفتات نحو هودجه كثر
وفيمن حوى ذاك الحجيج خريدة ... لها دون عطف الستر من صونها ستر
وفي الكم كف لا يراها عديلها ... وفي الخدروجه، ليس يعرفه الخدر
وقد سجل في هذه القصيدة شعورا صادقا حيا. وإن شدة شعوره بحيوية تلك الحبيبة، جعلته يحس كأنها تبعث الحياة فيما يحيط بها، حتى في النبات والجماد، فيقول:
فهل عرفات عارفات بزورها ... وهل شعرت تلك المشاعر والحجر
أما اخضر من ريحان مكة ما ذوى ... أما أعشب الوادي؟ أما أنبت الصخر
وقد أنشأ هذه القصيدة في الغزل خاصة؛ وهي أطول شعره فيه، وربما ذاق من هذا الحب، ما شجاه حينا وأضناه، حتى صح له أن يقول:
أمعنية بالعذل، رفقا بقلبه ... أيحمل ذا قلب، ولو أنه صخر؟
عذيري من اللائى يلمن على الهوى ... أما في الهوى لو ذقن طعم الهوى عذر
ومنكرة ما عاينت من شحوبه ... ولا عجب ما عاينته، ولا نكر
وقائلة: ماذا دهاك تعجبا؟ ... فقلت لها: يا هذه، أنت والدهر
أبالبين، أم بالهجر، أم بكليهما ... تشارك فيما ساءني البين، والهجر
كان صدق إحساس أبي فراس بالحب ينبوعا لتعبيرات صادقة عن عواطف صادقة، فهو يخشى على حبيبه أن تمسه العيون بأذاها فيستحلفه أن يرد عليه لثامه:
أيا سافرا، ورداء الخجل ... مقيم بوجنته، لم يزل
بعيشك، رد عليك اللثام ... أخاف عليك جراح المقل
فما حق حسنك أن يجتلى ... ولا حق وجهك أن يبتذل
ويتقبل ظلم حبيبه، بنفس راضية، بل متلذذة بهذا الظلم:
وبعض الظالمين وأن تناهى ... شهي الظلم مغفور الذنوب
ويقر أنه مذنب، وإن لم يجن ذنبا، ويتوب عن إثم لم يقترفه
أقر له بالذنب، والذنب ذنبه ... ويزعم أني ظالم فأتوب
ويقصدني بالهجر علما بأنه ... إلى، على ما كان منه، حبيب
ويجد في الهجر القصير الأجل لذة تجدد الحب:
إنما يحسن التهاجر يوما ... فإذا كان دائما فقبيح
كل هجر يدوم يوما إلىالليل، ويفنى، فذاك هجر مليح
ويتخيل حبيبه وقد غاب عنه، فيصوره في شعره، ويتساءل: أينساه وقد غاب عنه:
وبالدارين إنسان ... له في القلب داران
إذا ما ماس في القر ... طق، يسعى بين أخدان
رأيت البدر فدبا ... ن، على غصن من ألبان
وخدا يجتنى الور ... د، به، في كل إبان
ألا يا صاحبي رحلي، بالله أجيباني ترى من لست أنساه ... على الحالات ينساني
ويتحمل إدلاله ويحفظ عهده، لأنه ليس له عنه معدي ولا متحول:
نبوة الإدلال ليست ... عندنا ذنبا يعد
قل لمن ليس له عهد: لنا عهد، وعقد
جملة تغني عن التفصيل: مالي عنك بد
إن تغيرت فما غير منا لك عهد
ويقبل ذلة الحب برغم أنه أمير من بيت الملك:
وباخلة أنالتني قليلا ... وقد يرضى القليل من البخيل
قنعت به، وكنت أظن أني ... عزوف النفس عن نيل قليل
ولكني وجدت الحب يكسو ... عزيز القوم أثواب الذليل
وما كان يرى ذل الحب إلا عزاً:
بنفسي التي أخفت مخافة أهلها ... وداعي، وأبدت حين أبدت لنا رمزا
فلم أر مقتولين: مثلي ومثلهما ... أذلاً، وإن كان لعمر الهوى عزا
ويستسلم للحب، وأن قوبل بالجفاء:
وكنى الرسول عن الجواب تظرفا ... ولئن كنى، فلقد علمنا ما عنى
قل يا رسول، ولا تحاش، فإنه ... لابد منه، أساء بي، أم أحسنا
الذنب لي فيما، لأنني ... مكنته من مهجتي، فتمكنا
ولكنه يثور على الحب إذا كان فيه غدر وخيانة:
الآن حين عرفت رشدي، ... واغتديت على حذر
ونهيت نفسي فإنتهت، ... وزجرت قلبي فإنزجر
ولقد أقام على الضلالة، ... ثم أذعن واستقر
الحب فيه مذلة، ... إلا على الرجل الذكر
هيهات، لست أبا فراس، ... إن وفيت لمن غدر
وتلك ثورة نفسية، تدرك المحب إذا رأى الغدر ممن يحب هذا، وأرجح أن الحب الذي كان بينه وبين قريبته كان حبا طاهرا عفيفا، تحوطه شدة الصيانة من جانب الحبيبة. وأغلب الظن أن هذه الليالي التي غلب الخمر فيها عقل من يهوى، والتي يصف واحدة منها بقوله:
وزيارة من غير وعد ... في ليلة طرقت بسعد
بات الحبيب إلىالصباح ... معانقي، خدا لخد
يمتار في وناظري ... ما شئت من خمر وورد
قد كان مولاي الأجل ... فصيرته الراح عبدي
ليست بأول منة ... مشكورة للراح عندي
لم تكن مع هذه القريبة المحتشمة.
وقد ذكرنا أن أبا فراس قد أخذ بنصيب من اللهو، ولعله كان يرى أن الحب لا يحول بينه وبين المتعة، إذا ظفر بها.
ومن مجموعة شعر أبي فراس نستطيع أن نرسم صورة للمرأة المثالية عنده، فهي البيضاء، المتوردة الخد، الفاترة الجفن، ذات الشعر الفاحم، الممشوقة القد، الناهدة الصدر، الهيفاء الخصر، في غير هزال.
وتغزل أبو فراس بالغلمان كذلك؛ وإن هذا الداء الوبيل قد وجد سبيله إلىقلب شاعرنا؛ وكانت البيئة التي عاش فيها تساعد عليه؛ فقد كان أميره ومثله الأعلى سيف الدولة يعشق غلاما تركيا اسمه يماك.
تغزل أبو فراس في غلمانه، وترك من هذا الغزل مقطوعات قصيرة كذلك، وبعضها يفيض بالرقة والحنان، يقول:
الورد في وجنتيه ... والسحر في مقلتيه
وإن عصاني لساني ... فالقلب طوع يديه
يا ظالما، لست أردى ... أدعو له، أم عليه
واسم هذا الغلام منصور، وله غلمان أخر، وإن كان لمنصور الغلب على قلب الشاعر. ولسنا ندري جنسيته على وجه التحقيق، ولا أن كان المقصود بتلك الأبيات التي يتغزل فيها بمملوك فارسي، وقد أستغل الشاعر فيها معركة ذي قار، التي كانت لقبائل العرب ومن بينها تغلب قبيلة الشاعر على الفرس، وقد أحسن هذا الاستغلال حين قال:
بأبي شادن، بديع الجمال ... أعجمي الهوى، فصيح الدلال سل سيف الهوى على، ونادي ... يا لثأر الأعمام والأخوال
كيف أرجو ممن يرى الثأر عندي ... خلفا من تعطف ووصال
ما درت أسرتي بذي قار أني ... بعض من جندلوا من الأبطال
أيها الملزمى جرائر قومي ... بعد ما قد مضت عليها الليالي
(لم أكن من جناتها علم الله، وإني بحرها اليوم سالي)
ولأبي فراس، غير هذا الغزل الحقيقي، غزل تقليدي يفتتح به قصائده، ولا يريد به غالبا التعبير عن عواطف تجيش في نفسه. وهو في هذا الغزل يتشبه بالأقدمين في وقوفهم على الديار، وسؤالهم الأطلال:
على لربع العامرية وقفة ... يملى على الشوق والدمع كاتب
فلا، وأبى العشاق، ما أنا عاشق ... إذا هي لم تلعب بصبري الملاعب
ومن مذهبي حب الديار لأهلها ... وللناس فيما يعشقون مذاهب
وفي هذا الغزل التقليدي يبدو الضعف، والمغالاة والصناعة اللفظية، وتكرير المعاني المألوفة، ولا تحس بروح الغزل القوية المتدفقة، وأي قوة في قولة:
قلوب فيك دامية الجراح ... وأكباد مكلمة النواحي
وحزن لا نفاد له، ودمع ... يلاحي في الصبابة كل لاح
أتدري ما أروح به، وأغدو ... فتاة الحي: حي بني رياح
ألا يا هذه، هل من مقيل ... لضيفإن الصبابة أو مراح
وترى التشبيهات المتداولة بالشمس والغزالة والأقحوان، كما تلحظ في هذا الغزل أيضاً التناقض، وعدم الوقوف عند المعقول. نجد هذا التناقض في قوله:
إن الحبيب الذي هام الفؤاد به ... ينام عن طول ليل، أنت ساهره
ما أنس لا أنس يوم البين موقفنا ... والشوق ينهى البكا عني، ويأمره
وقولها، ودموع العين واكفة ... (هذا الفراق الذي كنا نحاذره)
فحبيب تكف دموعه ويحذر الفراق، لا ينام عن طول ليل يسهره صاحبه، ويبدو البعد عن حدود المعقول في قوله:
تسائلني من أنت؟ وهي عليمة ... وهل بفتى مثلي على حاله نكر فقلت كما شاءت وشاء لها الهوى ... قتيلك، قالت: أيهم فهم كثر
ووجه الغرابة في هذا أن الشاعر قد أخبرنا في هذه القصيدة عينها أنها قد وعدته بالوصل، وأنه أحب البدو من أجل حبها، وحارب قومه في سبيل هواها، ولا يعقل بعد ذلك أن تجهله الحبيبة ولا تدري من هو؟ وهي التي يقول فيها:
معللتي بالوصل، والموت دونه ... إذا مت ضمآنا فلا نزل القطر
بدوت، وأهلي حاضرون، لأنني ... أرى أن دارا لست من أهلها قفر
وحاربت قومي في هواك، وإنهم ... وإياي - لولا حبك - الماء والخمر
نلحظ في غزل أبي فراس، سواء الحقيقي منه والتقليدي، أنه غزل فارس، تلمس فيه روح الفتوة، وتجد منثوراً بين أبياته لغة الفرسان المحاربين، ويأخذ من هذه اللغة تشبيهاته واستعاراته، فتسمعه يقول:
أغرن على قلبي بخيل من الهوى ... فطارد عنهن الغزال المغازل
بأسهم لفظ لم تركب نصالها ... وأسياف لحظ، ما جلتها الصياقل
وقائع قتلى الحب فيها كثيرة ... ولم، يشتهر سيف، ولا هز ذابل
أراميتي، كل السهام مصيبة ... وأنت لي الرامي، فكلي مقاتل
ويقول متعجباً كيف يمد حبيبه جيش سقامه بالهجر، فينصره:
بالله ربك، لم فتنت بصبره ... ونصرت بالهجران جيش سقامه
وفي سبيل طاعة الحب، قد استشهد الصبر والسلو:
مالي بكتمان هوى شادن ... عيني له عين على القلب
عرضت صبري وسلوى له ... فاستشهدا في طاعة الحب
ويشبه طرة من يحب بالزرد المضاعف:
ومرتد بطرة ... مسدولة الرفارف
كأنها مسبلة ... من زرد مضاعف
أبو فراس حين يجعل الغزل مقدمة لإغراض أخرى، يجتهد غالبا في أن يجعل روح الغزل مناسبة لروح الموضوع الذي يقصد إليه، وهل أنسب من هذا الغزل العاتب يبدأ به عتابه لسيف الدولة: أما لجميل عندكن ثواب ... ولا لمسيء عندكن متاب
أو أنسب من البدء بإهداء التحية لمن يحبها، في قصيدة يحيي بها إخوانه في الموصل، إذ يقول:
سلام، رائح، غادي ... على ساكنة الوادي
أو من البدء بهذا الغزل الحزين، الذي يشكو الفراق في قصيدة أرسلها إلىأخيه، وهو أسير:
فديتك إني للصبابة صاحب ... وللنوم مذ زال الخليط مجانب
وما أدعي أن الخطوب فجأنني ... لقد خبرتني بالفراق النواعب
ولكن الشاعر في أغلب الأحيان، ما كان يحسن التخلص من الغزل إلىالغرض المقصود، بل كان انتقاله فجائيا، وهو في ذلك يشبه البحتري زعيم شعراء الشام. فها هو ذا - مثلا - يتغزل، ويختم غزله بقوله:
وقد عاديت ضوء الصبح حتى ... لطرفي عن مطالعه ازورار
ثم ينتقل إلىالفخر قائلا من غير أن يحسن التخلص:
ومضطغن يرواد في عيبا ... سيلقاه إذا سكنت وبار
وفي بعض الأحيان يحسن التخلص، كما في تلك القصيدة التي بعث بها إلىابن عمه أبي زهير، وفيها يقول:
يا أخي يا أبا زهير، ألي عندك عون على الغزال الغرير -؟
لم تزل مشتكاي في كل أمر ... ومغيثي وعمدتي، ومشيري
وهكذا يمضي في حديث أبن عمه.
وقبل أن أختم الحديث عن غزله، أشير إلىما يبدو في هذا الغزل حينا، من شعور أبي فراس بنفسه محبوبا، وأنه ليس شخصا عاديا، ولكنه محب جدير أن يقابل بغبطة من يحبه، وأن يضم عليه بالنواجذ، فتسمعه يقول:
أجملي يا أم عمر ... زادك الله جمالا
لا تبيعني برخص ... إن في مثلي يغالي
بل لقد تدلل مرة على من يحب، حتى شكته إلىإحدى جاراتها:
قامت إلىجارتها ... تشكو بذل وشجا: أما ترين ذا الفتى ... مر بنا ما عرجا
إن كان ما ذاق الهوى ... فلا نجوت إن نجا
وليس ببعيد أن تعجب بأمير وسيم مثله، بعض أولئك الجميلات اللاتي كن يرينه في غدواته وروحاته.
أحمد أحمد بدوي
مدرس بكلية دار العلوم