مجلة الرسالة/العدد 856/الأدب والفن في أسبوع
→ تعقيبات | مجلة الرسالة - العدد 856 الأدب والفن في أسبوع [[مؤلف:|]] |
البريد الأدبي ← |
بتاريخ: 28 - 11 - 1949 |
للأستاذ عباس خضر
فقيدنا الشاعر علي محمود طه:
ما كدنا نستبشر بإبلال صديقنا الشاعر الكبير علي محمود طه حتى فوجئنا وفجعنا بفقده. حسبنا أن الأقدار قد خففت عنا ما أصابنا من الهم لمرضه، وأنا سنسعد بسلامته واستئناف صحبته، فإذا هي تصب علينا نعيه فتغرقنا في الهم والأسى، وإذا نحن نلقاه مسجى في نعشه، في اليوم الذي قدرناه للفرح برؤيته بعد مبارحة المستشفى، فياله من لقاء!
قضينا هذه الأيام، وما نزال، في غمرة الأسى، لا نستطيع غير الوجوم الحزين، فما لقيت أحدا من إخواننا الأدباء حتى ذكرنا الفقيد العزيز وتبادلنا النظرات المفصحة عما يعلو الوجوه من الكآبة، نلوذ بالصمت خشية التهدج، ونختلس مسح العبرة، لإظهار التجلد، وإيثار التجمل.
كان لعلي محمود طه شخصية واضحة جذابة، وكان وضوحها ينم على ما فيها من طيب وصفاء. ويخيل إلي أنه ترك كل من عرفهم أصدقاء، فلا يملك من يعرفه إلا أن يحبه، فقد كان إنسانا نقيا مما يشوب الإنسانية الصافية؛ كان مرحا طروبا، أقبل على الحياة بنفس مبسوطة لا تعقيد فيها، فراح يستشعر ما فيها من جمال، بحس الشاعر المرهف، يعب من مواردها ما يحيله إلىفن جميل، ويرتاد آفاق الحسن في الشرق والغرب، ثم يصوغه شعراً خالداً ولحنا يتغنى به الزمان. لم ينغصه غير العلة التي عصفت به وهو يغرد على أفنان هذه الحياة ليجعلها متاعا وبهجة لمن يصغي إليه، ولكن طبيعتها القاسية غلبته على أمره، فصار الأمر من بعده لوعة وحسرة بعد المتاع والبهجة.
كان على محمود طه حلقة في سلسلة تطور الشعر العربي الحديث، تتميز بالأصالة المبينة، وأعني بكل كلمة من هاتين الكلمتين معناها الواسع؛ فقد كان أصيل الشاعرية، لوى شعره عن التقليد والترديد، وقصد إلىمشاعره وخواطره لا يحرص على شيء قدر ما يحرص على أدائها وإبرازها؛ وكانت إبانته تتمثل في حسن تأتيه وبعده عن الخيال المجدب وعن الإيغال في الأجواء التي لا يأتي الموغل فيها بشيء، فكان حذواً بين المدرسة القديمة الجامدة والمدرسة الحديثة المضطربة، أو قل أنه كان يمثل المدرسة الحديثة كما ينبغ تكون.
وكان بيانه وأصالته يرتكزان على ثقافة واسعة منوعة، هضمتها طبيعته الفنية وتمثلتها، فقد اغترف من الآداب المختلفة واستوحى البيئات المتباينة، وسيطر على كل ذلك بقوة هضمه، وضبط مقايسه بفنه الهندسي، فأخرج بذلك فنا من الشعر سريا متناسق الألوان.
كان الفقيد الكريم طوال الصيف الماضي يعاني مرضا شديدا، خف عنه أولا، ثم أنتكس فعاودت قلبه العلة، وكان يعالج أخيراً في المستشفى الإيطالي، وقد تماثل وتقدم نحو الشفاء، حتى عين يوم الخميس الماضي (17 نوفمبر سنة 1949) لخروجه، وفي هذا اليوم المعين لبس ثيابه وتأهب لمغادرة المستشفى، وإذا هو يسقط صريعاً بين أيدي من أتوا لمرافقته إلىمنزله.
وتوفي الفقيد وهو في السابعة والأربعين من عمره، وقد قضى أكثر حياته العملية موظفا في الحكومة، بعد أن تخرج في مدرسة الهندسة التطبيقية، وتنقل في الوظائف حتى كان مديراً لمكتب رئيس مجلس النواب وفي سنة 1945 استقال من هذا المنصب، إذ آثر أن يغرد طليقا بعيدا عن وظائف الحكومة، وظل كذلك حتى عين في هذا العام وكيلا لدار الكتب المصرية.
أخرج الفقيد عدة دواوين، هي (الملاح التائه) و (ليالي الملاح التائه) و (أرواح وأشباح) و (الشوق العائد) و (زهر وجمر) و (شرق وغرب) وله مسرحية شعرية هي (أغنية الرياح الأربع) وله أيضاً كتاب (أرواح شاردة) وهو يحتوي على نثر وشعر.
إن يكن علي طه خلَّي مكانه بين الأحياء الفإنين، فستظل آثاره باقية في سجل الخلود، وتبقى شمائله حية ماثلة في نفوسنا ما بقينا.
تكريم دسوقي أباظة باشا
احتفلت جامعة أدباء العروبة يوم الأربعاء الماضي في فندق الكنتال، بتكريم رئيسها معالي الأستاذ دسوقي أباظة باشا، وقد تساءل معاليه في كلمته بختام الحفلة عن مناسبة هذا التكريم، فقال هيكل باشا: مناسبتها أنك عدت إليه م بعد طول غياب، فكثرة اشتغالك بالمسائل العامة حالت بينك وبينهم مدة طويلة. وقال دسوقي باشا: جرت العادة أن يكرم الوزراء المعينون لا الوزراء السابقون، فهذا تقليد جديد نبيل ولعله يغري الوزراء الحاليين بالخلاف. . وقد أبدى حفني محمود باشا تخوفه من إن تكون هذه مؤامرة لأخذ دسوقي باشا إلىجانب الأدب وترك زملائه السياسيين وحدهم في الميدان، ولكنه عقب بأنه يقول الحق إذ يصرح بأن مجتمع الأدباء بما فيه من سمو العاطفة وجمال الحب الصادق يفضل ألف مرة مجتمع السياسة بما فيه من عداء ونفاق.
وكان طبيعياً أن يتتابع الشعراء والخطباء مكثرين من الشعر والنثر في تكريم دسوقي باشا، فالمجال مجالهم والقوم كلهم شعراء وخطباء، والرجل حقيق بالتكريم والتقدير، لأدبه ونبله وحسن رعايته، وقد جاذبته السياسة، فلم تأخذه من الأدب بل كان هو يؤدبها. . ودسوقي باشا يحب أعضاء جامعة أدباء العروبة كما قال في كلمته إذ وصف الحفلة بأنها (تلبس) في حالة حب متبادل بينه وبينهم. ولكنه لا يقصر عليهم حبه، فهو يميل إلىالأدباء عامة ويعجب بكل مجيد منهم، ولا عجب في ذلك فهو أحد هؤلاء الأدباء، وقد ظفر عالم الأدب منه أخيراً بكتابه القيم (وميض الأدب في غيوم السياسة) على رغم اضطلاعه بأعباء الوزارة كما يدل على ذلك عنوان الكتاب.
ألقي في الحفل شعر ونثر كثير، وكنت أود أن يخرج القائلون بعض الخروج عن حدود القوالب المألوفة في المديح إلىشيء من الموضوعية، أعني أن يكون للكلمة أو القصيدة موضوع غير مجرد المدح، وقد كان ذلك في بعض ما قيل ولكنه قليل. وكنا ننتقل من سماع الجيد إلىالعادي أو المعدوم القيمة، والعكس، حتى رأيناهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئاً، ويبدو أنهم قدموا (أعضاء مكتب الجامعة) على غيرهم دون مراعاة الأجدر بالتقديم من هؤلاء وهؤلاء.
وممن أجادوا الأستاذ محمود غنيم وقد ألقى أبياتا أولها:
حكم تقلص عنه ظل ... ك ما تقلص عنك ظله
وكانت كلمة الدكتور حسين الهمداني الملحق الصحفي بسفارة الباكستان - ذات موضوع، فكانت كلمة الباكستان حقاً في تكريم دسوقي باشا، وقد تحدث فيها عن مكانه في الأدب وفي السياسة وقال إنه كان في سياسته عربيا مسلما قبل أن يكون مصريا قوميا، فقد شغل نفسه بالمسائل الشرقية العامة حتى كان يتخيله وزيراً باكستانيا في مجلس وزراء مصر عندما كان يستمع إليهفي مناسبة تخص الباكستان. ودعا الدكتور الهمداني إلىإقامة مؤتمرات أدبية ومهرجانات عربية تغذي الأرواح وتشيد بمفاخر البلاد.
ومن القصائد الجيدة قصيدة الأستاذ أحمد عبد المجيد الغزالي ومطلعها:
عد للخميلة كالربيع الناضر ... يا نفحة الشادي وأنس السامر
وكانت قصيدة الأستاذ أحمد مخيمر أدنى إلىالتحليل، ومن قوله بعد أن تحدث عن السياسة وتلونها:
واليوم نأنس للنور الذي فقدوا ... واليوم نفرح بالمجد الذي خسروا.
وقد ألقاها الأستاذ عبد الفتاح الشناوي إلقاء جيداً. أما الأستاذ العوضي الوكيل فقد دفع بقصيدته إلىمن يلقيها، فإنتهز الفرصة وجعل يخطب قبل أن يلقي، وقد أساء إلىالنحو واللغة في الخطابة والإلقاء، عوض الله العوضي خيراً. . .
شؤم ابن الرومي:
كتب أحد الأدباء بتوقيع (م. ف. ع) بجريدة المصري، مقالا عنوانه (ابن الرومي الشاعر المشئوم الذي حلت لعنته على وزارة المعارف) أراد فيه أن يسوق طرائف يمتع بها القارىء، وأندفع مع الرغبة في الحبك الصحفي إلى (تأليف) وقائع تتعلق بشؤم ابن الرومي، فقال إن وزارة المعارف ألفت لجنة سنة 1945 لإخراج ديوان ابن الرومي، وفي اليوم الذي وقع السنهوري باشا وزير المعارف يومذاك القرار بتأليف اللجنة استقالت الوزارة، ولما تولى الأستاذ علي أيوب بك وزارة المعارف أعاد تأليف اللجنة، وفي اليوم الذي أصدر فيه القرار استقالت الوزارة، ثم جاء الأستاذ مرسي بدر بك إلىوزارة المعارف وعرضت عليه إجراءات الشروع في طبع الديوان، فلما وافق عليها استقالت الوزارة.
ولا أريد أن أقف عند ذلك كثيراً، مكتفياً بالإشارة إلىأن اللجنة الأولى التي الفت في عهد السنهوري باشا مضى على تأليفها عدة أشهر وهو وزير المعارف، وقد يكون باقي ما ذكره أو بعضة من هذا القبيل. وإنما أريد أن أعرض لقول الكاتب الأديب في آخر المقال: (ويظهر أن القدماء قد أفزعتهم هذه الروح المشؤومة التي وضحت في تصرفات هذا الشاعر فأغفلوه وأهملوا شعره وأدبه مع تقديرهم لعبقريته الشاعرية، فلم يترجم له صاحب الأغاني ولم يقدم أحد على الاهتمام بديوانه فظل ديوانه - وهو ضخم فخم - مطويا إلىاليوم في مطاوي النسيان).
فهل من الحق أن صاحب الأغاني وغيره من القدماء أغفلوا ذكر ابن الرومي لفزعهم من شؤمه؟ أقول قبل كل شيء إننا رأينا المؤلفين يتحدثون عن تشاؤم ابن الرومي بغيره من الناس والأشياء، أما تشاؤم الناس به وفيهم المؤلفون ومنهم صاحب الأغاني فلم نره عند المتقدمين. على أن صاحب الأغاني لم يغفل ذكر ابن الرومي إطلاقا، فقد ذكره مرتين: مرة نسب إليهانتحال بيت من الشعر لإبراهيم بن العباس، ومرة أظهره بمظهر الشامت في نكبة سليمان بن وهب، فلو أنه كان يفزع من شؤمه لما أتى بذكره. إذن لماذا أهمل صاحب الأغاني الإشادة بابن الرومي وشعره؟ حقق الأستاذ كامل كيلاني هذا الموضوع في كتابه (صور جديدة من الأدب العربي) فأرجع ذلك إلىأن ابن الرومي كان مكروها من الناس لإفحاشه في الهجاء، وكان فيمن هجاهم البحتري وكانت له مكانة بين أعيان الدولة وكبار رجالها، وكان أبو الفرج يحبه ويشيد بذكره ويعني بآثاره، ومنهم الأخفش أستاذ أبي الفرج (فلا غرو أن يغرس الأستاذ في نفس تلميذه بذور الكراهية والبغض لابن الرومي منذ الصغر، أو يغضب التلميذ لأستاذه فتعمد إغفال من جعل همه الأول شتم أستاذه والتشهير به).
ومهما كان السبب في إهمال صاحب الأغاني الترجمة لابن الرومي والتنويه بشعره، فليس من المعقول أن يكون ذلك لتشاؤمه به وخوفه من أن يقع له شر، كما وقع للمازني والعقاد وكامل كيلاني حين تعرضوا لشعره ودراسته، فقد كسرت رجل الأول وسجن الثاني ومات ولد الثالث، وهي اتفاقات لا تذكر إلا في مجال التلهي والتندر.
عباس خضر