مجلة الرسالة/العدد 855/سلطان المماليك في العهد العثماني
→ صدى مقتل الحسين | مجلة الرسالة - العدد 855 سلطان المماليك في العهد العثماني [[مؤلف:|]] |
الباكستان ← |
بتاريخ: 21 - 11 - 1949 |
للأستاذ عبد الباسط محمد حسنسلطان
كثيراً ما يتساءل المؤرخون والباحثون: لماذا لم يتخلص السلطان سليم العثماني من البقية الباقية من المماليك بعد أن تم له فتح مصر في سنة 1517م؟ ولماذا لم يقض عليهم قضاءً نهائياً حتى يستريح منهم ومن أحقادهم. . ويخلص البلاد من شرورهم وآثامهم؟
أكان ذلك ناتجاً عن ضعف الدولة العثمانية. . وعجزها عن القضاء عليهم. . أم كان ذلك. وفقاً لخطة موضوعة. . وسياسة مرسومة؟
الواقع أن السلطان سليما، كان رجلاً حربياً وإدارياً من الطراز الممتاز. . بحيث أننا لا نستطيع أن نقول أنه أخطأ في عمله هذا. . خصوصاً وأنه لم يرتجل سياسته التي سار عليها في حكم البلاد. . بل أنه فكر فيها كثيراً قبل أن يضعها. . وبقي في مصر. . فترة من الزمن بعد انتصاره على قوات المماليك، لتعرف على نظم الحكم فيها، ولوضع سياسة ثابتة، تضمن بقاء مصر تابعة له وللدولة العثمانية. . ولو كان السلطان يرى في وجود المماليك بمصر خطراً يهدده. لتخلص منه ولأفناهم عن أخرهم. .
لقد رأى السلطان ببعد نضره وثاقب فكره أن بعد مصر عن مقر الحكم في الآستانة. . قد يساعد حكامها وولاتها على الاستقلال عن الباب العالي، فقضى بتوزيع السلطة بين عدة عناصر: فالباشا ومعاونوه يمثلون السلطان العثماني ويحكمون الولاية ويشرفون على إدارتها. . والديوان يعاون الباشا في الحكم، وله حق عزله والاتصال رأساً بالباب العالي. . والحامية العثمانية تشترك في الحكم والإدارة أيضاً. . إلى جانب مهمتها الحربية. . ثم هناك إلى جانب هذه الهيئات الثلاث هيئة أمراء المماليك من رجال العسكرية. . يشتركون في الحكم والإدارة وفي الدفاع عن حدود البلاد وقد كان في مقدور السلطان وفي استطاعته أن يقضي على قوات المماليك. . خصوصاً وأن الدولة العثمانية كانت في ذلك الوقت في أوج قوتها ومجدها. . وكانت لها ممتلكات واسعة في البلقان والأناضول والشام وأرض الجزيرة والفرات، وكانت تتمتع بسيادة كبيرة على شبه جزيرة العرب. . فكان في إمكانه أن يشتت شمل هؤلاء المماليك ويفرق جموعهم. . ويقضي عليهم قضاءً مبرماً، حتى لا تقوم لهم بعد ذلك قائمة. . ولكن السلطان سليم أبقاهم في البلاد، لأنه كان في أشد الحاجة إليهم وإلى جهودهم. . كما أن بقائهم في مصر كان متمشيا مع سياسة الدولة العثمانية في حكم الشعوب الخاضعة لها. فالدولة العثمانية لم تُغير كثيراً من نظم البلاد المفتوحة ولا سيما أن أمراء المماليك عاشوا في مصر مدة طويلة. . وعرفوا أحوالها، وخبروا عادات أهلها ونظم الحكم فيها. فكان من السهل عليهم أن يدبروا دفة الحكم في البلاد، بخلاف العثمانيين الذين لم تكن لهم سابقة عهد بمصر ولا بالمصريين. . ومن ناحية أخرى رأى السلطان سليم أن يترك أمراء المماليك يشتركون في حكم البلاد، ليحفظوا التوازن بين الوالي ورجال الحامية العثمانية وحتى لا يفكر أحد في الاستقلال بحكم البلاد والخروج عليه في يوم من الأيام. بقول على باشا مبارك في خططته التوفيقية. . الجزء السابع (لما أخذ السلطان سليم مصر. . ورأى غالب حكامها من المماليك الذين ورثوها عن سادتهم، رأى أن بعد الولاية عن مركز الدولة. . ربما أوجب خروج حاكمها عن مركز الدولة. . ربما أوجب خروج حاكمها عن الطاعة. . وتطلعه للاستقلال. . فجعل حكومة مصر منقسمة إلى ثلاث أقسام. . . كل قسم منها يشرف على القسمين الآخرين). .
من هذا يتبين أن إبقاء المماليك في البلاد، وإشراكهم في الحكم، كان الغرض منه أيجاد التوازن بين الهيئات الحاكمة، والاستفادة منهم في حكم مصر. .
ظلت سياسة السلطان سليم معمولا بها طوال القرنين السادس عشر والسابع عشر. . واستمر هذا النظام نافذاً طوال هذه المدة. . كانت فيه الدولة العثمانية حافظة لمركزها وسمعتها الحربية؛ فلما ظهر ضعف تركيا الحربي وأنتشر الفساد والاضطراب داخل البلاد لم يعد هذا النظام نافذاً. . وأخذة قوة المماليك تزداد شيئاً فشياً حتى أصبحت لهم السلطة الفعلية في البلاد. . والسبب في ذلك أن المماليك كانوا يشترون الرقيق من جورجيا والقوقاز وبلاد اجركس وكانوا يأتون بهم إلى مصر. . ويدربونهم في سن مبكرة على أعمل الحرب والفروسية. . ويعلمونهم الكتابة والقراءة ويحفظونهم القرآن. . حتى إذا بلغوا الثامنة عشرة، رقوهم إلى رتبة البكوية وجردوهم ومنحوهم مالاً وأرضاً وجواري وهؤلاء يتزوجون بدورهم. . . ويملئون بيوتهم بالرقيق كما فعل أسيادهم من قبل. . . وهذا كان سبباً في كثيرة عددهم في البلاد. . . حتى أن عدد المماليك الكبار في أواخر القرن الثامن عشر عند زيارة (فولني) لمصر بلغ نحو (8500مملوَك) ينفق الواحد منهم على سلاحه وملبسه وزوجاته وسراريه نحو (2500جنيه) في العام على تقدير فولني. يقول علي باشا مبارك (وأخذت البكوات تكثر من المماليك وتتقوى بها حتى فاقت بقوتها الدولة العثمانية في الديار المصرية، مآل الأمر والنهي لهم في الحكومة. . . وصارت سلطة الدولة العثمانية في الديار المصرية غير حقيقية. ولو كانت الدولة العثمانية تنبهت لهذا الأمر ومنعت بيع الرقيق لكانت الأمور باقية على ما وضعها السلطان). . .
كانت نتيجة لهذه السياسة. . . أن قوى نفوذ المماليك لدرجة كبيرة جداً. . . حتى إنهم كانوا يعزلون الولاة حينما يشاءون. زد على ذلك أن ضباط الجيش وفرقه وهم أعضاء الديوان قد تدهورت حالتهم الأدبية، وأفقدتهم عيشة الخمول والكسل صفاتهم الحربية الأولى. . . فتقربوا من بكوات المماليك الذين استأثروا بالسلطة وأصبح بيدهم الأمر ولنهي في البلاد (حتى أن أحد بكواتهم وهو على بك الكبير) استطاع أن يعلن استقلال مصر في 1769. . كما أن المماليك كانوا كثيراً ما يماطلون الدولة في إرسال الخراج. . (ولرغبة الدولة في استرضائهم لكيلا يمنعوا الخراج عنها. . . كانت لا تكاد تبعث بوال من قبلها، حتى تعزله وتعين بدله. . . حتى لقد بلغ عدد ولاتها منذ الفتح العثماني إلى الاحتلال الفرنسي. . . إي من سنة 1517م - 1798 نحو 285 سنة أكثر من مائة وال قل من أقام منهم أكثر من عامين. . وكثير من بدل كل عام).
بهذا نكون قد بينا الأسباب التي دعت السلطان سليم إلى ترك المماليك في مصر. . وإشراكهم في الحكم. . . ونكون أيضاً قد استعرضنا حالتهم من وقت الفتح العثماني وبينا العوامل التي أدت إلى زيادة نفوذهم في البلاد. . . وهناك ناحية أخرى يجب ألا نغفلها. . . وهي حالة الشعب المصري تحت حكم هؤلاء المماليك.
قبل اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح، كانت التجارة تمر عن طريق مصر. . . فكان المماليك يأخذون منها ما يشاءون من ضرائب وهدايا ورشا. . . هذا غير السلب والنهب. . . وكانوا قانعين بما يفرضونه من الضرائب على المتاجر الأجنبية. . . وما يدخل في خزائنهم من المال. . . بحيث لم يروا ضرورة لظلم الفلاح. . . وأخذوا يعيشون عيشة بذخ وترف. . . فيرتدون أحسن المنسوجات. . . ويسكنون أفخم القصور. . . ولكن الحالة لم تدم على ذلك. . . فعندما تغير طريق التجارة إلى راس الرجاء الصالح. . . قلت الأموال التي كانت تتدفق على مصر. . . فلم يجد المماليك بداً من فرض ضرائب باهظة على الأهالي. . . ولم يكن شرهم إلى المال قاصراً على حاجتهم إليه. . . فلو كان الأمر كذلك لهان الأمر. . . ولكن نظامهم قضىبألا يقوم لواحد منهم شأن إلا بالإكثار من المال وذلك لشراء المماليك. . . والإغداق عليهم من أمواله وجاه حتى يضلوا على ولائهم. . . لهذا أخذوا يمتصون دماء الشعب، ويحملونه مالا طاقة له به. حتى وصل الحال بالفلاح المصري إلى أنه لم يجد سكناً يقيم فيه. فكان يلتحف العراء، وذو اليسار منهم يعيش في أكواخ من الطين، ولا يجد الواحد منهم ما يأكله سوى الخبز الأسود المصنوع من الذرة والحلبة. . . يتناوله بالبصل النيئ أو الأعشاب التي يجمعها من حروف الترع والمجاري، ويطبخها بغير إدام، وكان رداؤه قطعة من القماش المصبوغ بالنيلة وهي ميراث الفلاحين وأليها ينسبون (أصحاب الجلابيب الزرقاء). . . وأما الغنى والرفاهية، والبذخ، والذهب، والفضة. . . فقد كانت للمماليك. . . ذكر فولني في كتابه (رحلة إلى مصر وسوريا) أن علي بك الكبير ابتاع خنجراً مرصعاً بالجواهر الكريمة بمبلغ 225 ألف جنيه، وأنه حينما خذله أنصاره، التجأ إلى صديقه الشيخ ظاهر في عكا، وكان مقدار ما أخذه معه من الأموال (حوالي أربعة وعشرين جنيه)، يحملها على 25 جملاً، وكان معه من المصاغ والحلي ما يساوي أربعة أضعاف ذلك. ويذكر أحد المؤرخين الذين زاروا مصر بعد سقوط القاهرة في أيدي الفرنسيين أن الجنود الفرنسيين كانوا يجدون في ملابس كل واحد من المماليك الصرعى في ميدان القتال في واقعة أمبابة ما لا يقل عن مائتين أو مائتين وخمسين قطعة من الذهب عدا ما تقدر به ملابس الواحد منهم وطيلسانه وسلاحه وسراج جواده من المبالغ الطائلة، هذا في الوقت الذي لم يكن أهل مصر يجدون فيه ما يأكلون!
وكان المماليك كثيراً ما يتنازعون فيما بينهم للوصول إلى الحكم، ووجدت بينهم فتن وقلاقل وحروب داخلية عنيفة كانت توقع الفوضى بالبلاد، وكانت الدولة العثمانية تعمل على بقاء هذه المنازعات بينهم. . . بل أنها كانت تعمل على التفرقة بينهم وغرس بذور الأحقاد في صدورهم. حتى لا يستبدوا بالسلطة. فلم يكن من المعقول - والحال كذلك - أن تصلح حال الشعب المصري، وحكامه المتصرفون في أمره. . . منقسمون على أنفسهم، لا هم لهم إلا جمع الأموال. . . ولا غرض لهم ولا مأرب إلا الوصول إلى الحكم والسيطرة على مقاليد الأمور في البلاد.
كما أن المماليك كانوا كثيراً ما يعزلون الولاة. فلم تتح لهؤلاء الفرصة للإصلاح. . . ولقد كان بعض أولئك الولاة كما أثبت المؤرخون، من أهل الكفاية والإخلاص، وذوي الرغبة في إصلاح ما أختل وفسد من شئون هذه البلاد. . . فلا يكاد يشعر المماليك برغبته في الضرب على أيديهم. . . وكف مظالمهم. . . حتى يقرروا عزله، وكانت الدولة العثمانية تساعدهم على ذلك وتسترضيهم حتى لا يمنعوا عنها الخراج.
لقد أخطأت الدولة العثمانية في سياستها مع المماليك. . . كما أخطأ المماليك في إدارة حكم البلاد، وسواء أكان الخطأ يقع على كاهل المماليك أم على كاهل العثمانيين. . . فإن هذه السياسة الخرقاء التي أتبعها كلا الفريقين. كانت من أكبر الأسباب التي أدت إلى وقوع الفوضى والاضطراب في مصر، وبالتالي إلى دخول الفرنسيين في سنة 1798م.
(الإسكندرية)
عبد الباسط محمد حسن
ليسانس آداب