مجلة الرسالة/العدد 854/الوليد بن عقبة في كتاب عثمان
→ عالمية الأدب العربي | مجلة الرسالة - العدد 854 الوليد بن عقبة في كتاب عثمان [[مؤلف:|]] |
صدى مقتل الحسين في التاريخ الإسلامي والأدب ← |
بتاريخ: 14 - 11 - 1949 |
للأستاذ محمود أبو رية
مما لا يكاد يخفى على الباحث المحقق أن أدق فترة في التاريخ الإسلامي هي التي بدأت باغتيال الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه وتولي عثمان أمر الخلافة بعده. ذلك أن تيار الإسلام الزاخر قد أخذ بعد مقتل عمر يتحول عن مجراه الذي كان يندفع فيه بالخير والهدى والسلام على عهد الرسول صلوات الله عليه وصاحبيه إلى اتجاه آخر. وكان الإسلام الذي اعتز بإسلام عمر وتهدّى في سيره قد انقلب يعتسف الطريق بعد أن انقلب هذا الخليفة العظيم إلى ربه وعلى أن هذه الفترة على ما وصفنا، فأنها لم تؤرخ على ما يجب أن يكون عليه التاريخ الصحيح، وذلك أن كل مؤرخ قد كبَّل فكره بما وضعه السلف من قيود، ووقف عندما خطوه من حدود فلا يبحث بعلم ولا يفكر بعقل. وكان أثقل تلك القيود هو ما قرروه من عدالة الصحابة جميعاً، حتى جعلوا الطلقاء في مرتبة المهاجرين، والمؤلفة قلوبهم في منزلة الأنصار المخلصين، والمنافقين في مقام الأتقياء الصالحين.
وعلى ذلك جرى الخلف وراء السلف يتبع بعضهم بعضاً فلا بصر ولا بصيرة معتمدين على مجرد النقل عنهم، منصرفين عما يقضي به العقل والمنطق في نقد ما وصل إلينا منهم.
إنه لا يمكن للمؤلف المحقق أن يؤرخ هذه الفترة الدقيقة إلا إذا تزوّد بزاد كبير من مواد التاريخ، وحرر عقله من رقّ التقليد، واستعان في النقد والتحليل بنظر بعيد وأن يسبر الوقائع كما يقول ابن خلدون. بمعيار الحكمة وأن يقف على طبائع الكائنات ويحكم النظر والبصيرة في الأخبار).
ومما يجب على من يؤرخ هذه الفترة أن يقف على طبائع الجاهلية عامة وما كان من نزاع وتخاصم بين بني أمية وبني هاشم خاصة، وأن يدرك أن ما كان بينهما في الجاهلية لم يطفئ الإسلام جذوته، ولم يخفف الهدى المحمدي حدته، وان يميز بين الذي آمنوا إيماناً صادقاً من الذين أسلموا بألسنتهم ولم تؤمن قلوبهم.
هذا ما يجب على كل من يريد أن يؤرخ هذه الفترة الدقيقة تأريخاً صادقاً، ومن يفته شيء من ذلك فإن عمله يخرج ناقصاً وتاريخه يظهر عقيماً وإن سمى بين العامة تاريخاً!!.
نوطئ بهذا النبذ من القول أن نرسل كلمة صغيرة عن كتاب (عثمان) أحد أجزاء الفتنة الكبرى الذي يتوفر على إخراجها الدكتور طه حسين بك.
تناولت هذا الكتاب بعد أن فرغ الناس من الكتابة عنه والبحث فيه فإذا بي تلقاء نمط جديد في دراسة التاريخ لم أعهد مثله فيما كتب عن تاريخ صدر الإسلام بحثاً وتحليلاً اللهم إلا كتاب (فجر الإسلام) للأستاذ أحمد أمين بك، فهو صنوه في البحث، وقرينه في التحقيق، هذا في تاريخ الحياة العقلية وذاك في تاريخ الحياة السياسية.
وهذا الكتاب لا يفهمه حق الفهم إلا من حرر عقله وآثر الحق على هواه. وإذا كان الكلام عن هذا الكتاب النفيس قد يعد الآن من التكرار بعد أن تولاه الكتاب من قبل بالتقريظ والثناء الطيب فأني أتحدث اليوم عن أمر وجدته فيه ولم أر بداً من الكلام عنه.
ذلك أن الدكتور طه حسين بك قد أستراب فيما حملته الرواية من أن الوليد بن عقبة قد صلى بالناس فريضة الصبح وهو ثمل ثم التفت إلى من معه وقال: أزيدكم؟ فقال أن هذه القصة مخترعة من أصلها فيما أعتقد.
ولكن هذا الخبر أثبته كبار المؤرخين وبخاصة من كان منهم من ثقات المحدثين كالبخاري وابن عبد البر والذهبي وابن كثير، وآخر من أيد هذا الخبر مجتهد اليمن ابن الوزير في كتابه (الروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم) فانه على ما أطال في الدفاع عن رجال الحديث الذين لا يجوزون الكبائر على الصحابة، وما بالغ من ذلك فانه لم يستطع أن ينكر ما نسب إلى الوليد من أنه صلى الصبح وهو سكران ومما جاء في كتابه هذا:
(قال إمام أهل الحديث أبو عمر بن عبد البر في كتابه (الاستيعاب) في معرفة الصحابة عن الوليد:
(له أخبار فيها نكارة وشناعة تدل بقطع على سوء حاله) وبعد أن بيّن ابن عبد البر: أن أخباره في شرب الخمر ومنادمته لأهلها كثيرة، ذكر أنه صلى الفجر بأهل الكوفة ثم قال أزيدكم.
وإذا كان الدكتور قد قرر بحق أن إسلام الوليد كان رقيقاً وأنه غشَّ النبي، فإن وقوع مثل هذا الأمر ليس بغريب منه.
على أن ما فعله الوليد من شربه الخمر وصلاته وهو سكران قد استفاض بين الناس حتى أكثروا من القول فيه ويبدو أن عثمان قد تباطأ في إقامة الحد عليه فقد روى البخاري عن عروة بن الزبير أن عبيد الله بن عدي أخبره أن المسوّر بن مخرم وعبد الرحمن بن الأسود قالا ما يمنعك أن تكلم خالك عثمان في أخيه الوليد بن عقبة فقد أكثر الناس (أي من تركه إقامة الحد عليه) فانتصبت لعثمان حين خرج إلى الصلاة فقلت له: أن لي إليك حاجة وهي نصيحة، فقال: أيها المرء، أعوذ بالله منك، فانصرفت فلما قضيت الصلاة جلست إلى المسور وإلى عبد يغوث فحدثتهما بالذي قلت لعثمان، فقالا: قد قضيت الذي كان عليك! فبينما أنا جالس معهما إذ جاء رسول عثمان، فقالا: قد ابتلاك الله! فأتيته، فقال: ما نصيحتك؟ فقلت: أن الله بعث محمداً وأنزل عليه الكتاب وكنت ممن استجاب لله ورسوله (ص) وهاجرت الهجرتين وصحبت رسول الله (ص) ورأيت هديه. وقد أكثر الناس في شأن الوليد فحق عليك أن تقيم عليه الحد. وبعد أن أجاب عثمان بقول يذكر فيه إسلامه وموقفه من النبي (ص) وصاحبيه، قال: ما هذه الأحاديث التي تبلغني عنكم؟ فأما ما ذكرت من شان الوليد بن عقبة فسنأخذ فيه بالحق أن شاء الله. ثم أمر بجلد الوليد فجلد أربعين جلدة في أصح الروايات! فقد خرج مسلم من طريق أبي ساسان قال: (شهدت عثمان أتي بالوليد وقد صلى الصبح ركعتين ثم قال: أزيدكم؟ فشهد عليه رجلان أنه قد شرب الخمر والذي تولى جلده عبد الله بن جعفر.
وتبين من سياق الأحداث واستقراء الأخبار أن عثمان رضي الله عنه لم يقم الحد على أخيه إلا لأنه صلى بالناس وهو سكران، لا لأنه شرب الخمر فحسب؟ إذ لو أقيم عليه حد الخمر فقط لوقع ذلك في كل يوم لأنه كان مدمن خمر!.
هذا ما نرى بيانه، ونرجو أن يوفق الدكتور في إتمام سائر الأجزاء التي رأى أن يكسرها على تأريخ الفتنة الكبرى، وأن يخرج ما بقي من عمله على غرار هذا الجزء الذي بين أيدينا.
ولعله بعد ذلك يتخذ سبيله إلى تأريخ الأدب العربي تأريخا مستفيضاً مفصلا حتى يؤدي ما عليه من دين للغة العربية وآدابها.
المنصورة
محمود أبو رية