الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 851/ماذا علمتني الحياة؟

مجلة الرسالة/العدد 851/ماذا علمتني الحياة؟

بتاريخ: 24 - 10 - 1949


تأليف الأسقف و. ر. أنبج

بقلم الأستاذ علي محمد سرطاوي

تقديم الكاتب:

(ولد عام 1860 في مقاطعة يورك شير. اشتغل محاضراً من 1889 - 1804 في جامعة اكسفورد (كلية هوتفورد). ثم كان قسيساً لإحدى كنائس لندن بضع سنوات، ثم أستاذاً للاهوت في كلية ماجدولين كمبردج وعين عام 1911 أسقفا لكنيسة (سنت بول). ثم ترك الخدمة العامة 1934. ألف ونشر ما يزيد على أربعين كتابا ومن بينها كتب قيمة عن الصوفية والمتصوفين).

ماذا علمتني الحياة؟ إن سبعة وثمانين عاماً يعيشها المرء كافية لتعليمه شيئاً.

كان ماركوس أوريليوس يقول: إن رجلا حصيفاً في الأربعين من عمره يرى من الحياة ما يكفي لتعليمه الدور الذي سيمثله على مسرحها. ولعله مصيب في قوله. إن العقل والضمير قد بدا - إلى حد بعيد - يستيقظان في القرون الوسطى. أحسب أن هذه المقالات لن تكون إلا يوميات مركزة على طراز أميل، غير أنني ذكرت كل ما يمكن قوله عن حياتي في كتابي المسمى (وداعاً أيها الوادي) الذي كتبته للسادة لونجمان عام 1934 وذلك حين تخليت عن كرسي المسؤولية في التوجيه الروحي، وأحسب أن طبعة ذلك الكتاب قد نفدت الآن، لأن قاذفات الألمان قد دمرت مستودعات الناشرين. ولعل الأمل غير بعيد في إعادة طبع ذلك الكتاب إذا كانت هنالك رغبة في تسجيل حياتي المتواضعة إذ لم يبق شيء يتصل بها غير ما هو محفوظ في سجلات الأكاديمية البريطانية عن تاريخ حياة الأعضاء والذي قد ينشر بناء على رغبتي. لذلك لا أجد مناصاً من المرور مرور الكرام بما نشر سابقاً عن حياتي وأنا أكتب هذا المقال.

لقد تعلمت شيئاً واحداً بصورة لا تقبل الشك، ألا أحسن الظن بنفسي كثيراً. وكلما أويت إلى فراشي تمر الحماقات وأعمال الطيش التي تتصل بالنصف الأول من حياتي، كفلم متصل الحلقات، أمام عيني تحملق في مكشرة عن أنيابها. يقول الكونت كسرلنج: علينا أ نزعج أنفسنا بأمور حدثت قبل خمس عشرة سنة، غير أنني لا ألقي اللوم عن نفسي. حينما أفكر في الحنان الذي كان يغدقه علي أبواي وأهلي، وبعواطف الصداقة الخالصة التي كان يغمرني بها الأصدقاء، لا أجد مناصاً من اتهام نفسي بعدم المبالاة ونكران الجميل، وهو خطأ في حد ذاته جد خطير.

والذي يبدو لي أننا لا نتذكر من مثالبنا غير التي لا وجود لها في أخلاقنا الآن. إن ذاكرتي تكاد تفيض بالحماقات التي لم أسجلها عن نفسي وهنالك أسرار يحملها الموت معي إلى القبر وهي مزيج من القسوة والأخطاء والطيش.

هل نحن ملزمون أن نطبق على أعمالنا مبدأ (لا تحكم على نفسك). قال سنت يول: (لا أستطيع الحكم على نفسي). وقالت بورشيا: (نحن نطلب الرحمة من الله). إن الله يغفر لنا الذنوب التي نتوب عنها توبة صادقة وإن كنا لا نغفر لأنفسنا بعض ما اقترفنا من ذنوب.

أتراني أستطيع تذكر المباهج الكثيرة التي مرت بحياة كان التوفيق الظاهري حليفها في الدنيا؟ كلا. لقد كان نصيبي من أوجاع الدنيا أكثر من مباهجها. لقد كان بيت القسيس في القرن التاسع عشر - كبيت القسيس الاسكتلندي - المكان الذي تترنى فيه المثل العليا للخلق والذوق: حياة رتيبة بسيطة تعني بالعقل كثيراً؛ لا فقر ولا غناء؛ صحة وعمل مثمر، وهي أمور لم يكن لها وجود إلا في بيئة من هذا النوع في ذلك الزمان.

كان أبي لاعباً مبرزاً في (الكركيت)، ومعيداً في الكلية التي تخرج منها في أكسفورد، وأبعد الناس عن الطموح. لقد اكتفى من دنياه أن يكون قسيساً مساعداً لجدي شورتون رئيس الشمامسة حتى بلغ الخامسة والأربعين من عمره. حتى لقد رفض أن يكون مطراناً لأبرشية سلسبوري ذات المكانة الممتازة عن طريق التواضع الرخيص والخمول النفسي. وكانت والدتي امرأة عالية الثقافة تعلمت في ظلها تعليما مكنني من اجتياز الفحص لدخول كلية ايثون، بعد دراسة فصل واحد في مدرسة خصوصية، وكان ترتيبي في ذلك الفحص الثاني. لقد ابتسم الحظ لي في ايثون وتتلمذت على أمر أستاذ في الآداب الكلاسيكية وهو فرانيس سنت جون ثاكاري ابن عم الروائي العظيم.

كانت تلك الفترة هي عصر الدراسات الكلاسيكية الذهبي في ايثون. لقد ارتفعت دراساتنا في تلك الآداب إلى مستوى لم تعرفه جامعة كمبردج في تاريخها الحافل المجيد، فحزنا درجات الشرف، ولكن الحظ لم يداوم ابتسامه فعبس في وجوهنا ونقل أستاذنا العظيم إلى أكسفورد.

لم يكن هنالك مكان لمحاضراتي في كلية (كنج) ولذلك رحت أعلم اليونانية واللاتينية لطلاب ايثون الصغار - ذلك الأمر الذي لم يكن من واجبي. وبعد أربع سنوات مضنية مع أولئك الصغار، نقلت إلى جامعة أكسفورد محاضراً فبقيت خمس عشرة سنة والسعادة ترفرف على رأسي. وحينما أخذ السأم يدب إلى نفسي من حياة الجامعة، قدم لي صديقي القسيس هنسون منزلاً يقع في (وست أند)، وقد صادف التغير الجديد أسعد حادث في حياتي وهو الزواج.

لست أدري هل من حسن الذوق أن أقول ذلك؟ لقد طلب مني أن أذكر ما علمتني الحياة. وهذا الشيء هو أثمن وأروع دروسها. ليس الزواج السعيد هو أحسن ما في حياة البشر، إنما تعلمت إلى جانب ذلك أن الحب لا يختلف في مقداره وإنما في نوعه بالنسبة لنعم الله علينا. حينما قال سنت جونس: (إن الذي لا يحب لا يعرف الله لأن الله هو المحبة)، كان يعبر بأبسط الكلمات عن الحقيقة العليا، وهي أن الحب يقودنا إلى عالم الحقيقة عن أقصر طريق لا يعرفه إلا الذين يحبون.

هنالك يبدو الخالق مجسما في الخير المطلق والصدق والجمال. إن هذه في حد ذاتها ليست في واقع الحياة غير مثل أفلاطونية إنها تخص عالم الروح ولا تصل إليها إلا عن طريق الإيمان، كما تتراءى لنا الصورة في المرأة على حد تعبير سنت يول. إن الحب هو الجناح القوي الذي يحمل أرواحنا محلقة إلى ملكوت الله. لقد أوضح تلك الحقيقة سنت برنارد كلارفو فيما يتعلق بحب الله، لكن سنت جونسي قال لنا إن الذي لا يحب أخاه وهو يراه لا يستطيع أن يحب الله وهو لا يراه.

كثيراً ما رددت وأنا أبارك فتى وفتاة من على مذبح الكنيسة البيت الثاني من شعر شكسبير: (لا قيمة للروابط الظاهرية في تمكن العلائق الروحية بين زوجين كريمين). وهو من أروع ما قيل من الشعر.

لست أرى مانعاً من الخوض في هذا الموضوع. ليس الضرر الاجتماعي من انتشار الدعارة بأكثر من التساهل في شأنها التساهل المعيب في طبقات المجتمع العالية التي يُفرض أن تكون نموذجاً للفضيلة في الحياة. لقد تدهور الخلق في الخمسين سنة المنصرفة تدهوراً معيباً يدعو إلى الأسف الشديد.

إن السعادة الثانية لزواج سعيد أساسه الحب هي الأبناء. لقد كان أولادنا الخمسة مصدر سعادة خالصة لنا. مات اثنان من أولادي وهما صغيران، وتبعتهما ابنتي بعد مرض طويل، وقد مزق قلبي صوتها فرثيتها بأبيات أعتقد أنها كانت مصدر عزاء وسلوى لقلوب محزونة كثيرة. وتعلم ابني الأصغر في ايثون وفي كلية ماجدولين من جامعة كمبردج، وانتظم في سلك الكهنوت وأحبه الناس كثيراً في يوركشير. وكان ينتظره مستقبل باهر في خدمة الكنيسة. كثيراً ما كنت أردد قول هكتور في إلياذة هوميروس حينما حمل طفله استيانكس بين ذراعيه وهو يقول: (سيقول الناس عنه أنه كان أحسن من أبيه). لكن الحياة لم تمهله. لقد دفعه الواجب إلى التطوع في قوة الطيران الملكية إبان الحرب العالمية الأخيرة، وعين مدرباً، وكان عمله يستوجب أن يطير مع المتمرنين، وقد اضطرت الطائرة مرة إلى الهبوط، وتخلص ابني ريشارد منها، ولكنه حينما حاول إنقاذ رفيقه وتلميذه من الطائرة المحترقة اختنقوا وماتا معاً.

علينا أن نحذر من الآمال الكثيرة في الحياة الأخرى. إننا لا نستطيع تصورها إلا في حدود الزمان والمكان، ولكن إذا كنا من الذين يؤمنون بأن منقذنا المسيح قد ضمن لنا الحياة الخالدة فإن ذلك كاف لأن ننظر إلى الموت بغير ما يتراءى لنا. ولعلنا نوافق وليم بن على قوله: (إن الذين يحبون ما وراء الحياة، لا تستطيع الحياة فصلهم عما يحبون، وليس في مقدور الموت أن يقتل ما لا يمكن أن يموت، ولا أن يفرق بين الأرواح التي جمعها الحب في الحياة والتي سيجمعها ملكوت الله فترى نفسها في المرآة الإلهية وتتحدث بأسلوب طليق. . .)

وقد عينت عام 1907 أستاذاً لكرسي اللاهوت في كمبردج بعد إقامة تقرب من السنوات الثلاث في لندن. كانت حياتي في عملي الجديد رتيبة، هادئة، رضية، وكنت أتمنى أن تستديم حتى نهاية عملي في الخدمة العامة. ولكن التاج بوساطة المستر اسكويث عام 1911 عرض علي منصب مطران كنيسة سنت بول، وقد رأيت أن اللباقة تقضي علي أن أقبل مسؤولية هذا المنصب الخطير.

لن أذكر هنا كثيراً عن الثلاث والعشرين سنة التي قضتها في هذا المنصب، لأن ذلك قد استغرق القسم الأعظم من كتابي المشار إليه عن تلك الذكريات. إنني مدين للصحافة بقسم كبير من التوفيق لعظيم ما تلقتني به من الترحيب والتشجيع. . . لقد لقيت كتبي رواجا عظيما، ودعيت لإلقاء محاضرات لا يبلغها الحصر. قال لي رئيس الوزراء حينما سلمني براءة التعيين: أنه يأمل أن أحيي تقاليد ذلك المنصب الروحي الخطير في كنيسة إنجلترا. لقد كانت تمر بخياله ذكريات رواد الكنيسة وبناة مجدها الأولين من طراز كولث، ودون، وتلستون، وملمان، ومانسل، وشرك، وأحسب أنني قد سرت على أثارهم كأحسن ما يكون، ولكن ليس من حقي أن أحكم على أعمال نفسي. ولا أرى أيضاً ضرورة لذكر الثلاث عشرة سنة التي قضيتها في ريف يوركشير بعد اعتزال الخدمة. إن بلوغ الإنسان أرذل العمر تجربة خطيرة من تجارب الحياة. إنني لا أكاد الآن أشعر بأثر أي شيء من عواطفي. تجري الأيام والشهور والسنون وأنا احسبني في حلم طويل. لم أجد شيئاً في الحياة يستحق أن يتهالك الناس عليه، لأن الدنيا بكل ما فيها من متاع وسرور، ليست إلا خيالا يمر مرور سحابة صيف، وليس في حياة فانية لا شيء يستحق أن يرجى ويؤسف عليه. إلا أن في رحمة الله ما يسع بلادي البائسة وأبناء وطني المتعبين. إن تراخي رباط الحياة التدريجي من جسدي لا يخيفني كثيراً، ولن أبكي كما بكى شاعر الحب الإغريقي ممنرامس وتمنى أن يموت في الستين من عمره؛ وليس كما فعل هوراس الذي كبر في غير أوانه، وأصبح يحس بفقد مباهج الحياة واحدة بعد الأخرى. لا أريد أن أردد قول تنسون المرير: (إن السنين التي تجعل من الطيش اتزاناً في الإنسان، هي التي تأخذ ما تعطي وتترك الظلام في البصيرة والعينين). . .

لعل في استطاعتنا تجنب الإحساس بحالة من هذا النوع في الشيخوخة، وإن كنا لا نرى رأي السير توماس افريري الذي يريد أن نشعر بشيخوختنا إحساساً تُنسى فيه أرواحنا بدلا من الإحساس بضعف أجسادنا. . . أستطيع أن أقول إنني لست تعساً. . . إن الراحة بعد النصب المرهق أمنية جميلة، وإذا كنا نؤمن بصدق الديانة المسيحية فعلينا أن نؤمن بقول لويس نتلسشب: (ليس للموت وجود). إن المسيح يقول في الإنجيل الرابع: (إن الذي يعيش ويتبعني فلن يموت أبداً) (البقية في العدد القادم)

علي محمد سرطاوي