الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 850/مسئولية الاحتلال الإنجليزي لمصر

مجلة الرسالة/العدد 850/مسئولية الاحتلال الإنجليزي لمصر

مجلة الرسالة - العدد 850
مسئولية الاحتلال الإنجليزي لمصر
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 17 - 10 - 1949


للأستاذ كمال السيد درويش

(بقية ما نشر في العدد الماضي)

- 3 -

هل تقع مسئولية الاحتلال البريطاني على الإنجليز وجشعهم الاستعماري؟

ولم لا؟

ألم يتعللوا للبقاء في مصر بشتى المعاذير حتى وانتهم الظروف فكشفوا عن نيتهم الصريحة في الاحتلال بإعلان الحماية على مصر سنة 1914م

ألا يدل على ذلك قصة تلك الوعود الرسمية التي قطعها باسم إنجلترا ممثلوها الرسميون (إن رغبة حكومة جلالة الملكة هي أن تترك المصريين وشأنهم بعد أن تخلص مصر من الطغيان العسكري) قيل هذا سنة 1882م. وهذا تصريح آخر: (إن الشك الذي يخامر الرأي العام سببه رغبة بعضهم في احتلال مصر احتلالا مؤبدا وإدماجها في هذه الإمبراطورية. وتلك غاية نحن مصممون على مدافعتها وعلى ألا نسعى إليها بحال من الأحوال) بل لقد ذهبت إنجلترا إلى أبعد من ذلك فحددت تاريخا معينا للجلاء. وأي والله حدث هذا (إن حكومة جلالة الملكة تريد أن يكون سحب الجنود في أول عام 1888م)

لقد أورد المستر بلنت في مقدمة كتاب (تاريخ المسألة المصرية) قصة هذه الوعود الرسمية ثم علق عليها بقوله (حقا إنه ليس في تاريخ جميع إجراءات إنجلترا الاستعمارية عهود كهذه بذلت ثم نقضت).

إن قصة ضرب الإسكندرية لا تحمل في طواياها إلا حجة الذئب حين أراد التهام الحمل. لقد كانت نية الاعتداء المتعمد واضحة منذ البداية. وإلا فلماذا أتى الأسطول إلى ميناء الإسكندرية وبأي حق يقف في المياه المصرية؟ وكيف يجرؤ فيتدخل فيما ليس من حقه التدخل فيه حين يطالب بوقف أعمال الترميمات في الحصون والطوابي ويتخذ بذلك تلك الحجة الواهية لتبرير ذلك الاعتداء الوحشي.

لقد أجمع من كتب في حوادث ذلك الاحتلال من المعاصرين أو ممن جاءوا في أعقابه على أن نية الاحتلال كانت مبيتة لدى إنجلترا قبل ضرب الإسكندرية بكثير. وقد شاهد المستر بلنت بنفسه الاستعدادات الحربية تجري في إنجلترا منذ شهر يونية سنة 1882م.

إن إلقاء التبعة على إنجلترا مما لا يختلف فيه اثنان وهو ما حققته الحوادث فيما بعد.

ولكن مهلا أيها القارئ العزيز فإن احتلال مصر جريمة أكبر من أن تقترفها يد واحدة كيد عرابي أو كيد الدولة العثمانية أو الخديوي أو حتى يد إنجلترا نفسها.

حقا لقد أخطأ عرابي؛ ولكن، من ذا الذي لا يخطئ؟ وهل يكون خطأ عرابي سببا في إلقاء تبعة الاحتلال بأسره عليه وفي تصويره بتلك الصورة التي لا تليق بهذا الزعيم الوطني المصري الصميم؟ لقد أحس الأستاذ محمود الخفيف أن عرابي مظلوم وأن أعداءه بالغوا في الكيد له والزراية عليه حتى قال: (والحق أنه قل أن نجد في رجالنا رجلا ضاعت حسناته في سيئاته كما ضاعت حسنات عرابي فيما افترى عليه من سيئات. كذلك قل أن نجد في رجالنا رجلا كرهه أكثر بني قومه مضللين، واستنكروا أعماله جاهلين بقدر ما كره هؤلاء عرابيا).

ونحن نميل إلى هذا الرأي الأخير لا بدافع التعصب أو الرغبة في إنصاف عرابي ولكن بدافع الرغبة في إنصاف الحقيقة والتاريخ وكلاهما كما تبين لي ينصفان عرابي. وسأسوق من الأدلة التاريخية ما يقف إلى جانب ما كتبه صاحب كتاب (أحمد عرابي الزعيم المفترى عليه) عسى أن تتغير نظرة المصريين إلى زعيم المصريين.

ولكن، ما هي تلك الحقائق التاريخية؟

الواقع الذي كشف عنه البحث العلمي الحديث أن احتلال مصر كان شيئا مقررا ومرسوما قد اتفقت عليه الدول الأوربية من قبل. لقد تمت حوادث الاحتلال خلال صيف سنة 1882م ولكن. . ولكن الاتفاق على فكرة الاحتلال نفسها كان قد سبق ذلك بكثير.

لقد كانت الوحدة الألمانية وكان ظهور بسمرك عاهل ألمانيا العظيم وأكبر سياسي سيطرت شخصيته على مجرى الحوادث الأوربية في ذلك الحين. وكانت الحرب السبعينية (1870) م فانتصر فون ملكته ودخل الألمان باريس وخرت فرنسا جاثية على ركبتيها أمام جبروت بسمرك والألمان. ولكن بسمرك كان يجمع إلى القوة الحربية دهاء الساسة وحذقهم. فرأى بثاقب نظره أن حزب الانتقام يتكون في فرنسا وينادي بأخذ الثأر من ألمانيا فلم يكن منه إلا أن فكر في شغل أذهان الفرنسيين عن المناداة بالانتقام فوجه أطماعهم خارج القارة الأوربية وأوحى إليهم بتوسيع إمبراطوريتهم الإفريقية. وهكذا أخذ بسمرك يلوح للفرنسيين بضرورة احتلالهم لتونس، ولكن احتلال فرنسا لتونس سيترتب عليه اختلال توازن القوى بينها وبين إنجلترا في البحر الأبيض. وأنتهز ساسة إنجلترا فرصة تساهل بسمرك فرحبوا بفكرة احتلالهم لمصر مقابل السماح لفرنسا باحتلال تونس.

(والواقع أن فكرة احتلال إنجلترا لمصر مقابل احتلال فرنسا لتونس إنما ترجع إلى أوائل عام 1876 حين رأى بعض الساسة الإنجليز أن على إنجلترا انتهاز الفرصة واستغلال الفرص الذي قدمه بسمرك باستيلاء إنجلترا إلى مصر في مقابل تمكين فرنسا من احتلال تونس)

وبدأت الفكرة؛ فكرة احتلال إنجلترا لمصر تتقدم منذ ذلك الحين على يد بسمرك لا لشيء إلا لأنه يريد أن يسكت إنجلترا حين تقوم فرنسا باحتلال تونس.

وفي إبريل سنة 1878 نجد (مونستر) السفير الألماني في لندن يؤيد فكرة احتلال إنجلترا لمصر ويدعو لها كما يتحمس لها في ذلك الحين أيضاً (سولسبري) من الجانب الإنجليزي.

وهكذا تنمو فكرة احتلال إنجلترا لمصر مع فكرة احتلال فرنسا لتونس وتسيران جنبا إلى جنب يؤيدهما ويباركهما بزمارك علل ألمانيا برضائه وبتأييده ونفوذه.

لقد كتب مراسل التيمس إلى جريدته في 20 أبريل سنة 1878م يقول: (لقد روى لي بسمرك بنفسه أنه قال لللورد بيكو نسفيلد حين شاهده لأول مرة أن من صالح إنجلترا أن تتفاهم مع روسيا على أن تدعها حرة في القسطنطينية مقابل إطلاق يد إنجلترا في مصر).

وهكذا أصبح مفهوما من ضمن أحاديث الساسة أن الاتفاق قد تم على هذا التقسيم. وحين أراد ساسة فرنسا السير جديا في مشروع احتلال تونس سعوا إلى الحصول على تأكيد كتابي من إنجلترا حتى لا تعود فتتنكر لما قطعه ساستها من عهود. وقد حصل الفرنسيون على هذا التأكيد الكتابي في 7 أغسطس سنة 1878م. ثم يسعى الإنجليز بعد ذلك بدورهم للحصول على تأكيد رسمي من فرنسا بموافقتها على احتلالهم لمصر فيثيرون المشاكل أمامها في تونس ويقفون عقبة دون القيام باحتلالها. ويتساءل الفرنسيون: (لماذا تلجأ إنجلترا إلى إقامة العقبات أمامنا في تونس؟ إن لها في البحر الأبيض وسوف يكون لها مصالح كثيرة. وسوف نمد إليها يد المساعدة. ولكن هذا التلميح لا يكفي؛ فيضطر وزير الخارجية الفرنسي (سنت هيلير) إلى التصريح (بتفوق المصالح الإنجليزية في نهر النيل وقناة السويس على المصالح الفرنسية) ثم يؤكد في ديسمبر سنة 1880 (أنه على استعداد دائم للتصريح بأن المصالح البريطانية في مصر تفوق غيرها من مصالح أي دولة أوربية أخرى).

وهكذا تقاسمت الدول الأوربية الإمبراطورية العثمانية وهي لا تدري. وبدأ التضامن في التقسيم ينمو منذ عام 1876 م وقام بسمرك بدور القاضي يوزع بالعدل والقسطاس المستقيم؛ يرضى فرنسا حينا ويرضي إنجلترا حينا آخر، ولكن على حساب تلك الإمبراطورية التي كانت تسير بخطى سريعة إلى نهايتها المحتومة. ولقد لاحظنا كيف تبادل المندوبون التصريحات والتأكيدات حتى لا ينتطح فيها عنزان. بل كانت الملكة فيكتوريا نفسها - كما يتبين من خطاباتها - من أكبر مؤيدي مشروع احتلال إنجلترا لمصر وتثبيت أقدامها في وادي النيل.

وبينما كانت الصحافة الإنجليزية تمهد الرأي العام في الداخل لتقبل ذلك الجديد؛ كانت السياسة الإنجليزية - وقد نالت تأييد بسمرك وفرنسا - قد انفردت بالتدخل في شئون مصر لاسيما بعد أن تلقى ممثلو فرنسا في مصر من وزير خارجيتها تعليمات سرية تدعوهم إلى الموافقة على ذلك الوضع الجديد.

وهكذا نجد أن وثائق التاريخ الحديثة قد أثبتت أن فكرة احتلال إنجلترا وجدت منذ أواخر عهد إسماعيل. وأن إنجلترا بدأت تعمل جديا لتحقيقها منذ سنة 1876، وأن ما حدث من حوادث قبل الاحتلال لم يكن إلا من قبيل ذر الرماد في العيون، فاشتراك الدول في مؤتمر الآستانة لا سيما فرنسا كان تمثيلية رائعة أريد بها التمويه على الدولة العثمانية؛ وقد نجحت تلك التمثيلية نجاحا باهرا، وقل مثل ذك في انسحاب الأسطول الفرنسي من ميناء الإسكندرية قبل ضربها وترك الأسطول الإنجليزي يصول ويجول وحده في الميدان. ولماذا؟ ألم يدع الإنجليز فرنسا قبل ذلك بعام واحد تصول وتجول هي الأخرى بمفردها في ميدان تونس؟!

لذلك لا نذهب بعيدا إذا قلنا أن الاحتلال الإنجليزي لمصر كان سيتم سواء وجد عرابي أم لم يوجد، وسواء قام بحركته أم لم يقم؛ فما كان من الصعب على إنجلترا أن تخلق سببا مباشرا لتلك الجريمة التي اشترك في أعدادها ساسة ألمانيا وفرنسا وأخيرا ساسة إنجلترا.

لقد كان الاحتلال الإنجليزي لمصر وليد السياسة الأوربية ولم يكن نتيجة للحركة العرابية.

فكيف يكون عرابي مسئولا؟ وكيف نتحامل عليه؟ لقد بذل عرابي أقصى ما في طاقته؛ ولو لم يظهر عرابي لظهر مكانه عرابي آخر، ذلك أن عرابي كان يمثل الشعب المصري وما كانت الحركة التي قام بها حركته هو بل حركة الشعب المصري بحسناته ومساوئه في ذلك الحين.

حقا، لقد آن لنا أن ننصف تاريخ عرابي - الزعيم المفترى عليه بحق - وأن ننصف تاريخ الثورة العرابية لا بدافع التعصب لقوميتنا ولكن لوجه الحقيقة والحقيقة وحدها.

أن مسئولية الاحتلال البريطاني لمصر لا تقع إلا على عاتق الدول الأوربية وعلى رأسهم بسمرك.

لقد كانت الدولة العثمانية أشبه بالرجل المريض أو الكهل الهرم. كان الداء قد سرى في جميع أنحائها؛ وكان الضعف قد دب في جميع أوصالها. واتسع الخرق على الراقع فوقفت مكتوفة اليدين لا تنشد النجاة والخلاص إلا في بقاء النزاع والاختلاف بين أعدائها.

فعلى من تقع مسئولية الاحتلال؟!

ألست معي أيها القارئ العزيز في أنها تقع على عاتق بسمرك ذلك الرجل الذي وفق بين المتنازعين فقاموا يتقاسمون ببركة نفوذه وسيطرته تركة الرجل المريض ومكن إنجلترا من احتلال مصر فخرجت من عملية البر بأحسن نصيب؟!

(الإسكندرية)

كمال السيد درويش

ليسانسيه الآداب بامتياز ودبلوم معهد التربية العالي ومدرس

بالرمل الثانوية

وعضو الجمعية التاريخية لخريجي جامعة فاروق