مجلة الرسالة/العدد 85/لحظات على متن الباخرة كوثر
→ محاورات افلاطون | مجلة الرسالة - العدد 85 لحظات على متن الباخرة كوثر [[مؤلف:|]] |
بين القاهرة وطوس ← |
بتاريخ: 18 - 02 - 1935 |
للأستاذ عبد الحميد العبادي
تفضلت (شركة مصر للملاحة البحرية) فدعتني إلى شهود احتفالها بسفر الباخرة (كوثر) من مرفأ الإسكندرية إلى السواحل الحجازية مقلة حجاج بيت الله الحرام. فقبلت الدعوة مبتهجاً مسروراً، وأجمعت أن ألبيها شاكراً ممتناً، وقلت في نفسي إن فاتني أن أحج بيت الله على متن هذه الباخرة ففاتني بذلك ثواب تلك الفريضة الكبرى، فلا أقل من أن أحج السفينة نفسها فأفوز برؤية الحلقة الثالثة من سلسلة ستكتمل حلقاتها بأذن الله، ويون لهذا البلد منها أسطول مبارك الغدوات ميمون الروحات
وحانت الساعة الرابعة من عصر يوم الخميس الماضي، فأخذت طريقي إلى المرفأ فيمن أخذ، وصعدت تلك الباخرة الجاثمة فوق متن الماء كالطود العظيم فيمن صعد، وقد صعدها خلق كثير من علية القوم وأوساطهم يعدون بالمئين. وجعلت أطوف أنحاء السفينة مع المطوفين، صاعداً وهابطاً، متنقلاً من طابق إلى طابق، ومن مقصورة إلى مقصورة، ومن مرفق إلى مرفق، وأشهد لقد تملكتني الحيرة من روعة ما شهدت، وفخامة ما رأيت. وأشكل على الأمر هنيهة من الزمن، فكأنني في حلم من تلك الاحلام اللذيذة التي يخشى معها الحالم أن تنفتح عيناه على الحقيقة المرة المؤلمة! أهذه سفينة مصرية حقاً؟ وهذا العلم الخفاق فوق حيزومها، أهو العلم المصري؟ وهذا الاسم العربي المرقوم عند جؤجؤها، أمكتوب هو بالحرف العربي؟ وهؤلاء الشبان الرائحون الغادون في طرابيشهم القانية وملابسهم البحرية الجميلة، يطلعون الزوار على ما دق من مرافق السفينة وما جل، أهم مصريون حقاً؟ وزاد بي اللبس فجعلت أتقرى الأشياء بيدي أتثبتها على نحو ما صنع البحتري عندما قلم في إيوان كسرى، وعراه ما عراني من الدهش والالتباس!
يغتلى فيهم ارتيابي حتى ... تتقراهم يداي بلمس
ولكن لم يطل أمد تلك الحال، فكل شيء حولي قد احتشد لنصرة اليقين على الشك في المعرة التي قامت بينهما في نفسي، وسرعان ما محا نور اليقين ظلمة الشك، وأطمأنت النفس إلى أني قائم في قطعة من مصر طافية على وجه الماء
الله أكبر! لقد أخذ الزمان يستدير، وشرعت مصر تسترد مكانة كانت لها في القديم ثم نحي عنها قوة واقتداراُ، أليست مصر صاحبة أول بعثة تجارية بحرية في التاريخ هي بعثة الملك (اسنفرو) إلى الشام؟ أليست مصر صاحبة أول بعثة استكشافية يعرفها التاريخ هي بعثة الملك (نخاو) حول أفريقية؟ ألم تكن مصر سيدة البحار على عهد البطالسة، ومنارتها بالاسكندرية من عجائب العالم القديم؟ أليس أسطول مصر الاسلامي هو الذي دحر الأسطول البيزنطي في واقعة (ذات الصواري) المشهورة وانتهت اليه زعامة شرقي بحر الروم زمناً طويلاً؟ ثم ماذا كانت واقعة (نوارين) التي تحامل فيها الغرب على الشرق فدمر فيها الأسطول المصري تدميراً، وكان ذلك آخر عهد مصر بالملاحة الصحيحة
إن تعجب فعجب أن تكون لمصر سواحل مترامية مطلة على بحرين من أهم بحار الأرض، وأن يكون لها هذا الماضي الجليل، ثم تظل طوال القرن التاسع عشر وصدر اقرن العشرين عالة على سفن غيرها في نقل عروضها ومتاجرها ومسافريها، ولكن هذا الذي قدر فكان. فليذكر ذلك الذاكرون في هذه الأيام السعيدة التي تأذن الله فيها بانبعاث البحرية المصرية على أيدي رجال (شركة مصر للملاحة البحرية)
لقد كنت أمضي في تأملاتي هذه، لولا أن يسرت أقدار لأقدار، فلمحت عن كثب زعيم مصر الاقتصادي، وحامل لواء نهضتها المالية الحرة، ومن عساه أن يكون سوى (محمد طلعت حرب باشا)؟ فأسرعت إليه أبثه إعجابي بما أرى، وأهنئه وأهنئ في شخصه رجال هذه الشركة المباركة على ما أوتوا من عناية الله وتوفيقه. وجلست اليه سويعة تحدثت إليه فيها فيما خص من الأمر وما عم، ثم قمت من حضرته وأنا أهدي ما كنت، وأفهم مما كنت، وخيراً مما كنت. وكذاك الشباب إذا ظفر بلقاء الرجل العظيم والتحدث اليه
وكانت الشمس قد أوت إلى الأفق الغربي مؤذنة بالمغيب، وجعلت ترسل أشعتها على أعالي البواخر والسفن فتصبغها بمثل الورس الأحرم، وتسكبها على ماء البحر فتحيله تبراً مذاباً. وشمل المنظر خشوع وجمال وجلال، زاد القلب طرباً ونشوة ووجداً. فانصرفت وأنا أدعو (لكوثر) وأخواتها ببحر ذلول، وريح رخاء، وأهتف من اعماق قلبي لأولئك الذين بعثوا العزة القومية بعد وأدها، وأحيوا في نفوس هذه الأمة دارس الأمل وميت الرجاء
عبد الحميد العبادي