الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 849/الشيء الصغير

مجلة الرسالة/العدد 849/الشيء الصغير

بتاريخ: 10 - 10 - 1949


للأستاذ أنور لوقا

تحت هذا العنوان الساذج الغريب قص الأديب الفرنسي ألفونس دوديه تاريخ حياته في كتاب نشره سنة 1868، وقد أطلق هذا اللقب على بطل القصة، دانييل إيسيت، ذلك الغلام النكرة المهمَل الذي لا يعنى به أحد لأنه شئ صغير!

أَلا يعبر هذا اللقب عن معنى بعيد عميق في نفس الكاتب؟ أليست له قيمة رمزية أصيلة؟ ألا يلخص ويعنون ناحية ممتازة من شخصية دودية وفنه كما لخص وعنون شطراً من حياته؟. . .

الشيء الصغير هو ما تراه أمامك ولا تلحظه، ما قد تصطدم به ولا تلتفت إليه، هو ما يجاورك ويلازمك في أكثر الأحيان ولكنك لا تعيره اهتمامك ولا تأبه له لأنك اعتدته أو لأنه. . شئ صغير!

وهذا (الشيء الصغير) هو قوام قسط كبير من سحر دوديه. فإن كل صفحة من أدبه عامرة بالتفاصيل الدقيقة المنتقاة، والملامح الخفية الشاردة، والكلمات القصيرة العابرة التي تترجم خليقة من خلائق الناس، أو تبرز وضعاً من أوضاع الأشياء، وتطبع في ذاكرتك إلى الأبد هذا المشهد أو ذاك مما يصف الكاتب

وليس أدل على ذلك من أن لدوديه (طاحونة) أصبحت علماً من أعلام الأدب الفرنسي منذ أن رسم صورة حية لها لا تفارق مخيلة من قرأ ديوان أقاصيصه الريفية (رسائل من طاحونتي): فهناك قط ضاويّ على نافذتها، وبومة غبراء فوق سطحها المتهدم وشعاع من القمر الساجي يكسوها ليلاً، ونور غامر يتفجر في أركانها نهاراً، ونفخة من ريح الشمال تهب عليها، وغابة من شجر الصنوبر تتدرَّج أمامها سفح الجبل. . .

وقد نشرت (الرسالة) في 441949 ترجمة لتحفة جميلة من

أقاصيص ذلك الكتاب عنوانها (الشيخان)، لا يقرؤها القارئ

مرة إلا عاودته مشاهدها مراراً: أولاً مشهد الساعي القروي

العجوز الذي يفتتح القصة مزهواً فخوراً إذا يحمل في يده رسالة واردة من باريس، ثم منظر ميدان إيجوير المقفر في

جير الظهيرة، ثم بيت صغير يبزغ على الأرضكأنما كان من

إشارة عصا سحرية، ثم صوت نحيل متقطع ينطق من هذا

البيت، صوت طفلة من تلميذات المدارس تقرأ كلمة كلمة

وحرفاً حرفاً في كتاب أكبر منها: (حينئذ. . صاح. . القديس.

. إيرنيه. . أنني. . قمح. . المولى. . ويجب. . أن. . أطحن.

. بأنياب. . هذه. . الوحوش. .) وإنها لعبارة خليقة بأن تبعث

إلى مخيلتك المكان والزمان والوجوه التي طالعتها بل ودرجة

الحرارة إذا ذاك، فهي تمثل لك الشيخين، والطفلين، وقفص

العصافير، والذباب العالق بالسقف، والساعة المعتمدة على

الحائط، وقد أخذتهم جميعاً سِنة من النوم. ما ناسب كلام

مقتضى الحال كهذه الجملة الوحشية من تاريخ الشهداء الأوائل

الذي يشبه الأساطير، تلقيها على مسمع شيخ سطا عليه الكري

في مقعده ساعة القيلولة صبية من بنات ملجأ الأيتام لا تكاد

تجيد الهجاء. وأكبر الظن أن دوديه لم يبتدع هذه العبارة

ابتداعاً، وإنما اقتنصها أو اقتنص مثيلة لها على شفتي طفل

يتعلم القراءة في بعض كتاتيب القرية أو بعض زوايا الريف.

ثم بلى ذلك مشهد الاستجواب الطريف، والشيخ الذي

يوشك أن يهذي وهو يسأل الفتى الزائر عن لون ورق الغرفة

التي يسكنها حفيدة العزيز. . . ثم تلك المأساة الرهيبة التي

تجري فصولها أمام الصوان العالي إذا تركب الشيخ نزعة

الكرم فيحاول إنزال زجاجة الشراب المعتق من مكانها القصي

على حين تقف زوجه مرتاعة تثنيه عن عزمه وهي باسطة

ذراعيها المرتعشتين لتسنده إذا هوى. . . ثم مشهد خروج

الشيخ مع الفتى معتمداً بقوته ووقوف الشيخة على باب الدار

تشيعهما في مقة. . . هذا كله، لابد أن الكتاب قد رآه بعينه

ذات يوم ثم وشاه بخياله الممراح ولدينا خير دليل على هذا

الخيال المبدع في الحوار الذي أدراه الفتى بين مهدى الشيخين

في السَحر، وخير دليل على مزج الواقع بالخيال في ملاحظته

أن الشيخين متشابهان غاية التشابه لا يميزهما إلا اختلاف

الملابس، أو مطالعته في ابتسامتيهما الذابلتين صورة باهتة

نائية لوجه حفيدهما العزيز، صديقه موريس.

ولقد طار صيت ألفونس دوديه بأقصوصته (عنزة السيد

سيجان) (نشرت (الرسالة) ترجمة لها في العدد التاسع من السنة الأولى 1551933، فما من طفل فرنسي لا يعرف هذه

القصة ولا يرويها لك؛ وإنك لتسمعها منه في شغف؛ ويروقك

أن تستعيدها من حين إلى حين. ومع ذلك فليس أيسر من

تلخيصها في سطر واحد: عنيزة كرهت الحظيرة والقيد

فانطلقت إلى الجبل حيث أكلها الذئب. ولكنها آية من (السهل

الممتنع) لا شك تعجز عن تدبيج مثلها الأقلام المرتفعة

الكبيرة. وإنها لتحقيق طيب لقولة راسين: (ما الفن إلا خلق

شئ من لا شئ).

وإذا ضاق المقام عن استعراض روائع التفاصيل في كثير من قصص دودية الممتازة، فلن نستطيع أن نهمل حديث دودية نفسه عن (الأشياء الصغيرة) وأسلوبه في النظر إليها - فهو يقول في سياق قصة شجية، خالية تمام الخلو من الأحداث، جعل عنوانها عبارة صاحبه (بثلاثمائة ألف فرنك وعدني بها جيراردان. . .):

(هناك آلام غريبة عنا، لا تربطنا بها وشيجة، ولا نلمحها إلا مصادفة، ونحن نعبر مكاناً ما، في دقيقة، أثناء سعينا الحثيث وخلال زحمة الشارع. . . تلك أجزاء من أحاديث متقطعة يتبادلها اثنان بين اهتزازات مركبة؛ هموم عمياء تتكلم وحدها، وبصوت مرتفع؛ كتفان مكدودتان؛ حركات مجنونة؛ عيون محمومة؛ وجوه شاحبة منتفخة من الدموع؛ أو أحزان حديثة العهد لم يحسن أصحابها كفكفتها في طيات ما يتدثرون به من سواد. . . ثم، أشياء صغيرة، تفاصيل خاطفة، ويالها من توافه! زيق رداء، أطالت الفرشاة حَتَّه، بالٍن يلتمس الظل. . صندوق من صناديق الطرب والموسيقى، تحت باب مسقوف، تديره يد متسول ولا يُخرج صوتاً. . شرط من المخمل في عنق حدباء، مشدود في قسوة، محكم العقدة مستقامها بين الكتفين الشائهتين. . . وتمر بك جميع هذه المناظر، مناظر البلايا المغمورة مراً سريعاً، وتنساها وأنت سائر. . ولكنك في آخر النهار تشعر بدبيب كل ما في نفسك من التأثر والرثاء والمضض لأنك دون أن تدري، قد علقت، عند منعرج طريق أو أُسكُفّة باب بهذا الخيط غير المنظور الذي يربط تلك البلايا معاً، ويرجها جميعاً إذا اهتز هزة واحدة).

وكان ألفونس دوديه ممن يشكون قصر البصر. ولعل لهذه العاهة أثراً في عنايته بكل شئ صغير. فإن الرجل المرهف الحس الذي لا تستطيع عينه أن تلم من بعيد بجميع خطوط المنظورات، يحرص دائماً على أن يقترب من الأشياء، ويحدق في كل شئ من كل ناحية، وينتهي به الأمر إلى أن يسجل للمرئيات صوراً أدق وأصدق وأروع من الصور التي نلتقطها نحن بعيوننا السليمة. أضف إلى ذلك ما رأينا من اندماجه في زحمة الشارع واعتزاله في برج الشاعر (راجع عدد 846 من (الرسالة). ولقد كان أديبنا الساحر ينشد سيكون الريف أو الشاطئ أو الصحراء كلما دار رأسه في باريس، وكان يعي نعمة العزلة التي فيها تصفو ملكة الناظر وتصفو أحلام الشاعر وتصفوا عبارات الكاتب.

يقول برجسون، وهو خير من فطن إلى معنى الفن وغايته وعلاقته بالحياة: (لقد انسدل بين الطبيعة وبيننا، بل بيننا وبين إدراكنا، حجاب صفيق عند عامة الناس، رقيق ويكاد أن يكون شفافاً عند الفنان والشاعر. فالناس لابد أن يعيشوا، وأن يكسبوا قوتهم، والحياة تقتضينا أن نقدر الأشياء تقديرا مبنياً على مدى صلتها بحاجاتنا. فنحن لا نقبل من تأثير الأشياء علينا إلا التأثير النافع لنا، ثم نلبي هذا التأثير بأعمال هيرد فعل خاص، أما التأثيرات الأخرى للأشياء فإننا لانفعل، ولابد أنها تظلم وتعتم ولا تبلغنا إلا غامضة مبهمة مشوشة.

أنا أنظر وأظن أنني أرى، وأصغى وأظن أنني أسمع، وأختبر نفسي وأظن أنني أقرأ ما سطر في أعماق قلبى، على حين أن ماراه وما أسمعه من العالم الخارجي ليس إلا تستخلصه حواسي لإرشاد سلوكى، وعلى حين أن أعرفه عن نفسي ليس إلا ما يطفو على سطحها وما يشترك بنصب في حياتي العملية. . . لقد صنفت الأشياء تصنيفاً غايته مقدار الفائدة الذيأستطيع أن أصيبه منها. وهذا التصنيف هو الذي أراه أكثر مما أرى ألوان الأشياء وأشكالها. . إن شخصية الأشياء والكائنات تغيب عنا ما دام لا يعود علينا تمييزها بنفع مادي. فإذا لاحظناها فلن تكشف عيننا شخصية الشيء أي هذا الاتساق الخاص من الإشكال والألوان، هذا الاتساق الأصيل كل الأصالة، وإنما تكشف واحدة أو اثنتين من الملامح التي تيسر لنا معرفة الشيء عمليا.

جملة القول أننا لا نرى الأشياء نفسها، وإنما تقتصر في أكثر الأحيانعلى قراءة بطاقات ملصقة عليها. وقد قوبت هذه النزعة، وهي وليدة الحاجة، تحت تأثير اللغة. . . فاللفظ الذي لا يسجل من الشيء إلا وظيفته العامة الشائعة ومظهره الغليظ المبتذل، يندس بين هذا الشيء وبيننا فيقنع شكله عن عيوننا، إن لم يكن ذلك الشكل قد احتجب من قبل وراء الحاجات التي خلقت اللفظ نفسه).

ويخلص برجسون من هذا إلى أن الفنان نفس منقطعة عن الحياة، لا هذا الانقطاع المقصود المدبر المعتمد، وإنما هو انقطاع طبيعي راجع إلى خليقة الحس، يغمر الفنان في حياة روحية خالصة كالأحلام والرؤى، وتظهر آثاره مباشرة في أسلوب البصر والسمع والتفكير بما يزيح الرموز والكنايات والعموميات ذات النفع المادي ويوقفنا وجهاً لوجه أمام الحقيقة. . .

ولألفونس دوديه صفحات كثيرة تصل إلى هذه الطبقة، حسبنا هنا أن نقتبس فقرة قصيرة من حديث الراعي البروفنسى الذي بات يروى أساطير (النجوم) لابنة سادته. أنه يشعر شعوراً ساحراً فوق الجبل، فهو يعرف ما الذي يجرى فيها أحسن مما يعرفه أهل السهل). وهو مع ذلك لا يتكلم إلا كلاما ساذجا (لو أتيح لك تقضى الليل ساهراً؛ لعرفت أن في الساعة التي نرقد فيها، يستيقظ عالم سحري يعمر العزلة والسكون. هناك تغنى الينابيع غناء أصفى وأجهر، وتوقد الغدران جذوات صغاراً، وتذهب جميع الأرواح الهائمة في الجبل وتجيء حسرة طليقة؛ وإذا أنت تحس في الهواء خفيفاً وأصواتاً خفيضة لا تكاد تدركها الأذن، إن النهار دنيا الأحياء، أما الليل فحياة الأشياء).

وقد عاش دوديه مع الأشياء الصغيرة، بل عاش فيها وعاشت فيه، بالمعنى الحرفي لهذه الكلمات. هو ذا يصف أياما قضاها على شاطئ كورسيكا فيقول: (كنت إذا لم تعصف المسترال أو ريح الشمال آتي فأستلقي بين صخرتين قائمتين في مستوى سطح الماء، وسط الحمائم والشحارير والسنونو، وأكاد أقيم النهار كله على هذه الحال من الشرود والاعتلال اللذيذ الذي يغدقه تأمل البحر. ألا تعرف هذه النشوة العذبة التي تغمر النفس؟ هناك لا يفكر المرء، ولا يحلم، وإنما يشرد كل كيانه، ويطير، ويتشتت. فإذا، أنت هذا الطائر الذي يغطس في الماء، وإذا أنت رذاذ هذا الزبد الذي يطفو في نور الشمس بين موجتين، وإذا أنت ذلك الدخان الأبيض الذي يتصاعد من تلك السفينة التي تبتعد، وإذا أنت هذا الزورق الصغير الأحمر الشراع، وأنت هذه اللؤلؤة من الماء، وهذا الغشاء من الضباب، أنت كل شىء ما عدا نفسك. . .)

وقد يكون من العبث الطريف أن تحاول إحصاء كلمة (الصغير) في كتاب من كتب دوديه. إنها تتردد مراراً في الصفحة الواحدة، بل في الفترة الواحدة. . . ولكن الحياة المادية الحديثة التي أصبح المرء لا يبحث فيها إلا عن الكسب، والمتعة القريبة المباشرة، وقد أنهت بالحس الإنساني إلى التبلد والمجون، وصرفت النفوس عن الأشياء البعيدة والأشياء الصغيرة صرفاً يكاد يصل إلى إنكار وجود هذه الأشياء. . . على أننا نستطيع أن نستعير من منطلق المادية الغليظة دفاعا عن الشيء الصغير: فتلك البذرة الضئيلة التي لم تستوقف عينك لحظة هي التي أنبتت هذه الدوحة العظيمة التي تروعك بجذعها الضخم وأغصانها الملتفة، وزهرها الوضاح وثمرها الغزير؛ وبعض الغدد الصغيرة التي كان يجهل الطب القديم مكانها من جسم الإنسان أضحت اليوم في ضوء الطب الحديث أهم وظيفة وأخطر شأنا من الأعضاء الكبيرة الشهيرة؛ بل حسبنا أن نذكر أن عصرنا هو عصر (الذرة). . .

يرحم الله جوته فقد قال عن الشاعر إنه (من يستخلص المعنى الرفيع من الشىء الوضيع)؛ ويرحم الله ألفونس دوديه، فقد كان يقول لابنه ليون: (إن للاشياء معنى، مكانا نستطيع أن نمسكها منه).

أنور لوقا

مدرس منتدب بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول