مجلة الرسالة/العدد 849/الأدب والفن في أسبوع
→ تعقيبات | مجلة الرسالة - العدد 849 الأدب والفن في أسبوع [[مؤلف:|]] |
البريد الأدبي ← |
بتاريخ: 10 - 10 - 1949 |
للأستاذ عباس
اليوم خمر:
افتتحت الفرقة المصرية موسمها الحالي يوم السبت الماضي على مسرح الأوبرا الملكية، برواية (اليوم خمر) للأستاذ محمود تيمور بك، وقد أخرجها الأستاذ زكي طليمات المدير الفني للفرقة. وهي مسرحية (كوميدية) تصور حياة الشاعر امرئ القيس شابا لاهياً سادراً في لهوه وعبثه نزاعا إلى حياة الطلاقة والتحرر مما يعرض له من الأمور الجسام، حتى الحب الذي أثقله في النهاية بثلاث نساء، لم يستطع أن يواجهه ففر منه. . .
وتمازح عرض تلك الشخصية صور إنسانية وقيم أخلاقية واجتماعية وقضايا فكرية، تتخلل كل ذلك مفارقات وطرائف أضفت على جو المسرحي روحا فكها مرحا، جعلها ملهاة من الأدب الرفيع.
وقد قرأت هذه المسرحية عند ظهورها مطبوعة منذ شهور، ثم شاهدتها على المسرح، فلاحظت أن المخرج الأستاذ زكى طليمات تصرف فيها تصرفا غايته الاختصار لطولها، وتيسير بعض كلماتها توخيا للملاءمة بينها وبين الجمهور، فقد وضعها المؤلف لتكون أثراً أدبياً يقرأ قبل أي شيء، وقد جعل أسلوبها قريباً من عصرها ولم يبعد عن ذوق عصرنا، ومع هذا كان لابد من أن يصنع المخرج ما صنع، وهو مع ذلك لم يمس الأسلوب المتين والتركيب القوى. وقد بذل الأستاذ زكى طليمات من فن الإخراج في هذه المسرحية ما جعل الفن الرفيع يتعاون مع الأدب الرفيع، وما أظن هذا القول يتعارض مع ما سأتناوله بعد من الملاحظات والمآخذ.
تتكون المسرحية من خمسة مشاهد، نرى في الأول امرأ القيس وحاشيته من رفاق وخدم عند غدير دارة جلجل، يلهون ويقصفون ثم توافيهم هناك الجارية الجميلة (أقحوان) حيث تلتقي بامرئ القيس لأول مرة، وترقص أقحوان قربانا للصنم (هبل) الذي يتوسط المكان، ثم تأخذ هي وامرؤ القيس في مداعبة ومنازلة تنتهي بغضب أقحوان من امرئ القيس لانصرافه عن تقبيلها إلى إطراء عينيها ثم التوجه إلى مناجاة القمر في السماء، وتنصرف بعد أن تقول لرفاقه: إن صاحبكم ليتشدق بالطعن والضرب، آخذاً للحرب أهبتها في ك وقت، فإن حانت ساعة العراك تبوأ مقعده يرقب السماء ويحصى نجوم الليل. وهكذا تظهره هراجا نفاجا ليس كمثله هراج ولا نفاج، كما تقول له.
ثم يقبل سرب من العذاري، قاصدات غدير دارة جلجل يبتردن، فيخلون لهن المكان، ثم يتسلل إليهن امرؤ القيس وحده وقد خلعن ثيابهن - يطفأ نور المسرح في هذه اللحظة - ويجرى بينه وبينهن حديث طريف ينتهي بإصراره على ألا يدفع إليهن ثيابهن - وقد استولى عليها - إلا بعد أن يخرجن إليه متجردات.
ثم يقبل الملك حجر وبصحبته فاطمة بنت أخيه، فيؤنب الوالد ولده على مسلكه وتحاول فاطمة أن تلطف من حدة الموقف ونتبين في أثناء ذلك أن فاطمة فتاة طموح تريد أن تحث امرأ القيس على الأخذ بأسباب المجد، وهما يتبادلان عبارات الحب والمودة.
وفي المشهد الثاني نرى امرئ القيس في ناحية من سفح جبل دمون باليمن، يلعب بالشطرنج مع أحد أصحابه، وبقية رفاقه على مقربة منه يشربون الخمر وأمامهم قينة ترقص. ثم يقبل عامر ابن معاوية عضد الملك حجر، متهجم الوجه، وينعى إلى امرئ القيس أباه الملك، فيستمر امرؤ القيس في اللعب غير عابئ بالنبأ، حتى يتم الدست. . . ثم يعلن أن اليوم خمر وغداً أمرّ، وينشد:
خليلي ما في اليوم مصحى لشارب ... ولا في غد إذ ذاك بالكأس نشرب
وتدخل عليه فاطمة وتستحثه على الثأر من بنى أسد قتلة أبيه، فيبدى لها عزمه على المضي في أخذ الثأر. ثم يأخذ في تأمل عينيها وهو ثمل يترنح، فتصده عنها، فيبثها حبه، فتعده بمبادلته الحب بعد أخذ الثأر.
وقبل المشهد الثالث نرى على المسرح منظراً عجبا: سحبا متكاثفة تسير في جو البادية، ونسمع خلال سيرها صوت الأستاذ زكى طليمات يحدثنا حديثاً موجزاً عن حروب امرئ القيس مع بنى أسد وانتصاره عليهم وإيقاعه بهم، وعودته إلى الشرب واللهو
بعد ما نال منهم ماعده ثأراً، وتحريض ابنة عمه فاطمة له على الاستمرار في حروبهم.
والواقع أن هذا الحديث إجمال لما حدث في فصل حذف من أصل الرواية، وكان ذلك، مع منظر السحب الملائم للحوادث، تجديداً رائعاً في المسرح المصري.
ثم يأتي المشهد الثالث وهو في كهف بشمال اليمن حيث يجلس امرؤ القيس مهموماً، ينتظر عامر بن معاوية الذي أرسله إلى رؤساء القبائل يستنجد بهم، بعد أن خذلته قبيلتا بكر وتغلب ولحقته الهزائم، وتقبل عليه فاطمة، فيغلظ لها في القول، ولكنها تحزن لمرآه وتتود إليه وتعبر عن ندمها على تحريضه حتى أوقعته في هذه الحال، وتنقلب إزاء تجهمه لها أنثى وديعةمحبة مستسلمة، وما تزال به حتى يلين لها ويعاهدها على الحب. ويقبل عامر وينهي إليه أن أحداً لم يستجب له، ثم يشير عليه أن يتوجه إلى الحارث الغساني بالشام ليستعين به، وهو عدو المنذر الذي أعان بنى أسد وأهدر دم امرئ القيس.
ولكن صديقا لامرئ القيس (صمصام) عاد من رحلته التجارية وأقبل عليه في هذا الموقف، فأشار بالتوجه إلى قيصر بالقسطنطينية، ويقول فيما يقول لامرئ القيس إنها عروس المدائن وتزخر بالحسان والخمر المعتقة. . . ويعلن الرحيل إلى القسطنطينية.
والمشهد الرابع في حانة ميخايلوس بالقسطنطينية حيث نرى أبا زبيبة وحنظلة خادمي امرئ القيس يشربان ويغازلان لاريسكا ابنة ميخايلوس ومينورقا الفتاة الخليعة بالخانة. ويظهر لنا من الحديث أن لاريسكا قد أحبت امرأ القيس، وأن المدينة تردد نبأ العلاقة الجديدة بين الفتى العربي (قيس) وبين ابنة القيصر التي أحبته. ويقبل امرؤ القيس إلى الحانة. وفيما هو ولاريسكا يتبادلان عبارات الحب يقدم عامر بن معاوية وفاطمة، فتنصرف لاريسكا وتتسمع حديثهم الذي يتضمن أن كسرى مستعد أن ينصر امرأ القيس الذي يتأبى أن يلجأ إلى عدو قيصر بعد وعده المعونة على أمره.
والمشهد الخامس في الحانة أيضاً، وبينماحنظلة يغازل مينورقا يقبل امرؤ القيس، ثم تقبل فاطمة وعامر وصمصام، وتقدم ابنة القيصر لتلوم امرأ القيس على غشيانه هذه الحانة الوضيعة. ويقف امرؤ القيس بين ثلاث محبات يتنازعه: فاطمة وابنة القيصر ولاريسكا. وفجأة يدخل صاحب شرطة قيصر يريد القبض على هؤلاء البدو بتهمة التجسس لكسرى. ويتضح أن لاريسكا هي التي أبلغت أمرهم، لتحول دون رحيل امرئ القيس ويتصدى امرؤ القيس للشرطة ويأبى أن يسلم فاطمة وعامر وصمصاماً، ويستل سيفه وتدور بينه وبين الشرطة معركة يقضى عليهم فيها، ويصيحأهله أن يقفزوا من على سور الحانة إلى البحر ويلحق بهم، يطلبون في البحر مهربا.
الصورة الواضحة لامرئ القيس في الرواية هيأنه فتى عابث ما جن نفاج لا يعرف الجد ولا يتحمل التبعات، ولكن امرأ القيس (الشاعر) لا يكاد يوجد فيها. نعم إنه أنشد أقحوان بتين، وروى خادمة أبو زبيبة الأبيات التي مطلعها:
سموت إليها بعد ما نام أهلها ... سمو حباب الماء حالاً على حال
وأنشد بضعة أبيات بالمشهد الثالث. ولكن كان ذلك ضئيلا لا يكون للشاعر صورة، وقد حذف جزء من الفصل الأول كان فيه ينشد أبياتاً ظريفة لعذارى الغدير. وكان هذا الجزء بسبيل إلى إبراز صفة الشاعرية. ومن تصرفات امرئ القيس القليلة الدالة على رقة الشاعر وإنسانيته، موقفه أمام الغزال الذي اصطاده وأسفه على أن صرعه وقوله في ذلك: ألا يستطيع المرء منا أن يأكل دون أن يقتل؟
ولم يكن تغزله بفاطمة ليلة نعى أبيه وهي مكتئبة حزينة باكية وإلحاحه في معابثتها ومجاذبتها على هذه الحال، مما يتفق والإحساس الدقيق النبيل الذي يتميز به الشاعر، بل كان هذا الموقف أدنى إلى الحيوانية، ولا يبرره السكر، فإن الإحساس الأصيل لا يتغلب عليه شيء. والطبع الفني الرقيق لا يخرجه العبث والمجون عن دائرة مشاعره الإنسانية العالية.
والفصل الثالث الذي اضطر المخرج إلى حذفه، كان يحتوى أمرين مهمين، أولهما بيان خلة امرئ القيس في حرصه على ألا يضيع حظه من اللهو والشراب طويلاً، فما إن من بنى أسد بعض النيل حتى هرع إلى اللهو وإباحة الشراب.
الأمر الثاني تصوير فاطمة وهي تجد في العمل على مواصلة القتال وتحريض امرئ القيس، وهذا التصوير ضروري لكي يدرك المشاهد روعة انقلابها عندما عرض عنها امرؤ القيس وأغلظ لها فإن هذا الانقلاب الشعوري لمعة في أثناء الحوادث يدل على حرص الأنثى على الناحية العاطفية مهما اشتدت وتطلعت إلى المجد. ولم يكن الحديث الموجز الذي نطق به الصوت المسموع كافياً لإبراز ذينك الأمرين.
وفي المشهد الثالث عندما يئس امرؤ القيس من مساعدة من استنجد بهم نراه يستغرق في تأملاته وتفكيره استغراق المجرب الذي عرك الحياة وعلمته الشدائد، فيتحدث عن تغير الأصدقاء، وعن قيمة الحياة وهل هي المتعة بإشباع البطن وقضاء الشهوة يستوي في ذلك الإنسان وغيره من الحيوان، أولها أهداف ومقاصد يسعى إليها كل ذي عقل ورشد، ويتحدث عن القدر وموقف الإنسان منه حتى ينتهي إلى أن القدر لا يستطاع دفعه ولكن للإنسان تبعته ونصيبه، فللأقدار يد تدفع ولكن إرادة الإنسان تغالب. وقد كان هذا الموقف يثقل على المشاهدين لولا ما نخلله من مفاكهات الخادمين حنظلة وأبي زبيبة، فالأول يرى أن القدر هو كل شيء فقد رمى الوعل بأسهم عشرات فما أصابت منه مقتلاً، وشاء القدر أن يرتطم في حفرة فناله بلا كد ولا عناء. ويرى الثاني أن الإنسان إن لم تكن له إرادة لم يتيسر له مطلب، كيف استمتاعك بالمرأة إذا لم تسع جاهداً حتى يتبدل عسرها يسراً ويعود جماحها ميلاً وانعطافاً؟
وهكذا نرى تلك الأفكار تساق في مساق ظريف يندى جفافها على المشاهدين. ولكن في بعض الفترات خلا امرؤ القيس إلى نفسه وأطال في المناجاة حتى أمل. وحدث ذلك مرتين، أنهي الأولى دخول حنظلة، وأنقذ الجمهور في الثانية قدوم صمصام.
وقد كانت الخاتمة جيدة في أمر، ومضحكة في أمر آخر، فقد كان رائعاً ألا يتخلى امرؤ القيس عن أهله ويقف بالسيف دونهم على رغم إغراء البيئة التي أغرق فيها. أما القفز إلى البحر والهرب فيه مجاهره من قيصر وشرطته، فلا أستطيع أن أتصور عجز الحكومة القيصرية عن اللحاق بأربعة من البدو متهمين بالتجسس للعدو، يقلعون من شاطئ القسطنطينية أمام الأبصار.
وجهد الأستاذ زكى طليمات في إخراج الرواية بارز عظيم، وقد جسم الجو البدوى الملائم للحوادث على المسرح، ووفق في توزيع الأدوار على قدر الإمكان. . .
وقد مثل (امرأ القيس) أحمد علام، فنهض بالدور وإن لم يكن نجاحه فيه كاملا، وذلك أنه لم يعبر عن طبيعة امرئ القيس الماجنة، لا بالصوت ولا بالحركات، ولم يكن يظهر عليه المرح في وقته كما ينبغي أن يظهر، ولم يكن ثمة فارق كبير بين أحواله المختلفة في الإلقاء ونبرة الصوت، وأحمد علام أليق بالأدوار الجدية كدور مجنون ليلى منه بمثل هذا الدور العابث الماجن. وقد تبين كسله في حفظ دوره، وهذا الكسل وإن كان ملحوظاً لدى أكثر الممثلين والممثلات، إلى أنه كان ظاهراً في أحمد علام الذي يعتمد على الملقن حتى أنه كان ينطق بعض الجملة ويصغي إلى الملقن ليسعفه ببقيتها. ويبدو أن الممثلين والممثلات لم يمرنوا التمرين الكافي على سلامة النطق وتصحيح اللغة، فقد عم التكسير في الكلمات وضبطها، ولم يكن ذلك منتظراً ولا لائقاً بأستاذ كأحمد علام.
ومثلت (فاطمة) فردوس حسن، فأجادت التمثيل وأدت دورها أداء باهراً، ولم ينقصها غير النطق العربي الصحيح، وهذا غير سلامة الضبط، إنما هو اللهجة وكيفية إخراج الكلمات، وأظهر ما في نطقها دغم الكلام وعدم الإبانة. ومن المفارقات أن اللائى مثلن لاريسكا (إحسان شريف) وميفورقا (زوزو حمدى الحكيم) وابنة القيصر (روحية خالد) كن ينطقن نطقاً عربياً - وهن يمثلن أعجميات - أحسن من نطق فردوس وهيتمثل فاطمة العربية.
أما فؤاد شفيق فأنا معجب به لظرفه وقدرته على أداء هذا الظرف باللغة الفصيحة، وهو روح نابض في الرواية، وقد مثل (حنظلة).
وقد وفق سائر الممثلين والممثلات في الاندماج في أدوارهم، وخاصة فاخر فاخر (صمصام) وكان حسن البارودي في دور (قبيصة بن نعيم) موفقاً في التعبير بصوته وإلقائه إلى جد بعيد، عندما تكلم عن وفد بنى أسد إلى امرئ القيس.
عباس خضر