الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 847/رسالة النقد

مجلة الرسالة/العدد 847/رسالة النقد

بتاريخ: 26 - 09 - 1949


ديوان الوزير

محمد بن عبد الملك الزيات

نشره وحققه الدكتور جميل سعيد

بقلم الأستاذ بدوي أحمد طبانة

يخيل لكثير من الناس أن إخراج كتاب أو نشره عمل يسير، يستطيع أن ينهض به كل من يستطيع أن ينسخ، ثم يستطيع بعد ذلك أن يقدم ما نسخه إلى المطبعة. هكذا يخيل لأكثر الناس، وكذلك كان يخيل إلي أيضاً قبل أن أبتلي بهذا اللون من الجهد العلمي، حتى إذا كان ذلك تبين لي أن جهداً يبذل في نشر كتاب وتحقيقه دونه بكثير كل جهد يبذل في التأليف وإن كان عظيما؛ لأن المؤلف صاحب الموضوع الذي يؤلفه، اختمرت في رأسه فكرته، وأعد له ما يعينه من المراجع. أما الناشر فما اكثر ما يصادف من عقبات لا يستطيع اجتيازها إلا الكفء الجلد، وناهيك بعقبات التمزيق والعث وما يقع فيه النساخ من أخطاء التصحيف والتحريف.

وفي المكتبة العربية نفائس لا يحصيها إلا الله، ولكنها مطمورة في زوايا النسيان، لا تصل إليها الأيدي، ولا ينتفع الناس بما تحوي من علم وفن، حتى يتاح لهذه النفائس من ذوي الغيرة من يأخذ بيدها فينفض عنها غبار السنين، ويعم الانتفاع بها.

ونحن في نهضتنا الحاضرة محتاجون أشد الحاجة إلى بعث هذه الكنوز من مدافنها؛ فإن في هذا البعث خدمة قومية إلى ما يؤديه من خدمات علمية أو فنية، فإحياؤها فرض ليس لقادر عليه أن يكف عنه.

ولهذا لا يسعنا إلا أن نرحب بديوان الوزير محمد بن عبد الملك الزيات، وإلا أن نشيد بفضل ناشره العالم الأديب الدكتور جميل سعيد أحد أساتذة الأدب في دار المعلمين العالية في بغداد، الذي أضاف إلى الأدب ثروة فنية تعين الباحثين ومؤرخي الأدب بنشره هذا الديوان، فعامة العلماء والأدباء يعرفون ابن الزيات كاتباً أكثر مما يعرفونه شاعراً، وهم يعرفون كيف سما الأدب بإبن الزيات حتى كان الوزير والمصرِّف للأمور في عصر م أزهى عصور الدولة العباسية، ولم يكن له من الحسب أو الجاه ما يرشحه لهذا المنصب الخطير، وهو زيات ابن زيات، سوى الموهبة الأدبية.

وقد قدَّم الدكتور جميل الديوان بترجمة موجزة لحياة الرجل ووضفت النسخة التي نقل عنها، ثم ذكر في مقدمته عدة آراء في ابن الزيات وشاعريته استخلصها من شعره، وأكثر هذه الآراء وفق فيه توفيقاً مظيما يشهد له بالأصالة والبراعة والحاسة الفنية المرهفة

وكان سر هذا التوفيق أن صاحبه كان صادقاً، وكان ميزاناً هدلاً لنفسه، ولصاحب الديوان الذي نشره، فلم يفرط في تقريظه والتنويه به؛ شأن كثير من الذين يعتدون بالموضوع الذي يدرسونه أو الشخصية التي يعالجون تحليلها. . .

ومن أمثلة الإنصاف قوله عن الشعر الذي عثر عليه في ديوان ابن الزيات: إنه (لا يمثل حياة ابن الزيات كاملة. وربما كان له شعر لم يجمعه جامعه).

ثم تراه يقول: (إن أشعاره التي في ديوانه هذا لا نراها تضعه في مصاف الشعراء المطبوعين، وقد لج الهجاء بينه وبين علي ابن جبلة، والقارئ حين يقرؤه يجد الفرق واضحاً بين ابن الزيات وبين الشاعر المطبوع علي بن جبلة).

ومثل هذه الآراء سديد موفق، ومبعث السداد والتوفيق - كما قدمنا - أن صاحبها كان صادقاً في قوله صدقه في إحساسه الفني.

ولكننا على الرغم من إعجابنا بهذه الآراء وتقديرنا للجهود الفنية التي بذلت في نشر الديوان، لا نتفق مع الأستاذ الناشر في فهم معنى ما أورده ابن رشيق في العمدة نقلا عن الجاحظ في قوله: (طلبت علم الشعر عند الأصمعي فوجدته لا يحسن إلا غريبه فرجعت إلى الأخفش فوجدته لا يتقن إلا إعرابه، فعطفت على أبي عبيدة فوجدته لا ينتقي إلا ما اتصل بالأخيار وتعلق بالأيام والأنساب، فلم أظفر بما أردت إلا عند أدباء الكتاب كالحسن بن وهب ومحمد بن عبد الملك الزيات).

فقد فهم الدكتور جميل من هذه العبارة أن الجاحظ يفضل هذين وأضرابهما على سائر الشعراء تفضيلا مطلقاً، وقد بنى على هذا الفهم مناقشة هذا الرأي في قوله: (وبعد، أفكان ابن الزيات من المكانة الشعرية بالمحل الذي ذكره به الجاحظ والصاحب وابن رشيق.

إننا لا نستطيع أن نفهم هذا الفهم الذي تبادر إلى ذهن الدكتور جميل من هذه العبارة، فإن سياق الكلام يدل على أن البحث في فهم الشعر، وتذوقه، ونقده، ومعرفة ما يسمو به وما يتضع.

يريد الجاحظ أن يقول: إنه لا يفهم الأدب - ومنه الشعر - إلا الأدباء، وأما هؤلاء الأعلام الذين رددوا أسماءهم فهم علماء كل في ناحيته التي يجيدها: فالأصمعي يحذق معرفة الغريب من ألفاظه اللغوية، والأخفش رجل نحوي لا يعرف إلا الإعراب، وأبو عبيدة قد تخصص في معرفة السير وأيام العرب وأنسابهم. أما المتذوقون للشعر القادرون على نقده من الناحية الفنية فهم طائفة الأدباء الكتاب.

ودليل آخر يؤيد ما نذهب إليه في فهم هذه العبارة هو قول الجاحظ في أولها: (طلبت علم الشعر. . .) والجاحظ عالم أديب يعني ما يقول، ويستطيع أن يفرّق بين الشاعر وبين العالم بالشعر

ولو أراد الجاحظ الموازنة بين الشعراء لم يفته، وهو الخبير، أن يذكر أسماء فحول الشعراء لا أساطين العلماء.

ودليل ثالث: هو أن الباب الذي عقده ابن رشيق قد جعل له عنواناً (باب في التصرف ونقد الشعر) ونحن مضطرون لأن نورد من هذا الباب ما يؤيد قولنا.

حكى الصاحب بن عباد في صدر رسالة صنعها على أبي الطيب، قال: حدثني محمد بن يوسف الحمادي، قال: حضرت بمجلس عبد الله بن طاهر وقد حضره البحتري فقال: يا أبا عبادة أمسلم أشعر أم أبو نؤاس، فقال: بل أبو نؤاس لأنه يتصرَّف في كل طريق ويبرع في كل مذهب إن شاء جدَّ وإن شاء هزل، ومسلم يلزم طريقاً واحداً لا يتعداه، ويتعلق بمذهب لا يتخطاه. فقال له عبيد الله: إن أحمد بن يحيى ثعلباً لا يوافقك على هذا، فقال: أيها الأمير ليس هذا من علم ثعلب وأضرابه ممن يحفظ الشعر ولا يقوله، فإنما يعرف الشعر من دفع إلى مضايقه، فقال: وريت بك زنادي يا أبا عبادة! إن حكمك في عميك أبي نؤاس ومسلم، وافق حكم أبي نؤاس في عميه: جرير والفرزدق؛ فإنه سئل عنهما، ففضل جريراً، فقيل: إن أبا عبيدة لا يوافقك على هذا، فقال ليس هذا من علم أبي عبيدة فإنما يعرفه من دفع إلى مضايق الشعر!

والخلاصة أن الجاحظ والصاحب وابن رشيق لم يفضلوا ابن الزيات وابن وهب وغيرهما من الكتاب على الشعراء في إحكام صنعة الشعر، وإنما فضلوهم على العلماء في نقد الشعر.

وإن أردت المزيد فاقرأ قول ابن رشيق في باب آخر أسماه: (باب في أشعار الكتاب) قال: (وليس يلزم الكاتب أن يجاري الشاعر في إحكام صنعة الشعر لرغبة الكتاب في حلاوة الألفاظ وطيرانها، وقلة الكلفة، والإتيان بما يخفف على النفس منها. وأيضاً فإن أكثر أشعارهم إنما يأتي تظرفاً لا عن رغبة ولا رهبة فهم مطلقون مخلون في شهواتهم، مسامحون في مذهبهم إذ كانوا يصفون الشعر تخيراً واستظرافاً).

ولنا بعد هذه الملاحظة ملاحظة أخرى تلك هي مسألة القوافي وترتيبها في الديوان، فقد سلك في بعضها مسلكا غير المتفق عليه عند العروضيين وعلماء القافية، ووضع بعضها في غير موضعه، وقد يعتذر عنه بأنه نقل ألقاب القوافي وترتيبها كما وردت في الأصل الذي اعتمد عليه، ونقل عنه.

وهذا الخطأ في أول الديوان وفي أواخره. من ذلك أنه جعل الشعر الذي أوله:

من يكن رام حاجة بعدت عن ... هـ وأعيت عليه كل العياء

والذي أوله:

جمع الله للخليفة ما كا ... ن حواه لسائر الخلفاء

من قافية الألف، وهي ليست كذلك، وإنما القافية المهمزة والقصائد تنسب إلى الحرف الذي بنيت عليه، وهو الروى، فيقال قصيدة دالية أو رائية أو ميمية وهكذا إذا كان الحرف الذي بنيت عليه دالا أو راء ميما، أما الألف هنا فهي ردف والردف هو حرف مد قبل الرويِّ.

ومن هذا أن في الديوان خلطاً عجيباً فيما سماه قافية الهاء فقد جعل منها كل شعر آخره هاء، وإن لم تكن الهاء روياً، ففي:

ما أعجب الحب في مذاهبه ... ما ينقضي القول في عجائبه

القافية الباء لا الهاء، وقوله:

وعائب عابني بشيب ... لم يفد لما ألمَّ وقته

قافيتها التاء لا الهاء وفي:

ظالم ما علمته ... معتد لا عدمته كتلك، وفي:

يا من يومي وغده ... ويمن ما بعد غده

القافية الدال على الهاء. والقصيدة التي أولها:

يا ذا الذي لا أهجره ... وعلى القلى لا أغدره

قافيتها الراء لا الهاء، والتي أولها:

أبكي الفتى بعد الخليط مربعه ... وكاد وجد القلب منه يصرعه

قافيتها العين، ومثلها:

قولا لأنف وقزعه ... أخطا كما وزن سبعه

والقصيدة التي كتبها إلى الحسين بن المرزبان النحاس:

فديتك إن انبساطي إلي ... ك علمي بأخلاقك الطاهرة

والتي أولها:

ألا من غدير النفس ممن يلومها ... على حبها جهلا ألا مَن غديرها

كلتاهما هائية القافية. ومن قافية الفاء قوله:

من العين طرفه ... ومن الظبي ظرفه

وقوله:

قل لعيسى أنف أنفه ... أنفه ضعف لأنفه

وقوله:

إن الخلافة أصبحت سراؤها ... مجلوبة وشورها مصروفة

ومن قافية اللام:

أخنى عليَّ الدهر كلكله ... وعدا (علي) عيشي فبدله

ومن قافية النون:

نزلت بالخائنين سنة ... سنة للناس محتمة

وقوله:

ما للغواني من رأين برأسه ... يققاً مللن وصاله وشثينه

ومن قافية الميم: سقيا لنضر الوجه بسَّامه ... مذهب الوالد قمقامه

ومن قافية الياء:

وللنفوس وإن كانت على وجل ... من المنية آمال تقويها

وقوله:

ما باله وابنه لم ... يزوجا عربيه

وقوله:

الآن قام على بغداد ناعيها ... فليبكها لخراب الدهر باكيها

وقوله:

إنك مني بحيث يطرد النا ... ظر من تحت ماء دمعتيه

والهاء في كل أولئك القصائد التي ذكرنا مطالعها إنما هي وصل سمعي بذلك لوصله بالروى، والوصل كما عرفه علماء القافية حرف لين ناشئ من إشباع حركة الروى أو هاء تليه.

وأعتقد أن مثل هذا الأمر لا يخفى على فطنة الأستاذ الصديق الأديب، وأعتقد أيضاً أن العجلة وحدها هي التي فوتت عليه الإشارة إلى الأخطاء التي وقع فيها جامع الديوان في الشروح والتعاليق التي ذبل بها على شعر ابن الزيات.

وبعد، فهذه هنات هينات، لا تغض بحال من قيمة العمل الأدبي الجليل الذي اضطلع به الأستاذ الأديب.

بدوي أحمد طبانة