الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 844/الفلسفة الصامتة

مجلة الرسالة/العدد 844/الفلسفة الصامتة

بتاريخ: 05 - 09 - 1949


للأستاذ عبد المنعم عبد العزيز المليجي

(تتمة)

الحياة أعظم الشرور:

تحدثنا الحكمة الهندية أن الأمير السعيد (ساكياموني) وهو من نعرف باسم (بوذا) خرج في عربته وهو شاب قد خفي عنه العلم بالمرض والشيخوخة والموت. فوقعت عيناه على رجل مسن مفزع، تحطمت أسنانه وسال لعابه من فمه. فدهش الأمير الذي خفي عنه حتى اليوم العلم بالشيخوخة، وسأل سائق عربته عما رأى، وكيف آل هذا الرجل إلى مثل هذه الحال الزرية المقززة. ولما علم أن ذلك هو المصير المألوف للناس جميعاً، وأن تلك الحال عينها تنتظره بغير مناص - وهو الأمير الشاب - لم يستطع أن يواصل السير، وأمر السائق أن يقفل راجعاً إلى البيت كي يتدبر الأمر. ثم حبس نفسه وأخذ يفكر. وربما وجد في نفسه ما يعزيه، لأنه خرج بعدئذ في العربة مرة أخرى وهو مرح سعيد. غير أنه رأى هذه المرة رجلاً مريضاً: رأى رجلاً هزيلاً شاحب اللون قاتم العينين يرتعش من شدة الهزال. فوقف الأمير الذي خفي عنه العلم بالمرض، وسأل عما رأى. ولما علم أن ذلك هو المرض الذي قد يتعرض له أي إنسان، وأنه هو نفسه - وهو الأمير الصحيح البدن الهانئ القلب - قد تصيبه العلة في غده، عاد إليه ذلك الاكتئاب الذي يحرمه المتعة بحياته وأمر سائقه أن يقفل راجعاً إلى البيت. وبحث عن العزاء مرة أخرى، وربما وجده، لأنه خرج في عروبته للمرة الثالثة قصد النزهة. ولكنه في هذه المرة الثالثة رأى مشهداً آخر جديداً: رأى جماعة تحمل شيئاً فسأل:

(ما هذا؟) فقيل له:

(هذا رجل ميت). قال:

(ما معنى كلمة ميت؟) فقيل له:

(إن المرء حين يموت يمسي كذلك الرجل).

واقترب الأمير من الجثة، ورفع عنها الغطاء، ونظر إليها، وسأل: (ما الذي سيحدث له الآن؟) فقيل له:

إن الجثة ستوارى التراب.

(لماذا؟).

(لأنه بالتأكيد لن يعود إلى الحياة، ولن يصدر عنه غير النتن والدود).

(وهل هذا هو مصير الناس أجمعين؟ هل يحدث لي نفس هذا الشيء؟ هل يدفنوني؟ وهل تصدر عني الرائحة الكريهة ويأكلني الدود؟).

(نعم).

(إلى البيت! لن أركب عربتي للنزهة، ولن أفعل ذلك مرة أخرى).

ولم يجد ساكياموني في الحياة ما ينطوي على أية قيمة وانتهى إلى فلسفته التي تقرر أن الحياة أعظم الشرور، وأن الخير يقضي بالتحرر منها ودعوة الناس للتحرر منها بكل ما يملكون من طاقة روحية. وهذه القصة ترمز إلى فلسفة الهند الزاهرة في الحياة، المتعلقة بالروحانية. وهي عين الفلسفة التي يعبر عنها سليمان الحكيم في الكتاب المقدس إذ يقول:

(باطل الأباطيل - كل شيء باطل. ما فائدة الإنسان من أي عمل بتولاه تحت الشمس؟ جيل يتولى وجيل يقبل إلى الأبد. إن ما كان سوف يكون وما حدث سوف يحدث، وليس تحت الشمس جديد؟ هل هناك شيء نستطيع أن نقول عنه: انظر! هذا جديد؟ كلا. إنه من قديم الزمان الذي سلف. ليس لما سلف ذكرى، ولن تكون لما يُقبل ذكرى. أنا الذي أعظكم كنت ملكاً على بني إسرائيل في بيت المقدس، ولقد وهبت قلبي للتنقيب والبحث عن طريق الحكمة في كل ما حدث تحت السماء. . . وناجيت قلبي وقلت له: هيه، أنا مالك لضيعة كبرى وعندي من الحكمة أكثر من كل من سبقني ببيت المقدس - أجل، إن قلبي مفعم بكثير من تجارب الحكمة والمعرفة. ولقد وهبت قلبي لإدراك الحكمة ولمعرفة الجنون والحماقة، فرأيت أن ذلك يبعث على الحزن العميق. ومن يزدد علماً يزدد أسى.

قلت لنفسي: الآن انطلق، ولسوف أمتحنك بالمرح. وإذن فلتنعم بمختلف المتع. فكان ذلك باطلاً كذلك. . . شيدت لي بيوتاً وزرعت الكروم، وأنشأت الحدائق والبساتين، وغرست فيها الشجر من كل الثمار، وحفرت البرك أروى من مائها الغابة التي تنمو بها الأشجار، واستخدمت الخدم والإماء، وولدت الخدم في بيتي، وامتلكت من قطعان الغنم والماشية أكثر من كل من سبقني في بيت المقدس. وجمعت كذلك الذهب والفضة ونوادر الكنوز من مختلف الملوك والأقاليم. وظفرت بالمغنين والمغنيات، وبكل ما يلهو به ابن آدم، كآلات الموسيقى وما إليها. وهكذا كنت عظيما، وتوفر لي ما لم يتوفر لكل من سبقني ببيت المقدس. وبقيت حكمتي معي كذلك، ولم أحرم عيني من كل ما اشتهتا، ولم أبعد قلبي عن أي لون من ألوان السرور. . . ثم نظرت إلى كل عمل عملته يداي، والى الجهد الذي بذلت. . . فرأيت أن الكل باطل يبعث على حنق النفوس، وليس من ورائه جدوى تحت الشمس. وهناك حدث واحد يقع للطيبين كما يقع للأشرار ولمحبي الخير ومحبي الشر، وللطاهر والدنس، ولمن يضحى ومن لا يضحى، والطيب كالخبيث، ومن يقسم بالباطل ومن يخشى القسم. إنه شر يتخلل كل ما يقع تحت الشمس، وكل شيء يتعرض لحدث واحد. نعم إن قلوب بني الإنسان كذلك مليئة بالشر، والجنة في قلوبهم ما داموا أحياء، وبعد ذلك يذهبون إلى الموتى).

شوبنهور وسقراط

لندع أسطورة بوذا وموعظة سليمان فهما من الحكمة الشعبية الصامتة، لنتأمل قليلا رأى كل من سقراط وشوبنهور الفيلسوفين بقول سقراط وهو يتأهب للموت: (إننا نقترب من الحقيقة كلما أشرفنا على مفارقة الحياة؛ إذ ما الذي نجاهد في سبيله نحن محبي الحقيقة؟ أننا نجاهد في تحرر أنفسنا من الجسد! ولما كان الأمر كذلك، فلماذا إذن لا نفرح حينما يأتي إلينا الموت؟ إن الرجل الحكيم يبحث عن الموت طوال حياته، ولذا فالموت لا يفزعه).

ويقول شوبنهور: (إذا ما أدركنا أن طبيعة العالم الخفية ليست سوى (الإدارة)، وأن كل مظاهر الطبيعة - من الحركة اللاشعورية لقوى الطبيعة الغامضة إلى عمل الإنسان الكامل الوعي - إن هي إلا مظاهر لهذه الإرادة، لم يعد لنا ما يبرر التخلص من هذه النتائج: وذلك أنا إن نبذنا الإرادة وتخلينا عنها طائعين، ألفينا كذلك كل تلك المظاهر - ذلك التيار الدافق والجهد الذي لا يكل ولا يهدا في كل مرحلة من مراحل المظاهر الطبيعية التي منها وعن طريقها يتألف العالم؛ وتلك الصور المتعددة التي تتلو إحداها الأخرى في تدرجها، وستختفي مع هذه الصور كل دلائل الإرادة، وستختفي كذلك في النهاية الصور العالمية لتلك الدلائل - الزمان والمكان، والصور النهائية الأساسية، أي أن كل ما ذاتي وكل ما هو موضوعي سوف يتلاشى. إذا لم تكن هناك إرادة فلن يكون هناك مظهر لشيء، ولن يكون هناك عالم. إنه لا يبقى أمامنا بالتأكيد سوى العدم)

وقف تولستوي أمام هذه الأقوال الأربعة فوجدها جميعاً تجيب عن سؤال واحد عرض لكل منهم بصدد مشكلة الحياة، وتنتهي إلى نتيجة واحدة:

يقول سقراط: (إن حياة الجسد شر وأكذوبة. وإذن فتحطيم حياة الجسد نعمة، يجب أن نتمناها.)

ويقول شوبنهور: (الحياة هي ما لا ينبغي أن يكون - هي شر، والانتقال إلى العدم هو وحده ما في الحياة من خير.)

ويقول سليمان: (كل ما في الحياة - من حماقة وحكمة وثراء وفقر ومرح وحزن - باطل وعدم. يموت المرء ولا يبقى منه شيء وهذا سخف).

ويقول بوذا: (يستحيل على المرء أن يعيش وهو يدرك أن الألم والضعف والشيخوخة والموت أمور لا مفر منها - يجب أن تتحرر من الحياة الممكنة كلها).

ويعلق تولستوي على هذه الأقوال بما يؤيد دعوانا التي سبقت الإشارة إليها وأعني انتساب المذاهب الفلسفية إلى الحكمة الشعبية فيقول:

(وما ذكره أصحاب العقول الجبارة فكرت وأحسست به وعبرت عنه ملايين الملايين من أمثالهم من البشر. وقد فكرت فيه وأحسست به أنا كذلك).

كتاب الحياة:

لعل قارئي العزيز اقتنع بعد هذا العرض لنصوص الكتاب والحكماء أن حس هؤلاء الدقيق يكفل لهم في كثير من الأحيان النفاذ إلى كنه الحياة، وأن حكمهم السليم المبرأ عن الهوى وسيلة من وسائل المعرفة الفلسفية، وأن إنتاجهم لا يخلو من نظرات عامة في الكون لم تفسدها الصنعة ولم يعزوها الصدق في التصور ولعله قد تبين أن كتب الفلاسفة ليست وحدها المصدر الذي نستقي منه الفلسفة، فقد نسقيها من حكمة الشعب كما بينا في مقال سابق، وقد نستخلصها من الأدب الروائي أو الشعر والأساطير وقد نهتدي إليها في مسلك كثير من الناس، وبالجملة قد نتعلمها في مدرسة الحياة. وقد تنبه ديكارت إلى هذه الحقيقة فأنحى باللائمة على العلوم التي تدارسها في المدرسة، واتهم بالقصور والتفاهة المعارف التي تلقاها على أساتذته. فألقى بالكتب عرض الحائط، وعول على أن يبدأ حياته الفكرية من جديد بقراءة (الكتاب الكبير) كتاب الحياة. فأقبل على الناس يضطرب وإياهم في مناكب الحياة، وأنفق بقية أيام شبابه في الارتحال ورؤية القصور، وتعلم صنعة الحرب على يد أشهر جندي في أوربا في ذلك الحين وهو هولندي (موريس دي ناسو). ثم رحل إلى ألمانيا، وهناك ساهم إلى جانب بارفايا في مقاتلة بوهيميا الثائرة في الحرب المعروفة بحرب الثلاثين، وخالط مختلف الأجناس والشخصيات. وهكذا طفق يستمد فلسفته من مصدرين: نفسه حيث (النور الفطري وحيث تكمن الحقيقة كون النار في الحجر الصوان) والعالم حيث الحقيقة حية بسيطة لم يفسدها التجريد والحفاف، فجاءت فلسفته مثلاً رائعاً للوضوح والإشراق والتكامل المذهبي، واستحق بجدارة لقب (أبو الفلسفة الحديثة).

الأبراج العاجية:

إن المتفلسفين الأكاديميين ليكشفون عن غرور أحمق - إذ يزدرون هذه المصادر الكبرى ويعتزلون في أبراج عاجية شاهقة بمعزل عن الحياة التي تلفهم جسداً وعقلاً، يقضون العمر فيها يجترون أفكاراً جامدة لا حياة فيها، فارغة خلوا من المعنى، متوهمين أنها الحق في حين أنه هنالك عند أقدامهم: في عقول المحنكين، ذوي الحس الدقيق والبصيرة النافذة من العامة والكتاب، ممن لم يفسد تفكيرهم التعمل. إلى هؤلاء أسوق سخرية عمر الخيام من الفلاسفة ليطامنوا من كبريائهم:

(طالما خضنا غمار الفلسفة ... وسمعنا من صواب وسفه

وخبطنا في مضلِّ معسفه ... ثم صرنا حيث كنا أولاً

لم نسر نحو الهدى قيد ذراع

كم بذرنا حكمة الفكر البصير ... وسقيناها حيا العقل الغزير

ما جنينا غير بهتان وزور ... ما علمنا غير أنا في الملا

شغل البرق خبت بعد التماع

ولا يفوتني أن أعيد إلى الأذهان سخرية باسكال من فلسفة أفلاطون في عبارته الشهيرة (أراد أفلاطون أن يعلو على الطبيعة فسقط إلى الحضيض.) إذا كان أفلاطون العبقري الفذ مهدداً بالسقوط إلى الحضيض فما رأى المتفلسفين الذين يقيمون بينهم وبين البصيرة الشعبية سداً منيعاً؟ لقد كان لأفلاطون من تماسك مذهبه أسس مكينة تحميه من السقوط فبماذا يتشبث أصدقاؤنا هؤلاء وهم يحتمون بأبراج من خيوط العنكبوت؟!

خاتمة

بعد كل ما تقدم أخشى أن نسف في فهم الفلسفة ونظن كل نظرة عابرة فلسفة كبرى، وصاحبها فيلسوفاً كبيراً، فنخدع عن أنفسنا، ويركبنا الغرور. ولذلك أنبه القارئ إلى أن تلك النظرات ليست سوى محاولات للنظر الفلسفي يأتيها الحكيم الشعبي أو الروائي، ثم إنها محاولات تلونها الانفعالات والأمزجة الخاصة، ولا تكاد تنفصل عن السلوك العملي وشئون الأخلاق، وقلما تتعرض لمسائل ما بعد الطبيعة. فلسفة الشعب مزيج من القول والفعل والنقل. مصدرها تجاريب العيش وصروف الأيام، أفراح الحياة وأتراحها؛ ويقين الشعب بفلسفته أشبه باليقين الديني لا يحتاج إلى دليل أو برهان، وذلك ما يخلع عليها حرارة تعوز مذاهب الفلاسفة التي تتميز ببرود المنطق وجفاف الجدل. وأداة الفلسفة الشعبية ليست المنطق الصوري، ولكنها ملكة الحكم السليم التي يدعوها الفرنسيون ويسميها الإنجليز وأثرها في نفسية الشعب عميق غاية العمق: تثبت فؤاده، وتعزيه عما يصادف من محن، وتبرر كثيراً من تصرفاته. أما صورتها العامة فيعوزها التكامل لأنها نظرات مبعثرة وخواطر متفرقة يندر أن تأتلف كلا واحداً.

أما الفلسفة بالمعنى الخاص فبريئة من أمرين: النظرة السطحية، والنظرة الجزئية. فلسفة الخاصة (أي فلسفة الفلاسفة) تهدف إلى تفسير عام شامل للكون في مجموعه، ولذلك كنا نجد تفسيرات الفيلسوف لمختلف نواحي الكون تنتظم كلا واحداً متناسقاً هو (المذهب). نواة المذهب الفلسفي نظرية كبرى تتشعب منهما أو تدور في فلكها نظريات فرعية صغرى في المعرفة والوجود والأخلاق، بل والسياسة والجمال أحياناً. نواة مذهب أفلاطون مثلا (نظرية المثل)، وأرسطو (الهيولي أي المادة الأولى والصورة)، وأفلوطين (الفيض الإلهي)، وشوبنهور (إرادة الحياة) الخ. . .

وللمذاهب الفلسفية قيمة كبرى فهي الوسيلة التي ينمى بها العقل الإنساني أعمق نظراته وتفسيراته. إنها تعينه على تعمق كنه الحقيقة، وتعطي الأفكار المبعثرة حياة وحركة وقوة. مثل المذهب مثل البلورة تلم شتات الأشعة، وتركزها في نقطة ضوئية صغيرة، ولكنها أكثر التماعاً والتهاباً من الأشعة المتفرقة. وبدون هذه الجهود التي يحتملها الفلاسفة من ذوي المذاهب المتكاملة، فإن الأفكار الإنسانية المتفرقة قد تومض في لحظات من التأمل المتكامل المتراخي وسرعان ما ينطفئ الوميض.

وأضيف أخيراً أن الفيلسوف أقدر من المفكر العادي على التحرر من شطحات الخيال، ونزوات الانفعال، أكثر منه فردية وابتعاداً عن تيار الحياة الجارف الرتيب. لا يوقن بأمر قبل أن يتناوله بالنقد، ولا يسلم برأي دون تمحيص؛ لا تراوده فكرة إلا قبلها على جميع الوجوه؛ تلقي إليه بالرأي فيطلب الدليل، وتنقل إليه الخبر فيلتمس البرهان، وتقدم إليه التفسير فيسعى إلى تفسير لذلك التفسير. منهجه الشك قبل اليقين. الشك من كل شيء حتى في عقله، وشعاره النقد قبل التسليم. الاستسلام للعاطفة عنده خطأ مبين، والرضا بالمزاعم الجارية إثم لا يغتفر. عقل مستديم القلق، وذهن لا نهائي التساؤل، وفكر لا ينى عن التحميص. النظرة العابرة لا ترضيه، واستكشاف الجزيئات لا يكفيه، فميدانه الكون في مجموعه، وهدفه الحقيقة كاملة غير منقوصة.

(الإسكندرية)

عبد العزيز المليجي