الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 843/من ظرفاء العصر العباسي

مجلة الرسالة/العدد 843/من ظرفاء العصر العباسي

بتاريخ: 29 - 08 - 1949


أبو دلامة

توفي سنة 161 هـ

للأستاذ صبحي إبراهيم الصالح

- 5 -

ونلاحظ أن أبا دلامة لم يكن يصله - غالباً - شيء من المال إلا بنادرة كما رأينا في قصة الوصيف، أو بحيلة كما سنرى الآن في قصته مع العباس بن محمد - عم المهدي - الذي كان من أبخل الناس:

دخل أبو لامة يوماً على المهدي، فحادثه ساعة وهو يضحك وقال له: هل بقي أحد من أهلي لم يصلك؟ قال: إن أمنيتي أخبرتك، وإن أعفيتني فهو أحب إليَّ. قال: بل تخبرني وأنت آمن. قال: كلهم قد وصلني إلا حاتم بن العباس. قال ومن هو؟ قال: عمك العباس بن محمد. فالتفت إلى خادم على رأسه وقال: جَأُ عُنق العاض بظر أمه. فلما دنا منه صاح به أبو دلامة: تنحَّ يا عبد السوْء لا تحنثْ يمين مولاك وتنكث عهده وأمانه. فضحك المهدي وأمر الخادم فتنحى عنه، ثم قال لأبي دلامة: ويلك! والله عمى أبخل الناس. فقال أبو دلامة: بل هو أسخى الناس. فقال له المهدي: والله لو مت ما أعطاك شيئاً. قال: فإن أنا أتيته فأجارني؟ قال: لك بكل درهم تأخذه منه ثلاثة دراهم. فانصرف أبو دلامة فحبر للعباس قصيدة ثم غدا بها عليه وأنشده:

قف بالديار وأيَّ الدهر لم تقفِ ... على المنازل بين الظهر والنجف

وما وقوفك في أطلال منزلة ... لولا الذي استدرجتْ من قلبك الكلف

إن كنت أصبحت مشغوفاً بساكنها ... فلا وربك لا تشفيك من شغف

دَع ذا وقُل في الذي قد فاز من مُضر ... بالمكرمات وعز غير مقترَف

هذي رسالة شيخ من بني أسد ... يهدي السلام إلى العباس في الصحف

تخطها من جواري المصر كاتبةً ... قد طالما ضربت في اللام والألف

وطالما اختلفت صيفاً وشاتيةً ... إلى معلمها باللوح والكتِ حتى إذا نهد الثديان وامتلأا ... منها وخيفت على الإسراف والقرف

صينت ثلاث سنين ما ترى أحداً ... كما يصون تجارٌ درة الصدف

فبينما الشيخ يهدي نحو مجلسه ... مبادراً لصلاة الصبح بالسدف

حانت له لمحة منها منها فابصرها ... مطلة بين سجفيها من الغرَف

فخر والله ما يدري غداتئذ ... أخر منكشفاً أم غير منكشف

وجاءه الناس أفواجاً بمائهمُ ... ليغسلوا الرجل المغشى بالنُّطف

ووسوسوا بقُران في مسامعه ... مخافة الجن والإنسان لم يخف

شيئاً ولكنه من حب جارية ... أمسى وأصبح موقوفاً على التلف

قالوا: لك الويل ما أبصرت؟ قلت لهم ... تطلعتْ من أعالي القصر ذي الشِرَف

فقلتُ - أيكمُ والله يأجرُه - ... يعين قوته فيها على ضَعف

فقام شيخ بهيٌّ من رجالهمُ ... قد طالما خدع الأقوام بالحِلف

فابتاعها لي بألفي درهم فأني ... بها إليَّ فألقاها على كتفي

فبتُّ ألثمها طوراً وألزمها ... طوراً واصنع بعض الشيء في اللحف

فبين ذاك كذا إذا جاء صاحبها ... يبغي الدراهم بالميزان ذي الكفف

وذكرَ حق على زند وصاحبه ... والحق في طرف والطين في طرف

وبين ذاك شهود لا يضرُّهمُ ... أكنت معترفاً أم غير معترف

فإن يكن منك شيء فهو حقهمُ ... أوْ لا فإني مدفوع إلى التلف

فضحك العباس وقال: ويحك أصادق أنت؟ قال نعم والله. قال: يا غلام أدفع إليه ألفي درهم ثمنها. فأخذها ثم دخل على المهدي فأخبره ثم دخل على المهدي فأخبره القصة وما احتال له به. فأمر له المهدي بستة آلاف درهم وقال له المهدي كيف لا يضرهم ذلك؟ قال: لأني مُعدم لا شيء عندي. وفي رواية: إن العباس بن محمد قال له: شاركني في هذه الجارية يا أبا دلامة. قال: أفعلُ ولكن على شريطة. قال: وما هي؟ قال: الشركة لا تكون إلا مفاوضة فاشتر معها أخرى، ليبعث كلُّ منا إلى صاحبه ما عنده، ويأخذ الأخرى مكانها ليلةً وليلة. فقال له العباس: قبحك الله وقبح ما جئت به! خذ الدراهم لا بارك الله لك فيها وانصرف.

وإنما أوردنا هذه القصة بتمامها لكيلا نمسخها إذا اختصرناها فتفقدها كثيراً من جمالها: ولعلك تذكر أننا استشهدنا بها على وصول أبي دلامة إلى المال بأسلوب الاحتيال، ولاسيما مع البخلاء من الناس.

والواقع أنه كان لا ينجو من تنادر أبي دلامة وهجائه إلا من أعطاه فأجزل عطيته. وإنه ليكون المرء أبغض الناس إلى قلبه، فإن هو وصله بشيء أضحى أحبهم إليه. وكان الناس يفرون من هجاء أبي دلامة فرارهم من تنادره بهم، فإذا تجرأ أحدهم على النيل منه أو ذمه عرف كيف يسلقه بلسانه الحاد.

دخل أبو دلامة على المهدي وعنده مُحرز ومقاتل أبنا ذؤال يعاتبانه على تقريبه أبا دلامة ويعيبانه عنده. فقال أبو دلامة:

ألا أيها المهدي هل أنت مخبري ... وإن أنت لم تفعل فهل أنت سائلي؟

ألم ترحم اللَّحْييْن من لحيتيهما ... وكلتاهما في طولها غيرُ طائل؟

وإن أنت لم تفعل فهل أنت مكرمي ... بحَلْقهما من محرزٍ ومقاتل؟

فإن يأذن المهدي لي فيهما أقُلْ ... مقالاً كوقع السيف بين المفاصل

وإلا ندْعني والهموم تنوبني ... وقلبي من العلجين جمُّ البلابل

فلم يدعه الخليفة للهموم تنويه، وإنما ساعده على العلجين فقال له يتمتم أسئلته: أو آخذ لك منهما عشرة آلاف درهم يفديان بهما أعراضهما منك؟ قال ذلك إلى أمير المؤمنين. فأخذها له منهما وأمسك عنهما.

فلا يُرضى المهديَّ إذا أن يسمع من أحد تجريحاً بشخص أبي دلامة لأنه واجدٌ فيه أنسه ومرحه، وقابلٌ إياه على ما فيه من عيب ومنقصة. . . ولا يرضى أبا دلامة ويُسكتُ لسانه السليط إلا المالُ يُعطاه وفيراً!

وكما يهجو أبو دلامة مخلوقاً أملاً في الوصول إلى بعض ماله، تراه يمدح آخر للغرض ذاته. وقد ينتظر مطلوبه من سواه كما حدث يوم دخل أبو دلامة على المهدي وعنده شاعر ينشده. فقال له: ما ترى فيه؟ قال: إنه قد جهد نفسه لك فاجهد نفسك له فقال المهدي: وأبيك إنها لكلمة عذراء منك أحسبك تعرفه! قال لا والله ما عرفته ولا قلت أنا إلا حقاً. فأمر للشاعر بجائزة، ولأبي دلامة بمثلها لحسن محضره.

ولقد صدق أبو دلامة، فما كان إطراؤه للشاعر عن معرفة سابقة به أو بعد وقوف على شيء من شعره - وإنما هي كلمة تعجب المهدي وتسر قلبه، وهي - بعد ذلك - وسيلة هينة للوصول إلى شيء من المال الذي يجزى به الخليفة من كان لبقاً حديثهُ، حاضرة بهديته، سديداً جوابه.

وكما درس أبو دلامة نفسية المنصور فاستطاع أن يأخذ منه الجوائز السنية - على بخله - عرف كيف المهدي حق فهمه لكي ينال منه - في مختلف المناسبات - أكثر مما يحلم به. وتجده لذلك يحرص على إضحاك الخليفة الذي تفيض يداه كلما نهلل وجهه: خرج المهدي وعلى بن سليمان إلى الصيد، فسنح لهما قطيع من ظبياً، فأرسلت الكلاب وأجريت الخيل، فرمى المهديُّ ظبياً بسهم فصرعه، ورمى على بن سلمان فأصاب بعض الكلاب فقتله. فقال أبو دلامة:

قد رمى المهدي ظبياً ... شك بالسهم فؤادَهْ

وعلى بن سليما ... ن رمى كلباً فصاده

فهنيئاً لهما، كل ام ... رئ يأكل زاده!

فضحك المهدي حتى كاد يسقط عن سرجه، وقال: صدق والله أبو دلامة، وأمر له بجائزة سنية. ويقال: إن علي بن سلمان لقب منذ ذلك اليوم (صائد الكلب) وعلق به.

وما دام الخليفة يملأ عين أبي عين أبي دلامة ويشبع بطنه ويعطيه من المال ما يجعله مغموراً بفضله، فما على الظريف إلا الإخلاص في طاعته، والصدق في محبته، وإدخال السرور عليه ولو لم ينتظر منه شيئاً، لأن فضله سابق عليه: لذلك كان أبو دلامة ينتهز الفرصة ليثبت أن تقريب الخليفة له مصيب موضعه، فهو الذي يتنفس عنه كربة، ويسرى عنه غمه، ولو كان هو نفسه مغموماً.

مر أبو دلامة بنخاس يبيع الرقيق، فرأى عنده منهنَّ من كلُّ شئ حسن، فانصرف مهموماَ، فدخل على المهدي فأنشده:

إن كنت تبغي العيش حلواً صافياً ... فالشعرَ أعزبْه وكن نخاساً

تَنَل الطرائف من ظراف نهَّدٍ ... يحدثن كلُّ عيشةٍ أعراساً

والربح فيما بين ذلك راهنُ ... سمحاً ببيعك كنت أو مكاسا

دارت على الشعراء حرفة نوبة ... فتجرعوا من بعد كأس كاسا وتسربلوا قُمص الكساء فحاولوا ... بالنخس كسباً يذهب الإفلاسا

فجعل المهدي يضحك منه.

وليضحك الخليفة ما شاء فما عليه أبو دلامة هذه القصة ولا نظم ذاك الشعر إلا ليضحكه ويسري عنه، ويحيطه بجو مشبع بالأنس والسرور!

(يتبع)

صبحي إبراهيم الصالح