مجلة الرسالة/العدد 842/تعقيبات
→ من صور النكبة: | مجلة الرسالة - العدد 842 تعقيبات [[مؤلف:|]] |
الأدب والفن في أسبوع ← |
بتاريخ: 22 - 08 - 1949 |
للأستاذ أنور المعداوي
مقاومة الفكرة بالفكرة في المبادئ الهدامة:
من رأي معالي مصطفى مرعي بك وزير الدولة أن مقاومة الفكرة بالفكرة هي أنجع الوسائل في سبيل القضاء على المبادئ الهدامة. . . ذلك لأن التربة الصالحة لنمو الأفكار المنحرفة هي رؤوس الطبقة المتعلمة قبل الطبقة الجاهلة؛ فإذا حاربنا تلك الرؤوس بنفس السلاح الذي تلجأ إليه، كان ذلك أجدى على طلاب الحقيقة سواء أكانوا من الداعين إلى الانحراف والساعين إلى الخراب، أم كانوا من هواة التصديق الذي يعقبه التصفيق لكل رأي جديد يغرقهم في تيه من المظاهر الخداعة!
الحجة بالحجة والفكرة بالفكرة والدليل بالدليل، وتلك هي الأضواء الثلاثة التي يجب أن تسلط على الأوكار الفكرية التي يعيش أصحابها في الظلام. . . رأي يحمل كثيراً من الصواب ما في ذلك شك؛ لأننا لو جندنا بعض الأقلام لمثل تلك الغاية لأتينا بخير النتائج ولظفرنا بالكثير، ولأزهقنا باطل الدعاة حين يذيعون على الملأ أننا قد لجأنا إلى منطق الإرهاب في محاسبتهم حين عجزنا عن منطق الإقناع. . . وتلك نغمة خبيثة يرددها اليوم أعداء النظام كما كان يرددها بالأمس أعداء الإسلام، حين نادوا بأن الدين الجديد قد فرض على خصومه بقوة السيف لا بقوة الدليل والبرهان!!
نحن مع وزير الدولة في هذا الرأي الصائب الذي يدعو إليه. . . وإنه لمن أيسر الأمور أن ندلل على فساد بعض المبادئ وفساد العقول التي تؤمن بها عن غير رؤية ولا تفكير، وتتخذها في بعض الأحيان تجارة لتصل من ورائها إلى كثير من الأغراض! ولكن لابد لذلك من حملة تجند لها القوى الفكرية ولابد للحملة من هيئة تشرف عليها في شتى السبل والميادين، ولا بأس من أن تخصص وزارة من وزارات الدولة لهذا الهدف وحده دون سواه. . . هناك كتب تكشف عن مساوئ الشيوعية وتزيح عن وجهها الدميم كل نقاب، فلم لا يعهد إلى بعض الأقلام بترجمة هذه الكتب لتوزع على طبقات الشعب بالمجان؟ تلك هي إحدى الوسائل المثلى ليطلع الناس على تصوير الأفكار المنحرفة تصويراً صادقاً، يكون بالنسبة إليهم كالأمصال الواقية من جراثيم المبادئ الهدامة!. . .
قد يعترض معترض بأن هناك لوناً من الاستحالة المادية في طبع الملايين من الكتب لتوزع على الملايين من الأفراد، فضلاً عن التكاليف الباهظة التي ترهق الميزانية وفضلاً عن الوقت الطويل الذي ينفق في سبيل الترجمة والمراجعة والنشر. . . إذا تحقق شئ من هذا فلا بأس من التلخيص والتركيز لنقدم إلى الشعب فصلاً صغيرة تقوم مقام النشرات، وعندئذ ينتفي الاعتراض إذا ما تفادينا إضاعة الوقت والجهد والمال!
وهناك فضلاً عن ذلك ميادين الصحافة اليومية والأسبوعية ومحطة الإذاعة اللاسلكية؛ ففي تلك الميادين تستطيع وزارة الدولة أن تكرس الجهود عن طريق المقالات والمحاضرات، لتغلق كل نافذة يمكن أن تهب منها الرياح التي تزكم الأنوف المريضة، وتهز العقول الفارغة، وتعصف بنفوس السذج ممن يصدقون كل ما يقال!
وقد يعترض معترض آخر بأن هناك مشكلة ستظل رغم تلك الحلول وهي مشكلة المشكلات؛ وخلاصة المشكلة الكبرى هي أن هناك أناساً سيبقون على أمانيهم بالأفكار المنحرفة مهما جاهدنا في مكافحة الفكرة بالفكرة ومحاربة الدليل بالدليل، ذلك لأنهم تجار مبادئ وأصحاب أهواء وأغراض. . . وتلك فئة قد عاهدت الشيطان على أن تسد منافذ السمع دون صوت الحق ومنطق الضمير، فلا وسائل الإقناع بمجدية، ولا بنافعة طرائق التوجيه والإرشاد!. . .
إذا واجهتنا تلك المشكلة الخطيرة فلدينا العلاج الحقيقي للقضية كلها، أو قل أنه السلاح الرئيسي الذي يرد أسلحة الدعاة وهي مفلوله لا تقطع ولا تدفع. . . إنهم ينفثون سمومهم في كل بقعة يلوح لهم منها شبح الفقر وتبدو معالم الحرمان، وفي كل مجموعة من الأحياء تجأر بالشكوى منادية برفع غبن أو مطالبة برد حق مهضوم. وإذن لنعمل جاهدين على تحقيق العدالة الاجتماعية التي لا تفرق بين فرد وفرد ولا بين فريق وفريق. . . علينا أن نهيئ العلم للجاهل، والعمل للعاطل، والدواء للمريض، والحياة الكريمة التي توفر الاستقرار للموظف والعامل والفلاح، وعندئذ تذهب دعوة السوء صرخة فارغة في واد عميق وتكسد البضاعة الزائفة حين تغلق في وجه تجار المبادئ المنحرفة كل سوق من الأسواق!
لحظات مع توفيق الحكيم في (شهرزاد):
ورد الحوار التالي في مسرحية (شهرزاد) للأستاذ توفيق الحكيم. . . المنظر السابع ص (172):
شهرزاد - لا أظن أنها تقارعك أو تتكلف لك. ما أنت إلا شعرة في رأس الطبيعة.
شهريار - كلما (ابيضت) نزعتها.
شهرزاد - إنها تكره الهرم.
شهريار - نعم.
شهرزاد - تنزعها كي تعود من جديد.
شهريار - (فتية قوية)!
والشعرة البيضاء إذا انتزعت لا تخرج محلها إلا شعرة بيضاء لا فتوة فيها ولا قوة، ضعيفة كأصلها واهية كأصلها. . . فهل ترى أن الأستاذ الحكيم قد وفق في تكوين هذه الصورة البيانية أم أنه قد أعجم علي الفهم؟ نرجو أن تبينوا لنا هذا في تعقيباتكم ودمتم ذخراً للأدب.
إسماعيل محمد السامرائي
بغداد - العراق
هذه اللمسة من الأديب العراقي الفاضل لمسة جد موفقة. وإنه ليستحق عليها خالص الإعجاب. . . ذلك لن الواقع المحس يؤيده كل التأييد فيما ذهب إليه! إن الصورة الفكرية هنا تبدو مهزوزة، أتدري لماذا؟ لأن توفيق الحكيم يعمد أحياناً إلى الفلسفة اللفظية؛ الفلسفة التي تعتمد على ظاهر اللفظ دون أن تنبع من أغوار النفس، وهذا هو المأخذ الذي نستطيع أن نعثر عليه في كثير من قصص الأستاذ الحكيم ومسرحياته!
صراع الأفكار لا صراع النفوس، هو السمة الغالبة على فن توفيق الحكيم، ومن هنا تهتز الصورة الفنية أحياناً وتهتز معها الصورة الفكرية. . . إن صراع النفوس حين ينقل عن واقع الشعور ينتفي معه كل تناقض لمنطق الحياة، وعلى العكس من ذلك تجد صراع الأفكار؛ لأنه صراع جدلي في أغلب حالاته يهمه مقارعة الحجة بالحجة، لتنتصر في معركة الألفاظ فكرة معينة نبتت في رأس الفنان فوضعها على لسان شخص من الشخوص، ولا بد لها أن تنتصر على سنان قلمه؛ لأنه يريد لها أن تنتصر، ولو كان ذلك على حساب الحقيقة النفسية التي تعبر عن الواقع فتصدق في التعبير! إنك لو رجعت مثلا إلى (أوديب الملك) لوجدت أن إغراق توفيق الحكيم في الفلسفة اللفظية قد أفسد الجانب الواقعي من المسرحية في فصلها الأخير؛ ذلك الفصل الذي كان يجب أن يعالج علاجا نفسيا ليستقيم مع منطق الحياة والأحياء. . . ولكن منطق الفلسفة اللفظية قد ارتضى لأوديب أن ينظر إلى نهاية الكارثة نظرة لا تتفق وطبيعة البشر ولا تتفق وجلال المأساة؛ لأنها نظرة قوامها الرضا عن الحاضر بما فيه من قسوة ومرارة، ونسيان الماضي بما فيه من شرور وآثام، وهذا هو الطريق إلى السعادة: سعادة المستقبل الذي يكفر بهناءته عن حاضره وماضيه. . . ولا بأس من أن يقضي أوديب ما بقى من حياته إلى جانب جوكاست، على الرغم من أنه قد اكتشف أن تلك التي يريد أن يعيش معها من جديد هي أمه، أمه التي عاشرها معاشرة الأزواج وأنجب منها عدداً من الأخوة يقال عنهم أنهم أبناء؟!
إن هناك فارقاً كبيراً في القيم الفنية بين الصراع الفكري والصراع النفسي، وحسبك أن ترجع إلى مسرحية فرنسية عرضت لها بالنقد والتحليل في عدد ماضي من (الرسالة)، وأعني بها مسرحية (بنت بين أبوين). . . تلك التي نقلها الأستاذ أحمد الصاوي محمد إلى العربية في كتابه الجديد: (بنات)، حسبك أن ترجع إليها لترى كيف تعبر الألفاظ عن دخائل النفوس، وكيف تستحيل الكلمات إلى ظلال نفسية موحية، وكيف يصب الحوار في قالب من اللمعات الشعورية المشرقة، وكيف تضئ الصورة الفكرية تحت إشعاع الحياة!
لحظات أخرى مع طه حسين في (هامش السيرة):
ينقل لنا الدكتور طه حسين في كتابه (على هامش السيرة) الجزء الثالث، حديثا يدور بين ورقة بن نوفل وصديقه نسطاس حول رواية سمعها ورقة من السيدة خديجة بنت خويلد عن الرسول الكريم فراح يقصها عليه، وعندما فرغ الدكتور من سرد هذا الحديث عقب عليه بهذه العبارات في ص (51): (ثم سكت ورقة فلم يقل شيئاً، وكف نسطاس فلم يكتب شيئاً. . . وظل الرجلان في هذا الصمت والسكون ساعة، كأنما كانت نفساهما قد فارقتاهما وجعلتا تسموان إلى أفق بعيد ليس من هذا العالم الذي يحيط بهما شئ. ولو قد رآهما راء على هذه الحال لخيل إليه أن قد اشتمل عليهما النوم، وآية ذلك أن الحس عاد إليهما فجأة فذعرا من هذا الصمت كأنما هبا من نوم عميق. ونظر كل منهما إلى صاحبه نظرة طويلة صامتة، ثم مد كل منهما يده إلى صاحبه فصافحه مصافحة طويلة. . . الخ)
ثم يعود الدكتور في الفصل نفسه فيقول في ص (53): (وكان ورقة يقص هذا الحديث هادئاً مشرق الوجه باسم الثغر وكانت يد نسطاس تجري على قرطاسه بتفسير ما يسمع في لغة يونان)!
كيف تتفق هذه الفقرة الأخيرة يا سيدي مع الفقرات السابقة ألا ترى أن هناك شيئاً من التناقض بين القولين، التناقض الذي يتمثل في أن نسطاس قد كف عن الكتابة هناك بعد أن سكت ورقة، وفي أنه قد عاد هنا لتجري يده على قرطاسه بتفسير ما يسمع؟ أرجو أن أسمع رأيك، وما جئت إليك أسألك إلا لأن رأيك هو الصواب، ودمتم عوناً لطلاب المعرفة.
عمر عيسى السامرائي
العراق - معهد التربية البدنية
عندما اطلعت على رسالة الأديب الفاضل قلت لنفسي: تناقض لاشك فيه. . . وعندما رجعت إلى كتاب الدكتور طه حسين وجدت الأمر على غير ما صوره الأديب الفاضل في رسالته، لأنني وقفت عند صفحة بين الصفحتين اللتين نقل عنهما صاحب السؤال تلك الفقرات التي بدا له أن فيها رأيين متناقضين وقفت عند هذه الصفحة لخرج من سطورها بحقيقة ملموسة، وهي أن الأديب العراقي الفاضل قد مر بها معجلا فيما يظهر، فلم يتنبه لتلك القصة الأخرى التي قصها ورقة على نسطاس بعد فراغه من القصة الأولى. . . الواقع أنه لا تناقض على الإطلاق ففي ص (51) كان ورقة ينقل إلى نسطاس أول قصة سمعها من السيدة خديجة عن الرسول الكريم، وعندما انتهى ورقة من قصته تلك (سكت فلم يقل شيئاً وكف نسطاس فلم يكتب شيئاً وظل الرجلان في هذا الصمت والسكون ساعة. . . وعندما ذعرا من هذا الصمت وكأنما هبا من نوم عميق) بدأ ورقة في ص (52) يقص على نسطاس قصة أخرى عن الرسول الكريم، وعندما انتهى ورقة من قصته الثانية كان في ص (53) (هادئاً مشرق الوجه باسم الثغر، وكانت يد نسطاس تجري على قرطاسه بتفسير ما يسمع في لغة يونان. . .) ومن هنا يرى الأديب الفاضل أنه قد ظلم الدكتور طه حسين بلا ذنب ولا جريرة؟ نهضة أدبية موفقة في عدن:
من دواعي الغبطة أن هناك نهضة أدبية مباركة في عدن، يشرف عليها ويرعاها نخبة من الشباب المخلصين لرسالتهم في الحياة ومن دواعي الغبطة أيضاً أن اطلع على دعائم هذه النهضة فيما يرسل ألي من إنتاجهم، ممثلا في مجلة شهرية هي مجلة (المستقبل)، وفي بضعة آثار فنية أهمها الشعر. . . الله يشهد أنني سعيد بهذه النهضة؛ لأنها وثبة رائعة من وثبات الشباب العربي في جنوب الجزيرة، ومتفائل بها كل التفاؤل؛ لأنني أؤمن كل الإيمان بأن النهضات الأدبية ما هي إلا مقدمات طبيعية لنهضات أخرى، ولو قلبت صفحات التاريخ في كل أمة من الأمم لرأيت أن كل وثبة في ميدان السياسة والعلم والاجتماع قد مهد لها الطريق على أكتاف رجال الأدب والفن؛ لأنهم كانوا وما يزالون حملة المشاعل في الصفوف الأولى من ركب الإنسانية في سيرها الطويل
أنا مقدر للشبيبة العدنية تلك الجهود الموفقة راجياً لها من الأعماق كل مزيد من التوفيق.
أنور المعداوي