مجلة الرسالة/العدد 840/القصص
→ البريد الأدبي | مجلة الرسالة - العدد 840 القصص المؤلف: غي دو موباسان المترجم: أنور المعداوي |
روز Rose هي قصة قصيرة بقلم غي دو موباسان نشرت عام 1884. نشرت هذه الترجمة في العدد 840 من مجلة الرسالة الذي صدر بتاريخ 8 أغسطس 1949 |
روز. . .!
للكاتب القصصي الفرنسي جي دي موباسان
ترجمة الأستاذ أنور المعداوي
(إلى صديقي الأستاذ الكبير الزيات
أنت قدمت موباسان إلى الناس فنقلت الفن صادقاً من لغة إلى لغة، ونقلت السحر خالصاً من قلن إلى قلم. . . قدمته في قممه الثلاث: (ضوء القمر) و (الحلية) و (جولي رومان)، فهل تأذن لي في أن أقدم إليك هذه القمة الرابعة، تحية متواضعة؟)
الفتاتان تبدوان للعين غاصتين في فراش من الزهور، وحيدتين في عربة فارهة قد اكتظت بطاقات الزهر، فهي أشبه بسلة مفرطة في الضخامة، وعلى المقعد الخلفي سفطان صغيران قد ملئا بزهور البنفسج (النيسيّ)، وفوق فراء الدب الذي يغطي الركبتين أكداس من الورد والزهور الأقحوان والزنبق والبرتقال، شد بعضها إلى بعض بأشرطة من الحرير يخيل إلى الظن إنها ستصهر الجسدين الناعمين. . . ومن الفراش المعطر في العربة الفسيحة لم يكن يظهر من كلتيهما غير الكتفين والذرعين، وجزء صغير من نطاقين يلتفان حول الخصر النحيل أحدهما أزرق اللون بينما الآخر في لون البنفسج!
وتظهر إلى سوط السائق فتراه وقد لف بغطاء من زهور الأنيمون، بينما أزدانت رءوس الخيل بزهور الزينة وأكتست العجلات بثوب من زهور الخزامي. . . وفي مكان المصابيح طاقتان من الزهر مستديرتان كبيرتا الحجم، أشبه بعينين تطلان من وجه هذا الحيوان الغريب المتدحرج على الأرض في هيكل من الزهور! وتندفع العربة إلى شارع (أنتيب) خفيفة الركض، يحف بها من الأمام والخلف والجانبين جمع من العربات المكللة بالزهور تحمل نساء قد أختفين تحت لجة من بنفسج. . . أنه عيد الزهور في (كان).
وانتهى بهن المطاف إلى شارع (بوليفار)، وعلى طول الطريق من الشارع الضخم كان هناك صف مزدوج من العربات المزركشة يروح ويجيء كخيط بلا نهاية. . . ومن عربة إلى أخرى رحن ينثرن زهوراً تشتق الفضاء كالكرات، ثم ترتطم بالوجوه المشرقة، ثم ترفرف بالهواء وتسقط على الأرض حيث يلتقطها جيش من الصبية الصغار. وأصطف على الجانبين حشد كثيف من النضارة يثير الضجيج ولكن في شيء من النظام، لقد بقي كل في مكانه بفضل الجنود وهم يعبرون الشارع على ظهور الخيل، ويدفعون بأقدامهم أصحاب الفضول في عنف إلى الوراء، حتى لا يختلط الأوشاب بأصحاب الثراء. ومن داخل العربات راح كل راكب يتطلع إلى صاحبه ويناديه ويطلق عليه قذائف من الورد. وها هي ذي عربة قد غصت بالفتيات الأنيقات في ثيابهن الحمر كالشياطين تتعلق بها الأنظار، وتنظر فترى أحد الفتيان في ثياب هنري الرابع يقذفهن في نشوة الشوق بطاقة ضخمة من الزهر في غلاف من (المطاط)، يقذفهن مرة بعد مرة، وكلما هم خفضت الفتيات رؤسهن وأخفين عيونهن، ولكن القذيفة الرشيقة تنطلق في انثناء ثم لا تلبث أن ترتد إلى صاحبها ليقذف بها ثانية إلى وجه جديد!. . . ويستمر الموكب في طوافه ساعة من الزمن يعتري الفتاتين بعدها شيء من الفتور، فترغبان إلى السائق أن يلتمس طريقه إلى خليج (جوان).
وغابت الشمس وراء (الإستريل)، مخالفة ظلالها القاتمة فوق أرض من اللهب، عل القطاع الجانبي من الجبل الممتد عبر الفضاء. وأنبسط البحر الساكن أزرق صافياً على مدار الأفق البعيد، هناك حيث يمتزج بالسماء، ويمتلك الجماعة التي التقت مراسيها وسط الخليج كقطيع من الحيوانات الغريبة، تلك التي تظل فوق سطح الماء جامدة بلا حراك. . . حيوانات من عالم الغيب تقوست منها الظهور وتدثرت بدروع من الزرد، واتخذت غطاء الرأس من عوارض رقيقة كريش الطير، ولها تلك العيون التي تقدح الشرر حين يهبط الظلام!
وانتثرت الفتيات تحت سماء أشبه برداء فراؤه السحب، ورحن يتطلعن إليها من استرخاء ثم همست إحداهن قائلة:
- لله ما أرق هذه الأمسيات!. . . ألا ترين أن كل شيء يبدو جميلاً يا مارجو؟
- بلى، كل شيء جميل ولكن. . . ألا تشعرين أن هناك شيئاً ما ينقصنا دائماً؟
ما هو؟ من جانبي، أنني لأحس السعادة كاملة فلا ارغب في شيء!
- نعم؟ هكذا تظنين، ربما. . . ولكن مهما كانت السعادة التي تحيط بأجسامنا، فإننا نرغب فيما هو أكثر في هذا الشيء الذي يسعد القلب! وقالت الأخرى وهي تبتسم: قليل من الحب؟ فأجابت: نعم!
وساد بينهن الصمت، ورحن يرسلن البصر مستقيماً إلى الأمام، وعندئذ هتفت إحداهن وتدعى مرجريت:
- الحياة. . . إنها لا تبدو لعيني محتملة بغير حب. لكم أشتهي أن أحب. . . ولو من كلب! هكذا نحن جميعاً مهما خطر لك من فنون القول يا سيمون!
وصاحت سيمون قائلة:
- كلا كلا يا عزيزتي، أنني لأوثر ألا أحب على الإطلاق على أن أحب من شخص لا خطر له! هل تظنين مثلاً أنه قد يكون من الملائم لي أن أحب من. . . من. . .
وتطلعت سيمون إلى من تستطيع أن تظفر بحبه، وألقت ببصرها إلى الفضاء المجاور، وبعد جولة طوت بها كل جنبات الأفق، هبطت عيناها على زرين من المعدن يتألقان على ظهر السائق، واستمرت في حديثها ضاحكة:
- من. . . من سائق عربتي؟!
وأجابت مرجريت وقد لاح على شفتيها ظل ابتسامة:
- أستطيع أن أؤكد لك أنه ما من شيء يبعث على التسلية مثل أن يقع خادم في حبك. . . لقد جربت ذلك مثنى وثلاث!
ودرن بعيونهن شاخصات، إلى تلك التي كادت تموت من الضحك. . . واسترسلت مرجريت قائلة:
- من الطبيعي أن تلك التي تلقى المزيد من الحب تصبح وهي أكثر النساء قسوة. وعلى النقيض تلك التي تزج بنفسها في طريق لا تجني منه غير السخرية، لسبب تافه يستطيع أي إنسان أن يلحظه!
- وأرهفت سيمون سمعها وألقت ببصرها إلى الأمام ثم قالت معقبة:
- كلا يا مرجريت، أن قلب خادمي ينقع لي غلة ما دام تحت قدمي. . . ولكن هل خبرتني كيف أدركت أنهم قد وقعوا في حبك؟
- لقد أدركت ذلك منهم كما أدركته من الآخرين. . . ولذا فهم يصبحون في نظري أغبياء! - ولكن الآخرين لا يبدون لي أغبياء عندما يقعون في الحب!
- بلهاء يا عزيزتي، عاجزون عن الكلام، عاجزون عن الجواب، عاجزون عن فهم أي شيء! - وأنت؟ ما الذي أثر فيك حتى وقعت في حب خادم؟ أكنت مسيرة بدافع الملق؟
- مسيرة! كلا! ملق؟ نعم! قليل من الملق. . . أن كل فتاة ليسعدها الملق دائماً إذا ما أحبها رجل، مهما كان هذا الرجل!
- أوه. . . الآن جاء دورك يامرجو!
- نعم يا عزيزتي، انتظري. . . سأقص عليك نبأ مغامرة فريدة وقعت لي، وسترين كيف أن أشياء بالغة الغرابة تحتل مكانها من حياتها في أحوال مماثلة!. . . كان ذلك في الخريف منذ أعوام أربعة، عندما ألفيت نفسي وحيدة بلا خادمة. لقد جربت من الخادمات عدداً من الخادمات يربى على الخمس، جربتهن واحدة بعد أخرى ولكنهن كن جميعاً لا يصلحن لشيء. ولقد تملكني اليأس من أن أعثر على واحدة، حتى وقعت في إعلانات إحدى الصحف على خبر فتاة صغيرة تبحث عن عمل، فتاة تجيد الحياكة، وتجيد التطريز، وتجيد تصفيف الشعر، وتستطيع أن تقدم خبر الشهادات على تتمتع به من خبرة وكفاية، وهي في الوقت نفسه تحسن التحدث بالإنجليزية.
وكتبت إلى الصحيفة على العنوان الذي قرأت، وفي اليوم التالي حضرت الفتاة لتقدم نفسها إلي. كانت أقرب إلى الطول، رقيقة البدن، شاحبة اللون، ينم مظهرها عن خوف بالغ. لها عينان سوداوان جميلتان، عينان تنفثان السحر، حتى لقد راقت لي على الفور. وسألتها عما تحمل من شهادات فقدمت إلي واحدة مكتوبة بالإنجليزية، لأنها جاءت - كما قالت لي - من بيت السيدة (رزويل) حيث طوت من عمرها عشرة أعوام. . . كانت الشهادة تقرر أن الفتاة قد عادت إلى فرنسا بمحض رغبتها الشخصية، وإذا كان هناك شيء تستحق عليه اللوم في خلال خدمتها الطويلة للسيدة (رزويل)، فهو هذا الشيء اليسير من (الدلال) الفرنسي!
وابتسمت قليلاً وأنا ألمح ما وراء العبارة الإنجليزية من تورية مهذبة، ولكنني تعاقدت مع الفتاة على الفور وحضرت إلى بيتي في نفس اليوم، وكانت تسمي نفسها (روز).
وجاء علي يوم أحببتها فيه إلى الحد الذي ينقلب معه الحب إلى عبادة. . . لقد كانت كنزاً من الكنوز، لقد كانت درة من الدرر، لقد كانت ظاهرة من ظواهر الطبيعية. كانت في تصفيف الشعر صاحبه ذوق شائق، وفي تثنية شريط (الدنتيلا) على غطاء الرأس أكثر دراية من خير الممتهنات، وكانت تجيد حياكة (الفساتين). . . أبداً لم أرى لها مثيلاً في خدمتها لي!
كانت تساعدني في ارتداء ملابسي في سرعة فائقة، وخفة يد تثير العجب، ما شعرت أبداً بمر أناملها على بشرتي الرقيقة، ولا شيء يبدو لي خالياً من اللياقة مثل أن تلمسني يد خادمة!. . وانغمست على الفور في عادات تميز بالإفراط في البطالة، فلكم كنت أشعر بالسرور حين أدعها تدثرني من الرأس إلى القدم، من القميص إلى القفاز، هذه الفتاة الطويلة، الخائفة، التي تخجل كثيراً ولا تتكلم أبداً! وبعد الاستحمام قد تجففني، وتدلكني بينما أكون على أهبة النوم أو مضطجعة على الأريكة. . . وعلى مر الأيام بدأت أنظر إليها كصديقة بائسة أكثر ما أنظر إليها كخادمة!
وذات صباح أقبل البواب في مظهر يثير الظنون، معلناً عن رغبته في التحدث إلي، واستولت علي الدهشة ولكنني أذنت له في الدخول.
كان جندياً كهلاً يبدو عليه التردد في الإفصاح عما يريد أن يقول. . وأخيراً همس في صوت متلعثم:
- سيدتي، أن ضابط بوليس المنطقة موجود في الطابق الأسفل
وقلت متسائلة: ماذا يريد؟
- أنه يريد أن يفتش البيت!
حقاً أن رجال البوليس ضرورة لازمة ولكنني أمقتهم. . . ولا أستطيع أبداً أن أعرف بأنهم يزوالون مهنة شريفة! وأجبت في صوت ألهبته الكرامة الجريحة:
لماذا يفتش هنا؟ لأي غرض؟ أننا لا تعرف السطو! ورد الحارس قائلاً:
- أنه يعتقد أن أحد المجرمين يختفي هنا في مكان ما.
وبدأت أشعر بشيء من الرهبة، وأمرت بأن يصعد إلى ضابط البوليس عسى أن أظفر منه بشيء من الإيضاح. . . كان رجلاً جم الأدب يزدان صدره بوسام (اللجيون دونير). وبدأت أحدثه معرباً عن أسفه، مقدماً اعتذاره، مؤكداً أن هناك مجرماً بين ما لدى من خدم. . .
وكدت أصعق، وأجبت بأني أستطيع أن أشهد لكل واحد منهم، بل وينبغي أن أقدمهم لديه مستعرضة ليقتنع.
هناك (بير كورتان)، جندي كهل. . . ليس هو سائق العربة (فرانسيس بنجو)، مزارع، أبن الشرف على مزارع أبي. . أنه ليس هو.
صبي يعمل في الحضيرة، شمباني، من أبناء مزارعين أعرفهم. . . ليس هو.
ولا أحد بعد ذلك غير هذا الخادم الذي تراه. . . أنه ليس واحداُ من كل من ذكرت. وإذن فأنت ترى انك قد خدعت يا سيدي
- معذرة يا سيدتي، ولكنني واثق من أنني لن أخدع: هل تسمحين بأن يكون استعراضك لخدمك عن طريق إحضارهم هنا ليظهروا أمامي وأمامك، كل خدمك بلا استثناء؟
وترددت بادئ الأمر، وأخيراً أذعنت، ولم أرى بداً من استدعاء كل الخدم رجلاً ونساءً.
وتفحصهم جميعاً في لحظة ثم أوضح: أنهم ليسوا كل الخدم وأجبت قائلة: معذرة يا سيدي، ليس هناك غير خادمتي الخاصة، تلك التي لا يمكن بحال أن تخلط بينها وبين أحد المجرمين!
- هل أستطيع أراها أيضاً! - من غير شك!
وغمزت الجرس فظهرت (روز) على الفور: وفي اللحظة التي دخلت فيها الفتاة أرسل الضابط إشارة إلى رجلين قد كانا وراء الباب فلم تقع عليهما عيناي، وألقى الرجلان بثقليهما فوق الفتاة ثم أمسكا بيدها. وشدت أحدهما إلى الأخرى بالقيود!
وأطلقت صرخة غضب، ورحت أحاول الدفاع عنها ولكن الضابط أوقفني قائلاً:
- هذه الفتاة يا سيدتي ليست إلا رجلاً يسمى نفسه (جان نيكولا ليكابيه). . . حكم عليه بالإعدام لأقدامه على جريمة قتل سبقتها جريمة هتك عرض، ثم استبدلت العقوبة بالسجن مدى الحياة. لقد فر منذ أربعة أشهر، ومنذ ذلك الحين ونحن نجد في البحث عنه.
أصابني الفزع، وعقلت الدهشة لساني، ولم أستطع أن أصدق. . . وأستمر الضابط في حديثه ضاحكاً:
- أستطيع أن أقدم لك دليلاً واحداً، هو أن هناك وشماً على ساعده الأيمن وتحققت من صدق هذا القول عندما كشف عن ساعده، ولكن ضابط البوليس أردف في لهجة نيابة: - ليس من شك في أنك غير محتاجة إلى الإقناع عن طريق الأدلة الاخرى؟
قالها ثم انصرف مصحوباً. . . بخادمتي!
صدقيني أن أقصى شعور تملكني هو شعور الغضب من أن يغرر بي على هذا الوجه، وأن أخدع، وأن أعرض للسخرية: وصدقيني أنه لم يكن شعوراً بالخزي أن يلمسني ذلك الرجل، وأن يمسكني بيده، وأن أبدو أمامه عارية وكاسية، ولكنه كان شعوراً آخر. . . شعوراً عميقاً بالضعة: ضعة امرأة! ترى هل فهمت ماذا أقصد؟
- كلا، لم أفهم تماماً ماذا تقصدين!
فكري هنيهة. . . لقد أدين ذلك الرجل لأنه قد اقدم على هتك عرض. . . وهذا هو الشيء. . . الشيء الوحيد هناك. . . الذي أشعرني بالضعة! ترى هل فهمت الآن؟
ولم تجب سيمون، بل راحت ترسل البصر مستقيماً إلى الأمام إلى حلة السائق حيث ثبتت عيناها في زرين يتألقان، وعلى شفتيها تلك الابتسامة الغامضة التي تعرفها الغانيات. . . . في بعض المناسبات!!
أنور المعداوي