مجلة الرسالة/العدد 840/الأدب والفن في أسبوع
→ وداع مصر. . . | مجلة الرسالة - العدد 840 الأدب والفن في أسبوع [[مؤلف:|]] |
رسالة النقد ← |
بتاريخ: 08 - 08 - 1949 |
للأستاذ عباس خضر
كبار الأدباء وعضوية البرلمان:
حديث الانتخابات المقبلة أهم ما يشغل الصحف في هذه الأيام وقد أمسكت بإحداها وغرقت ساعة في أنهارها وجداولها المملوءة بأحاديث الوزراء ورجال السياسية وتعليقات المحرر، تعديل الدوائر وفتحها وإغلاقها وما إلى ذلك. ثم ألقيت الصحيفة جانباً ورحتُ أفكر في الموضوع على نحو آخر، قلت في نفسي: لا شك أن تمثيل الأمة في البرلمان يتطور من حيث المستوى الفكري لنوابها وشيوخها، تبعاً لتطور الأمة نفسها لانتشار التعليم وازدياد المتعلمين، أن عهد (النمر) الذي بدأت به الحياة النيابية في مصر آخذ في الانقراض شيئاً فشيئاً، و (الموافقون) على ما لا يعرفون ما يوافقون عليه ويوشكون أن يتركوا أماكنهم للعناصر الجديدة. ثم قفز إلى ذهني خاطر آخر، فقلت في نفسي أيضاً: هل أقترب التطور من الحال التي يمكن فيها أن يشتمل البرلمان على الصفوة من رجال الأدب والفكر في مصر؟ ولكن كيف السبيل؟ هل يخوضون معامع الانتخابات؟. وهنا جعلت أتصور بعض هؤلاء الأعلام وقد رشحوا أنفسهم للانتخاب. . .
الدكتور طه حسين خطيب يسحر الجماهير ولكنها ليست جماهير الانتخاب، وهو لا يستطيع أن يجلس إلى أهل الدائرة إذا ارتفع الضحى وإذا أقبل المساء، يسمع منهم ولا يسمعون منه، فيضيق به وقد يضيقون به، حتى إذا بلغ الأمر ما اعتاد أن يبلغ كل عام في أوائل الصيف، ولم يعد في وسعه أحتمال الحر والشر والنكر، فر إلى باريس. . .
والأستاذ توفيق الحكيم لا يستطيع مخالفة حماره الذي هو مصر على مقاطعة الانتخابات ومجانبة (التمرغ) في أحوالها، وقد خبرها أيام كان صاحبه نائباً في الأرياف، فاصبح فيها من الزاهدين.
والأستاذ المازني إذا طاف بالدائرة فسيرغب عن سماع القصائد التي ينظمها أنصاره والداعون له، فقد أنكر شعره فهل يسمع شعر هؤلاء؟ وقد لا يجد له جلداً على قصيدة من الشعر الوسط فلا يصبر عليها ولو أدى ذلك إلى ضياع (تأمين) الانتخابات. . . وسيشعر بضيق وقته عن هذا العناء والعبث فيهرب إلى حين يكتب المقالات المطلوبة للصح والمجلات.
والدكتور أحمد أمين بك رجل فكر ومنطق لا يعجبان الناخبين، وعندما يشاهدون ما يبدو عليه من الجد المئوس، وما يصطنعه أحياناً من التغافل، ينصرفون عنه إلى منافسه ويتركونه قائماً يعزى بـ (زعماء الإصلاح في العصر الحديث) وقد يدرك بعض الخلفاء أنه سيكون عضواً في كل لجنة من لجان المجلس الذي أنتخب له، وقد يكون رئيس لبعضها، فيعملون على محاربته ليظل قانعاً بلجان وزارة المعارف ولجان المجمع اللغوي واللجنة الثقافية بالجامعة العربية ولجنة التأليف والترجمة والنشر.
أما الأستاذ الزيات فتقف (الرسالة) في طريقه عقبة أي عقبة. . . إذا لا بد أن ينجم له في الدائرة (شعراء وكتاب) يريدون أن ينشروا في الرسالة ما تجود به قرائحهم من النظم والنثر، وقد يطلبون تغيير عنوان هذا الباب بحيث يكون (الأدب والفن) في الدائرة وعميد الرسالة لم ينشر لأحد من هؤلاء شيئاُ، والأدب والفن لن يخضعا للدائر. وهكذا تتعقد المسألة على احل فيقنع الأستاذ بظل (الكافورة) في المنصورة صيفاً ونظفر نحن بمجلسه في ندوة الرسالة إذا جاء الشتاء.
وأما الأستاذ العقاد فهو عضو بمجلس الشيوخ عن طريق التعيين، ولو أنه دخل الانتخابات لاصطدم بطلاب الوظائف ومطالب الموظفين من أهل الدائرة فالكاتب الجبار لن يرجو مخلوقاً لمخلوق، فإذا وصل الأمر إلى أن يطلب موظف نقله من أسوان فإن الأستاذ الكبير يعتبر ذلك إساءة بالغة إلى مسقط رأسه، فينسحب من الدائرة في الحال، ويكتب مقالاً بجريدة الأساس منذراً بسوء المآل.
إذا ما هو الطريق المفضي بأولئك الأعلام إلى البرلمان؟ عضوية الأستاذ العقاد بمجلس الشيوخ تبعث إلينا بصيصاً من الضوء، حقاً إنه ينتمي إلى حزب سياسي، والسياسية الحزبية تعين على تقديم الحزبين، ولكن ألست ترى إننا الآن قد أخذنا في عهد قومي جديد وجه إليه جلالة الفاروق، إذا أمر بتأليف الوزارة من جميع الأحزاب على أن يخلع رداء الحزبية في خدمة البلاد.
وقد أوشكت الدورة البرلمانية الحاضرة أن تنتهي، وسيجري الانتخاب في مجلس النواب ولثلثي مجلس الشيوخ، ولندع ذلك لنحصر النظر في الثلث الباقي من مجلس الشيوخ وهو الذي يختار أعضائه من ذوي الكفايات في الميادين المختلفة فإذا كان يختار الأعضاء من رجال السياسة ومن رجال الاقتصاد وغيرهم، أفلا ينبغي أن يتجه النظر إلى رجال الأدب والفكر فتختار خلاصة منهم أعضاء في مجلس الشيوخ؟ فذلك هو المنفذ الوحيد الذي يصل منه أولئك الرجال إلى مقاعد النيابة عن الأمة. كما أن ذلك يعتبر من دلائل القومية التي تهدف إلى صالح البلاد.
فاطمة وماريكا وراشيل:
هذا هو اسم الفلم الجديد الذي عرض في هذا الأسبوع بسينما راديو، أخرجه حلمي رفلة ووضع قصته وحواره أبو السعود الابياري، وأهم ممثليه محمد فوزي وإسماعيل يس ومديحة يسري ولولا صدقي ونيللي مظلوم.
يوسف جلال (محمد فوزي) شاب لا هم له إلا خداع البنات باسم الحب والتأميل في الزواج وقد اعد له أحد الصاغة تسعة وعشرين خاتماً، على عدد حروف الهجاء، نقش على كل خاتم حرف منها، فإذا اتصل ببنت قدم لها الخاتم الذي يوافق أول حروف أسمها. ويقيم معه حمص أفندي (إسماعيل يس) وهو صديقه وسكرتيره عند اللزوم، يتصل يوسف بفتاة يهودية هي راشيل (نيللي مظلوم) في حفلة زفاف إذ كانت ترقص في الحفلة وكان هو يغني فيها، فيغازلها وتبدي له الحب فقد عرفت أنه غني ويتفقان على الزواج بعد أن يقول لها أن اسمه يوسف كوهين وتذهب به إلى محل تجاري لتشتري ثوباُ، فتستقبلهما ماريكا (لولا صدقي) مديرة المحل وفي غفلة من راشيل يوسف الفتاة الرومية ماريكا ويتسمى بها بإسم جوزيف ترياكو، ويتفقان على الزواج. ثم ينتهي أمره مع كل منها عندما تفاجئه راشيل في حفلة خطوبته لماريكا فيطفيء حمص أفندي الأنوار ويقفز هو وصاحبه من إحدى الشرفات. ثم يتلقى يوسف برقية من والده القروي الثري يأمره فيها بالحضور إلى القرية في الحال. وهناك ينهي إليه أبوه أن يغير راض عن سلوكه وأنه لن يعطيه نقوداً حتى يطيع أمره ويتزوج من فاطمة (مديحة) بنت وصفي بك التي ورثت عن أبيها ثلثمائة فدان، وتقيم مع عمها راشد بك في الضيعة المجاورة، فيعارض يوسف في الزواج من بنت لم يرها ولكنه يضطر إلى الموافقة إزاء تهديد أبيه، وكذلك تعارض فاطمة في الزواج من أبن جلال بك لأنها ظنته فلاحاً ساذجاً، ولكن عمها راشد بك المرشح في الانتخابات والذي يرجو جلال بك يلح عليها ويرغمها ويذهب يوسف إلى حمص أفندي ويبلغه خبر الكارثة، ويطلعه على صورة الفتاة التي يريد أبوه أن يزوجه إياها، وهي في الحقيقة صورة علية بنت راشد بك الدميمة، وقد اتفقت مع ابنة عمها على إرسالها للخاطب لتنفيره. . . ويتفق يوسف وحمص من الجهة الأخرى على خطة لتنفير العروس من يوسف، فيذهبان إلى منزل راشد بك في زي قروي وقد حمل يوسف (بلاص عسل) وقفة مملؤة من (كيزان الذرة) واحتضن حمص (لبشة قصب)، ثم ينتهي المنظر بطردهما من المنزل في غيبة راشد بك. وفي خلال ذلك يلمح يوسف فاطمة من بعيد وهو لا يعلم إنها المخطوبة، فيضع خطة لما قبلتها ومغازلتها ويتبين إنها تحب رجلاً أسمه ظريف بك النابلسي، ولكن يوسف يظل يطاردها ويضياق ظريف بك حتى يظفر بها ويتفقان على الزواج، وتحدث عدة حوادث يتخللها إصرار كل من جلال بك وراشد بك على الزواج ابن الأول من بت أخ الثاني، ثم يحضر جلال بك أبنه يوسف بالإكراه لعقد الزواج، وكذلك يكره راشد بك بنت أخيه فاطمة ويأمر بحملها حملاً إلى حيث أعدت معدات العقد. وهناك تحدث المفاجأة إذ تنكشف الحقيقة ويعرف كل من يوسف وفاطمة أنه المقصود بالإكراه على الزواج من صاحبه، فيتعانقان ويكون منظر زفافهما حسن الختام
والذي يتبادر إلى الذهن من اسم الفلم (فاطمة وماريكا وراشيل). وهو فلم مصري، أنه يقدم كلاً من هؤلاء الثلاث بخصائصها، على أن تظفر صورة فاطمة المصرية بأحسن إطار، ولكنا نراها فتاة عابثة ليس لها مثل تتمسك به ولم ترسم لها غاية نبيلة تهدف إليها فكل ما تريده رجل كهل (ظريف بك النابلسي) لم يقدم لنا الفلم ما يبرر تعلقها به، ثم هذا الشاب الذي تسمى إليه بعد أن نفضت من ذاك الكهل، إذا تذهب إلى منزله لتخطب حبه، أو في الحقيقة ليرنا المخرج منظرهما في حديقة المنزل وهما يجوسان خلالها حيث تبدي مديحة فتنتها ودلالها ومحمد فوزي يغني لها. . . ولك أن تستمتع بمنظر الجمال وعليك أن تسمع الغناء! وهذا المنظر يعطينا (فكرة) الفلم كله، فهو إحدى الخلايا التي يتكون منها، فاكثر مناظره وأهمها معارض لهؤلاء الحسان الثلاث: مديحة ولولا ونيللي، جمال ورقص وسحر وفتنة. . . والقصة (مفصلة) على قدودهن الرشيقة، وليس لك أن تطلب شيئاً في الفلم غير ذلك، حتى محمد فوزي عليك نتغاضى إدلاله بنفسه وفرحه بشبابه، وقد أخذ إسماعيل يس في هذا الفلم ملحقاً فكاهياً على الهامش.
والفلم ليس معدوم الغاية القيمة فحسب بل هو على عكس ذلك، لأنه يقدم بطلين منحرفين هما: يوسف وفاطمة، ويظل يعرض انحرافهما وعبثهما في تصوير مغر جميل، ويظل يعطف عليهما حتى النهاية السعيدة، فهو وأن تم له الجمال الحسي، يفقد ناحية الجمال المعنوي الذي يبرز من مناصرة الحق والخير.
وحوادث الفلم تجري نحو مناظر الرقص والمال الغناء، فتعثر في جريها. ومن هذه العثرات أن نرى يوسف يغني في حفلة زفاف ويقود فرقة يحمل أفرادها الطبول من غير أن نعرف صفته في ذلك. ولا نرى أي سبب يدعو إلى يأتي هذا الشاب الغني الغير محترف ليحي حفلة زفاف، ولكن الحادثة تجري بيوسف إلى هذه الحفلة ليلتقي براشيل التي ترقص فيها. والعجيب أن الفلم يملي علينا إملاء أن تعرف راشيل يوسف على أنه شاب غني وهي تراه في زمرة المحترفين حاملي الطبول. . .
ولم أقف على سر الطريقة العجيبة التي كان يتبعها يوسف عندما يعرف أسم الفتاة التي تقع له، فيدس يده في جيبه ويخرج الخاتم المنقوش عليه أول أسمها. . . فلو فرضنا أنه يحمل معه دائماً التسعة والعشرين خاتماً فكيف ينتقي الخاتم ويخرجه بمجرد معرفته الاسم؟
ويظهر أن المنازل و (الفلات) صنعت في هذا الفلم على طراز خاص بحيث يمكن القفز من شرفاتها ونوافذها في غاية اليسر، فترى الهارب يسير من النافذة إلى ممر ممهد فيصل إلى الشجرة المعدة خاصة للهرب. . . حتى يصل إلى الأرض سالماً غانماً. وهل يليق بفاطمة التي تفر من النافذة حين يمنعها عمها عن الخروج، لتلقي حبيبها بثيابها الحريرية المكوية - هل يليق بهذه الفتاة الناعمة أن يمسها أذى أو يذهب صقل المكواة عن ثيابها، من القفز على الجدران والسقوط على الأشجار. . .؟ لا يليق غير ذلك لأن المخرج يريد ذلك!
وفي أي مكان من بلاد الله تقام حفلة يبحث فيها فتى عن فتاته، فيظل يشتبه في عدد من الفتيات، يتوسم كلا منهن ويقبلها وهي ساكنة تبتسم، فيعرف من طعم القبلة أن (المشتبه فيه) ليست فتاته، وإنما هي تشبهها فقط. . . ولو أن (العدوى) الذي يدعوه الناس للبحث عما يضيع منهم، جرى في عمله على ذلك النمط الذي جرى عليه بطل الفلم في البحث عن فتاته، لما مل دوام البحث عن الضائعات. . .
عباس خضر