مجلة الرسالة/العدد 840/أمم حائرة
→ ../ | مجلة الرسالة - العدد 840 أمم حائرة [[مؤلف:|]] |
أيتها الشمس ← |
بتاريخ: 08 - 08 - 1949 |
14 - أمم حائرة
الخاتمة
لصاحب العزة الدكتور عبد الوهاب عزام بك
وزير مصر المفوض بالمملكة السعودية
بالعدل، وهو شريعة لا تناقض فيها، ولا اضطراب، ولا تخلف، تسكن نفس العادل إلى طريق الأحبة، وتطمئن إلى خطة بينه، ويملأها السلام. وكذلك تسكن وترضى وتطمئن أنفس الآحاد والجماعات التي يدير العدل أمورها، ويصرف شئونها، فيسري السلام فيها ويربط الوئام بينها، ثم يشيع السلام والوئام في أمور الجماعة جليلها ودقيقها، كلها أو أكثرها، والسلام هو سعادة الأحدان والجماعات، وقوام الخير والشر بينها، ووسيلة الصلاح والاستقامة في كل أمورها. وقد سمى الله تعالى نفسه السلام. وفي القرآن الكريم: (والله يدعو إلى دار السلام) (يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور).
فالإيمان بالله يؤدي إلى العدل وفضائل أخرى كثيرة عظيمة. والعدل يؤدي إلى السلام، والسلام قوام السعادة والطمأنينة في نفوس الوحدات والجماعات.
فلهذا فليعمل العاملون، وعلى هذه القواعد فليبين بناة الجماعات والأمم، وهذه السبيل فليسلك دعاة الحق والخير، وهذا النهج فلينهج المعلمون والمربون على اختلاف درجاتهم، وأممهم ومواطنهم وعصورهم.
إن الناشئ في هذا العصر تتلقفه آراء لم تحكمها الروية والتثبت، وأقوال لم يزنها الصدق والإخلاص، وأفعال لم يرد بها وجه الله. وتحيط به هذه الآراء والأقوال والأفعال أنى سار، وتلزمه كل حين بما اخترع العلم من وسائل النشر والإذاعة. وهو هالك إن لم يدركه العقل والعمل.
وعلى قادة الرأي وأولى العلم أن يجنبوا النشء كل حين بكل وسيلة القلق والحيرة والزلل والشطط بهذه الآراء والأقوال والأفعال، في الدار والمدرسة وبالإذاعة والكتب والصحف، وبكل ما هدى إليه العقل السليم والعلم الصحيح من وسائل.
إن هذا الصخب المحيط بنا، وهذا القلق المستمكن في أنفسنا والظاهر في كثير من معايشنا ونظمنا وشرائعنا وأمورنا، وهذه الحيرة الدائرة بالناس على غير طريق إلى غير غاية، وهذا التناهر في الأقوال، والتخالف في الأفعال، كل أولئك مردة إلى فقد السلام في النفس الواحدة، وبين الأنفس المتعددة، في كل طائفة وكل قبيل وكل أمة ثم بين الناس أجمعين.
ولا سبيل إلى السلام إلا بالعدل يجمع الناس على شرائع من الحق وسنن من الخير والبر، ويقيها الأهواء المتصادمة في الأنفس المتنافرة، والأحداث المتلاطمة في الأمم المختلفة.
ومرجع العدل وأخوات له بها أمن الناس وائتلافهم وتوادهم وتعاونهم وأخونهم، وفيها الخير العميم والسعادة الشاملة، هو الإيمان بالله، والإيمان الذي يعظم النفس كما قلت آنفاً، ويجمعها ويرفعها عن الدنايا وعن سفاسف الأمور وعن الأهواء وعن المادة إلى معالي الأمور وجلائلها، وإلى الحق وإلى عالم الروح المتلائم المتناسق الطرد المنسجم.
نحن في عالم تتصادم آراؤه لأنها لا ترجع إلى أصل يوحد بينها، بل تنشأ عن نزعات ونزعات؛ وتختلف أقواله لأنها لا ترجع إلى صلة يجمعها ويؤلف بينها، وتتقاتل بما فقدت الحق والعدل، والمعاني العامة، والشرائع الهادية الجامعة.
ولا منجاة من التصادم والتخالف والتقاتل إلا بالسمو عن الأهواء إلى الخ وعن الظلم إلى العدل، وعن الأحداث الجزئية إلى القوانين الكلية. ولا يتسنى هذا إلا بالعلو إلى أصل الأصول وحقيقة الحقائق وهو الله تعالى مصدر الخير والجمال والعدل والسلام وما يتصل بأولئك جميعها.
هذا الكلام الموجز عنوان لمعان لاتحد، يعيا عنها البيان، وتحسر فيها العقول والألسن والأقلام وإنما هو إشارة إلى عالم فسيح، للعقل فيه مراد، وللوجدان في أرجائه مجال. فليفكر المفكرون، وليتأمل المتأملون، وليدع المصلحون، وليضرب الأخيار الأمثال، وليبين هذا للناس كل من أوتي نصيباً من العلم وحظاً من الرأي: غير آل جهداً ولا مقصر في فكر أو عمل حتى تستبين السبيل ويتضح النهج وتلوح الغاية ويستقيم المسير. والله ولى التوفيق.
أما بعد فهذه كلمات مخلصة لله، اطرد فيها، وفاض بها القلب في غير تكلف ولا تزيد ولا مراءاة.
وقد عرضت فيها أسباباً لقلق الناس وحيرتهم، وشقاوتهم بعقولهم وأعمالهم، وبما صنعت أيديهم، وراء هذه الأسباب أسباب أخر. وما أردت الاستيعاب والاستقصاء. وقد دعوت إلى أمور رأيتها طباً لهذه الأدواء، وشفاء لهذه العلل، ومعها أمور أخرى، متصلة بها أو تابعة وما حاولت الاستقراء والإحصاء
ولم يقف بالقلم عند هذا الحد بلوغ الغاية أو الإبقاء عليها. ولا ضيق المجال، ولا نضوب الرأي وقصور القول: بل وقف بالقلم طول لا طريق وبعد الغاية، وأنها سبيل يغني فيها الإيجاز، وتكفي فيها اللمحة والإشارة والدعوة والتنبيه والإيقاظ والتحذير. وكذلك وقف بالقلم الترويح عن القارئ والإشفاق من أن يمل من هذه السلسلة الطويلة وراء هذا العنوان الوحيد.
وإني لأدعو كل مفكر وأحفز كل كاتب إلى أن يمنح هذا الموضوع بعض عنايته، ويصرف له بعض وقته أداء للأمانة وقياماً بالواجب.
وعسى أن أعود إلى هذا الموضوع أو موضوع يتصل به ويمت إليه. والله نسأل السداد في الرأي والإخلاص في القول والعمل، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
عبد الوهاب عزام