الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 84/في الأدب المصري

مجلة الرسالة/العدد 84/في الأدب المصري

بتاريخ: 11 - 02 - 1935


مجالس الأدب في القرن الثامن عشر

للأستاذ محمد فريد أبو حديد

لقد هممت اليوم أن أكتب إلى الرسالة الغراء مقالاً ثانياً أستأنف فيه وصف مجالس الأدب في مصر في القرن الثامن عشر في أيام رضوان بك أمير مصر وأحد مليكيها في ذلك العصر، ولكني رأيت الأمر قد استعصى علي إذ جعلت انقل من قول أحد شعراء العصر بعض ما راقني، وذلك الشاعر هو ابن الصلاحي، فرأيت ذلك البعض الذي اخترته قد زاد على المقدار الذي يجمل بي أن أجعله لمقال واحد. فعدلت عن رأيي الأول وقلت حسبي أن أخص بهذا المقال ذلك الشاعر وحده. ولعل الاختصار على حديث شاعر واحد أبلغ في قصدي وأقوى لحجتي التي أرمي من ورائها إلى بيان حقيقة في تاريخ مصر. فان غزارة قول شاعر واحد من شعراء هذا العصر لدليل على أن ثقافة ذلك العصر لم تكن ثقافة ضحلة، بل كانت ثقافة أعمق وأقوى مما يتوهمه الكثيرون

كان ابن الصلاحي ناظماً وناثراً وعالماً من علماء العصر. نال من العلم الموروث أقصى ما يناله المتطلع إلى الحياة العقلية. وقد كان تلميذاُ للشيخ محمد الحفني المشهور وأجازه ذلك الشيخ إجازة علمية قد يكون من الطريف أن ننقلها هنا. قال الشيخ:

(نحمدك يا عليم يا فتاح، يا ذا المن بالعلم والصلاح، ونصلي ونسلم على أقوى مسند، وعلى آله وصحبه معادن الفضل والمدد. أما بعد فان المولى العلامة الفهامة الحاذق الأديب، واللوذعي الأريب، مولانا الشيخ محمد الصلاحي السيوطي قد حاز من التحلي بفرائد المسائل العلية أوفي نصيب، بفهم ثاقب وإدراك مصيب، فكان أهلاً للانتظام في سلك الأعلام، بإجازته كما هو سنن أئمة الاسلام، فأجزته بما تضمنته هذه الوريقات، من العلوم العقلية والنقلية المتلقاة عن الاثبات، وبسائر ما تجوز لي روايته أو ثبتت لدي درايته، موصياً له بتقوى الله التي هي أقوى سبيل للنجاة، وألا ينساني من صالح دعواته في أوقات توجهاته، نفعه الله ونفع به، ونظمه في عقد أهل قربه، وأفضل الصلاة والسلام على أكمل رسل السلام وعلى أئمة الهدى، وصحبة نجوم الاقتدا. كتبه محمد بن سالم الحفناوي الشافعي ثامن جمادي الثانية سنة ثمان وسبعين ومائة وألف) وقد كان ابن الصلاحي فوق ذلك كاتباً حسن الخط كتب نسخة من القاموس بخط يده، وقد كان للخط الحسن نهضة في ذلك العصر مثل سائر أحوال البلاد، فقد نبغ من معلميه جماعة من أفاضل الكتاب مثل الضيائي والشاكري والحزانري والحمامي

ولكن أكبر ما امتاز به ابن الصلاحي ميله الى فن الأدب، فقد أخذ منه بالحظ الأوفر، وقد اتصل بحلقة الأدب في بلاط الأمير رضوان ونال من خيره الشيء الكير. على أنه كان غير منقطع إليه، بل كانت له مجالس خاصة مع جماعة من أدباء عصره ومشيخة العلم فيه. ولعل خير ما قاله من قصائد ما جاش في نفسه في تلك المجالس الخاصة

قال يصف خطرات نفسه

بُثا عن النائي الغريب ... جملاً من الخبر العجيبِ

واستوقفا الركبان ما ... بين الاراكة والكثيب

واستنشدا القلب الذي ... قد ضاع من بين القلوب

سلبته يوم الدوحتي ... ن طليعة الرشأ الربيب

وسرت به نحو الخيا ... م يد الصبا ويد الجنوب

ترنو الهوادج عن صفا ... شمس تميل إلى الغروب

والبدر يذهب من خلا ... ل السحب في مرأى عجيب

والرق يخفق والمزا ... هر مثل قلبي في وجيب

يا حادي العيس التي ... سارت على قلبي الجنيب

علل عليل هوى فعه ... دك ما تقادم بالطبيب

إني وإن شط النوى ... وقف على حب الحبيب

كابدت ما كابدت من ... شق المرائر والجيوب

وعلمت كيف تقوم أس ... واق المعارك والحروب

ولقيت دون البيض وقع ... السمر بالصدر الرحيب

من كل ريم جائل ... في برد جردته النشيب

يحكى الغزالة في الترف ... ع والغزالة في الوثوب

ألحاظه ترويك ديوا ... ن الحماسة عن حبيب وقعات أسمهه ترك ... ن جميع حسمي في ندوب

كم ليلة عانقت في ... ها قامة الغصن الرطيب

في معهد ما فض عن ... هـ الأنس إلا ختم طيب

والزهر يضحك من بكا ... ء الطل بالثغر الشنيب

والريح تكتب في الغدي ... ر حديث أسرار الغيوب

والطير تقرأ والغصو ... ن تهز أعطاف الطروب

والورق تصدح في الغصو ... ن بصوت محزون كئيب

في رنة الشادي وهي ... نمة القطا والعندليب

عجماء تعرب في السؤا ... ل وتستجيب بلا مجيب

والليل أرسل ذيله ... رصداً على أعلى القضيب

يحكي الشعور كأنه ... يروي الفروع عن الخطيب

أرنو وأحشائي من ال ... حدثان في شك مريب

لولا الرقيب ظفرت من ... لقياه بالفرج القريب

وكشفت من وصلي به ... ما قد ألم من الكروب

ولئن حل بنفس القارئ من هذه النفثة مثل ما حل بقلبي، لأيقن أن ابن الصلاحي إنما كان يترجم عن قلب نابض بحياة حقيقية لا تكلف فيها، وأنه كان يصدح بأنغام تبين عن حرارة ووجدان طبيعي. وها هي ذي نفثة أخرى أختار منها البعض لا أنه أحسن ما بها، ولكنه مثل مما تحويه من آيات. وهي في مدح شيخه الحفني:

مِلْ بي فقد وقد الهجير ... إني بظلك مستجير

وأرح مطيك يا سمي ... ر فقد أضر بها المسير

هذا الحمى فارصد إذا ... ما استأنس الظبي النفور

واطرق كناس الغيد حي ... ث ينام راعيه الغيور

وأمط ستائره فذ ... لك حين تنفتح الخدور

واسأل من الظبيات عن ... عهد تضن به الصدور

واحفظ فؤادك أن تصي ... ب عيونهن فهن حور من كل غانية يل ... ح بوجهها القمر المنير

تختال في مرح الشبا ... ب فيخجل الغصن النضير

تسعي فتعقدها روا ... دفها وينهضها الحضور

سكرى رأت كسر القلو ... ب فصار ناظرها الكسير

فعلت بسحر جفونها ... ما ليس تفعله الخمور

حنثت معاطف خدها ... لكن لواحظها ذكور

لم أنس إذ وافى البشي ... ر يلوح في فمه السرور

إذ أقبلت ريح القبو ... ل بها وأدبرت الدبور

فضممتها وبمهجتي ... من حر أشواقي سعير

فتعوذت بالروض من ... شر بأنفاسي يطير

روض تعلق بالمجر (م) ... ة من جوانبه نهور

تبدو به زهر الزهو ... ر لأنه فلك يدور

ضحكت ثغور زهوره ... فبكى لها النوء المطير

وحنت نواعره وحن ... ت وهي من غيظ تفور

ذكرت قديم عهودها ... فأنهل مدمعها النمير

يا طيب أنفاس الربي ... ع ففي تنفسها عبير

والجو مجمرة علي ... ها من ضبابتها بخور

والورق ساجعة لها ... في كل ناحية سمير

عجماء تعرب عن ضما ... ئرنا وليس لها ضمير

والريح تعتنق الغصو ... ن بها فتعتبق الزهور

وبدت شموس الراح تح ... ملها الكواكب والبدور

وبكت عيون السحب حي ... ن تساقط الدمع الغزير

نحنا معاً فتحلت ألم ... أغصان منا والنحور

رعيا لذياك الحمى ... والطرف متهيج قرير

ومرور أيام الصبا ... من دونها العيش المرير ثم انتقل إلى مدح شيخه ومضى فيه مثل قوله:

ملأ النواظر منه إج ... لالا وليس له نظير

وحماه ينفك الأسي ... ر به ويستغنى الفقير

منن تذل لها الرقا ... ب ولا يقوم بها الشكور

وجرت لنحو حماك آ ... مالي وأنت بها جدير

خذها على شرط الصيا ... رف إن ناقدها بصير

أليس هذا قولاً يترجم عن ... قلب جياش وخيال وثاب؟

وقال في بعض مجالسه:

هات لي قهوة الشفا من شفاهك ... وإسقنيها على فخامة جاهك

عاطينها يا أوحد العصر لطفا ... وبديع المثال في أشباهك

يا غزالاً لو صور البدر شخصا ... ليضاهيك في البها لم يضاهك

عاطنيها جهراً شفاها ولا تخ ... ش ملاما فلذتي في شفاهك

وأرسل إلى صديق له:

ذكرتك لا أني نطقت وإنما ... ذكرتك في نفسي فكنت سميرها

ذكرتك في روض تبسم عن شذا ... وقد فتحت كف النسيم زهورها

ذكرتك والأطيار تنطق عن هوى ... كأنك قد آويت منها ضميرها

فلا خير في أرض إذا لم تكن بها ... سميراً ولا في روضة لن تزورها

ذلك مثل من أدب حي حياة تنبض قوية، يتفتح عن زهر نظير غض، وهو في الوقت عينه أدب عميق قوي، تسمع منه نغمة حلوة بليغة تدل على روح شعب محس بنفسه آخذ في سبيل الحياة والشباب

فالحق أن شعب مصر في القرن الثامن عشر، كان آخذاً في سبيل نهضة حقيقية في كل جوانبه، نهضة وطنية صرف لا تشوبها رطانة أجنبية ولا لوثة أعجمية ولا سيطرة غربية. نهضة لو سارت في سبيلها وبلغت قصاراها لكانت مصر بها اليوم في مستوى اليابان أو إيطاليا أو فيما هو فوق ذلك. غير أن القرن الثامن عشر، وا حسرتاه، انتهى بنكبة شاملة وداهية فادحة بإغارة الفرنسيين على مصر، واكتساحهم كل آثار تلك النهضة الشابة فقضى عليها ولما يتم نموها، وحفرت بين ماضي مصر وحاضرها هوة عميقة تقطع تيار الرقي الوطني، وتقف في سبيل وصل الطارف بالتالد

فمجد مصر السياسي في القرن الثامن عشر أصبح نسياً، ومجد مصر الاجتماعي في ذلك القرن ذلك قد أصبح أثراً دارساً، وجهاد مصر الدستوري قد صار دفيناً تحت أنقاض تلك الكارثة، فلم تبق منه معالم ولا آثار. غير أنا إن فاتنا أن نبني على أثر هذا التراث المنهوب، أو ضاع علينا أن نصل حاضرنا بذلك الماضي المضيع، فليس أقل من أن نعرف أن لنا في ذلك الماضي أنفاساً يليق بنا أن نحرض عليها، وأنغاماً يجمل بنا أن نسجلها

محمد فريد أبو حديد