مجلة الرسالة/العدد 84/فصول ملخصة في الفلسفة الألمانية
→ إلى الريف. . . . . | مجلة الرسالة - العدد 84 فصول ملخصة في الفلسفة الألمانية [[مؤلف:|]] |
القصص ← |
بتاريخ: 11 - 02 - 1935 |
6 - تطور الحركة الفلسفية في ألمانيا
للأستاذ خليل هنداوي
لهنري هاين صفحة قيمة يقارن فيها بين مذاهب هؤلاء الثلاثة، ويذكر ما لهم من تأثير في الحركة الفكرية، وكأنه يجد أن الرسالات التي بشروا بها لم تكن تنطق إلا عن رسالة واحدة هي رسالة الكمال والمثل الأعلى. يقول:
(لا نجد - عند كانت - إلا كتاباً مسطوراً. أما عند - فيخت - فنحن نتجرد من الكتاب ونرى أنفسنا إزاء رجل جبار قد اتحدت إرادته وفكرته حتى صارتا قطعة واحدة، كنت أقارن بين نابوليون وفيخت، وهما متفقان مزاجاً، وظهورهما في قومهما متشابه من جميع الوجوه، كلاهما يمثل سلطته (الذاتية) حيث لا نرى الفكرة إلا مقرونة بالعمل. ولكن هذه المبالغة في الإرادة والاعتماد على الذات جعلت عملها سريع الانهيار، فمذهب - فيخت - العملي يشبه إمبراطورية ذلك العظيم، تلك الإمبراطورية التي لم تكد تظهر حتى تصدى لها الزوال فأصبحت كأن لم تغنَ بالأمس. ولكن ثورة (نابليون) لا تزال تسري في عروق أوربا، وهكذا كان شأن فلسفة (فيخت) فإن مذهبه قد انهار. ولكن النفوس والأفكار لا تزال - من بعده - مضطربة حائرة
جاء (مذهبه في المثل الأعلى) خطيئة كبيرة في مجموع فلسفته. ترى في كل جزء من أجزائها استقلالاً سائداً وإرادة واسعة وحرية بعيدة، وتحس بشيء يسيطر على عقول الفتيان.
ومذهب (فيخت) في (الذاتية) كان يلائم خلقه الحديدي، ومثل هذا المذهب القوي لا يلائم غير صاحب هذا الخلق الجبار. ولا ننسى نصيب (شيلنج) فقد كان علماً من أعلام الفلسفة الألمانية. نظر إلى الطبيعة نظرة سلم وأحب أن يعلن الهدنة بينها وبين النفس، وأراد أن يجمع بينهما، فأحيا الفلسفة القديمة التي جاء بها اليونان الأقدمون قبل سقراط. ولكنه استسلم كثيراً لسلطان الخيال، ولم يخاطب العقل كثيراً فتضعضعت فلسفته تحت مطرقة العقل، فجاء (هيجل) وتبوأ مقعد الفلسفة، فاعتزل (شيلنج) ونزل في (مونيخ) وهناك رأيته يعيش هائماً كالشبح، بعينين غشيتهما صفرة، ووجه ذليل كأنه صورة شقية لمدينة خربة مهجورة) 1770 - 1831
حياته
ولد (هيجل) في (استتجار) وأكب في بدء نشأته على اللاهوت كزميله من قبل، فقضى خمسة أعوام في جامعة (توبنج) حيث تعرف فيها الى (شيلنج) ونشأت بينهما صداقة متينة. . . وبينا أعوام يركب مركب الحيرة من دنياه مات أخوه؛ فأحيا ما ورثه منه في نفسه شيئاً من الأمل الذي كاد ينطفئ بعد إيماض. فعاد الى (ابنا) حيث التقى للمرة الثانية (بشيلنج) وأخرج معه المجلة الفلسفية. ولم يكن هيجل حتى ذلك الحين ليطمع في أكثر مما بلغ أو يمد عنقه الى أكثر مما نال، ولكن عبقرية هيجل أخذت تميط اللثام عن وجهها وتدرج بدون استحياء، وظهرت براعته وحرية تفكيره في المقالات التي حبرها للذود عن أراء زميليه، وكأن الحظ أراد أن يواتيه مرة أخرى، فترك (شيلنج) منبر الجامعة، فاتسع المجال لهيجل لإبداء قوته وإظهار مقدرته؛ فعجل ذلك في تعيينه أستاذاً. وفي عام 1806 حين كان المدفع يلعلع في (ابنا) أنجز الفيلسوف كتابه
' الذي يحتوي على جميع نظراته الفلسفية. وازاء هذه الضربات التي نزلت ببلاده، وقف وقفة المتأمل ونظر إليها والى عللها نظر الفيلسوف. وقد كتب الى أحد أصدقائه هذه الرسالة. . (قد سر نفسي ما علمته عنك بأنك عازم على قضاء الشتاء مستسلماً الى العزلة والفلسفة، وقد تحب الفلسفة العزلة الهادئة؛ ولكنها مع ذلك لا تحتاج الى أن تكره المجتمع أو أن تفر من أعمال الناس. . وأنت، أنت معير انتباهك لتاريخ اليوم، وفي الحق لن تجد أبلغ منه ولا أوعى، هو يريك أن الحضارة لا بد غالبة على البربرية، وأن العقل الذي يفر سوف يقهر الفطنة المسكينة التي لا تفكر، العلم هو حصننا المنيع. . . يعلمنا ألا نبقى فاتحين أفواهنا كالمتثائبين أمام الحوادث، لا نجعلها وليدة مصادقة غريبة أو ابنة براعة رجل واحد، ولا أن نقيد حظ نصر مملكة بربوة كان يجب عليها امتلاكها، أو بأخرى أهملت نسياناً، ولا أن نرسل الأنين حزناً وراء انتصارات قضى عليها جور الحظ. إن ثورة فرنسا الدامية قد أنقذت الشعب الفرنسي من أوضاع شوهت النفس الإنسانية وخنقت أراوح الشعوب كما خنقت روح هذا الشعب، كل فرنسي ألف أن يتمثل مصرعه أمامه، وهذه الأوضاع والتقاليد التي يحمل عليها الناس حملاً قد لقيت مصرعها في فرنسا، وهذا ما يكتب روح العظمة لهذا الشعب. . . . .)
وليس التحليل النفسي موضوع هذا الكتاب، وإنما هو يصف مراحل النفس في أصل نشأتها وحياتها حتى اليوم الذي يتيقظ فيها كل شعورها ووعيها، إذ تشعر بذاتها أنها قادرة على تحقيق (العلم المطلق) وبهذا يمكننا أن ندعوه درس أطوار النفس البشرية، وهذا الدرس يعمل بواسطة نظرياته المنطقية على إنماء الحركة البشرية وعلى إعداد حركة العلم المطلق الذي تبدو بوادره
وأخيراً يعد محاولات وتجارب أخفقت في ميدان الحياة أهاب به الحظ فدعي الى (برلين) الى المنبر الذي كان يشغله (فيخت) فلبث فيه حتى نزل به الوباء الذي اجتاحه فيمن اجتاح عام 1831. وهو خلال تدريسه قد قام بأسفار ورحلات صغيرة تدل عليها رسائله الخاصة إلى امرأته اللطيفة ذات الروح الرقيقة التي كانت تعبد زوجها وتعجب به وتحترق، ولكنها لا تفهمه. زار المناطق المنخفضة، ونزل في (فينا) وهبط (باريس) ضيفاً على الفيلسوف الفرنسي (فيكتور كوزان) وقد كان منزله في برلين محط النازلين من فلاسفة ولاهوتيين وأدباء على اختلاف نحلهم ومللهم، ورجال لدولة الذين يهرعون إلى سماع حكمه ودرره، وكتب في هذه الفترة كتابه (المنطق) و (معلمة فلسفية) وبعض المحاضرات التي كان يؤثر بها طلابه في الجامعة
أسلوبه
على أن أسلوب هيجل قد جاء مثلاً قاسياً في التعقيد والإبهام اللذين اتصف بهما، فهو صعب صعب لا يقدر على إدراك أحاجيه ومراميه إلا النبيه المفكر، وهو - برغم هذا كان أعظم مفكر ألماني يجهر بآرائه، وينزل بها صريحة إلى قرائه؛ تتلمسه فتجده مظلماً، وتستوضحه فتراه مبهما، أما هيجل الأديب فانك ملاقيه واضحاً في تضاعيف رسالاته، أما هيجل الفيلسوف فهو ذو أسلوب وحشي، تسنح له فكرة فيزجيها إلى الناس كما يريد بأسلوبه. ولقد تلمح في ثنايا سطوره كلمة أو عبارة لامعة فتعجب من هذا وتود لو يدوم! وهو أشد استرسالاً - من كانت - إلى المبهمات، لأن - كانت - تكاد تكون عباراته محدودة في مواطن معدودة، أما أسلوب هيجل فهو يحالفه - أني أشرفت عليه - , اشرف عليك، هذا الإبهام وهذا التعقيد. . .
فلسفته
إن المتعمق في فلسفة (هيجل) يجد أن جوهرها لا يخلو من أجزاء مقتبسة من (شيلنج) و (سبينوزا)، وهيجل هو القائل عن (سبينواز) (لا ينقص هذا الرجل إلا أن يعتبر الجوهر الإلهي روحاً طاهراً , أن يوحد هذا الروح مع الروح الإنساني بدلاً من أن يرى أن الروح الإنساني هو عنصر جاء على شكل الجوهر الإلهي ولكنه مجرد من الحرية والشخصية) ونظر (هيجل) إلى الواحد المطلق الذي افترضه (شيلنج) فراعه هذا الواحد الذي امتزج فيه ضدان لا يجتمعان بوساطة قانون بارد!. فمر (هيجل) بمادة سبينوزا والواحد المطلق؛ وأناب مناب هاتين المادتين (الفكر) , الماضي في حركته التفكيرية. . وقد تبدو هذه الحركة في ظاهرها حرة اسمية، ولكنها - في الحقيقة - حركة جديدة تعمل على بناء الكون بناء جديداً. ولم يكن السكون المطلق عاملاً من عوامل هذه الحياة، ولكن هي الفعالية، قانون الحياة الأسمى. وهكذا يحل التبدل المستمر محل الثبات المستقر
وحركة الفكر تتمشى على نمط واحد، وكل خطوة يخطوها الفكر إلى الأمام تتألف من ثلاث حالات متتالية. كل ما هو موجود يكتنفه حد من ذاته، والوجود يحتوي على العدم. وجواز الوجود إلى العدم والعدم إلى الوجود إنما هو التحول. فالوجود والعدم والتحول إنما هي قانون الأشياء بدون استثناء، فلا يحدث شيء ولا يترقى إلا تبعاً لهذه الأطوار. وقد شبهوا مذهب (هيجل) بكنيسة مشيدة على الطراز القوطي، يرى الناظر في كل جزء منها رسم البناء مصغراً؛ يريدون أن الفروع المشتقة من فلسفته صور مصغرة عن الأصول
ها هو ذا الفكر الماضي في حركته التفكيرية يظهر خطره ويبدو أثره في الكون من مهد الحياة الناقصة الى عهد الحياة الكاملة، الى عصر الإنسان، وهو خلال ذلك يمر بأدوار الكمال، وفي كل دور يتبدل شأنه ويقوى سلطانه وينفسح مداه. كل طور يصعد إليه هو أسمى من الطور الذي تخطاه، ولكن السمو كل السمو لا يتجلى إلا في المفكر المبدع. وكل خلق - جماداً كان أو ذا روح - مخلوق لذاته، لا يتزحزح عما هو عليه، ولا يجوز من طوره الى طور غيره. وفي بعض مواطن ترى (هيجل) يرذل مذهب القائلين بالاستحالة. وكل كائن - عنده - يمثل صورة متفاوتة الكمال ملائمة لفكرة الكائن. أو قل (هدفاً) يرقى إليه في سيره نحو الهيئة الإنسانية، حيث يتم له لأول مرة أن يكمل ويتم. والطبيعة عنده ليست بصورة كاملة، أن هي إلا (مسودة) في كتاب الخليقة، لأن هيجل لا يرى فيها إلا مجموعة متناقضات لا تتوافق ولا تلتئم، تدل على عجز ظاهر وعلى اضطراب في المنطق. وقد أعطانا صورة جديدة عن الكون كما يود أن يكون. فهو في نظراته الفلكية مثلاً لا يبحث كثيراً في هذا الفضاء اللامتناهي. وإنما هو يرى الأرض - نظرياً - قلب الوجود، ويرى النجوم العالقة بالسماء كالبثور الطافحة على جلد الإنسان
(يتبع)
خليل هنداوي