مجلة الرسالة/العدد 839/أساليب التفكير
→ من ظرفاء العصر العباسي: | مجلة الرسالة - العدد 839 أساليب التفكير [[مؤلف:|]] |
دراسة الطفل ← |
بتاريخ: 01 - 08 - 1949 |
فلسفة الشعب
للأستاذ عبد المنعم عبد العزيز المليجي
اعتذار:
منذ أكثر من شهرين كنت أتحدث إلى قراءة الرسالة عن الأسلوب الفلسفي في التفكير، وكلي عزم أن أواصل الحديث حتى يكتمل؛ ولكن شئون العيش، وشجون الحياة، وهموم العمل الرتيب، وفوضى المعاملات الإنسانية، تحرم المفكر نعمة التأمل، وتسلبه صفاء الذهن؛ فلا يعود يعمل إلا كما تعمل الآلة ويمضي في غمار الحياة اليومية كما تمضي قطرة الماء في خضم التيار: مسلوب الإرادة، فاقد الوعي، خامد الحس، موزع النفس. وهل من سبيل إلى التفكير المشرق الصافي، ما لم نكن بمنجاة من عمل مرهق يأخذنا من جميع أقطارنا، وما لم نهتد إلى فرجة من وقت نتسلل من خلالها إلى الوطن العزيز: وطن الفكر المقدس؟ والمثل اللاتيني يعزينا بقوله: (عش أولاً وتفلسف بعد ذلك).
لا مفر من الفلسفة:
انتهينا في مقالات سابقة إلى أن أداة التفكير الفلسفي هي العقل بوسائله الخاصة: من تجريد إلى حكم إلى استدلال إلى برهان. ولما كانت هذه الوسائل في متناول كل إنسان - أياً كان ذكاؤه وأياً كانت ثقافته - لم يكن مناص من أن يتفلسف الناس جميعا، وإن كانت الانفعالات والأهواء تتدخل أحياناً فتفسد ملكة الحكم السليم، وتطمس إشراقة الذهن، فليس ذلك بمنك وجود القدرة على التفكير الخالص. إن ومضات الفكر قد تنبثق في لحظات لدى أجهل الناس، كما أن ضياء العقل قد تكتنفه سحب الانفعال أحياناً لدى أعمق المفكرين. وقد كان إمامنا سقراط يؤكد هذا المعنى فيخاطب العامة والخاصة على حد سواء، ويدعو إلى فلسفته في عرض الطريق، وفي الأسواق، وفي أروقة المحاكم كان يناقش الصبي الغرير، واليافع البحاثة، والمثقف المتحذلق، موقناً أن الجهل عرض زائل، وغشاوة تنجاب بشيء من الجهد والاخلاص، حتى ليذهب إلى أن الصبي يمكنه بقليل من التوجيه والارشاد، أن يستنتج جميع مبادئ الهندسة التي وضعها أقليدس الرياضي. وكان منهج ديكارت (أبو الفلسفة الحديثة) يقوم على أساس أن العقل (أعدل الأمور قسمة بين الناس، وأنصبة الناس منه متساوية. .) وقد يعجز الناس في عصر من العصور عن فهم ما يكتبه فيلسوف من الفلاسفة، بل قد يرمونه بالخلط والالتواء في التفكير، ويسخرون منه، وينالون من عقليته. وعندي أن ذلك لا ينهض دليلاً على استحالة فهم الناس لتلك الفلسفة، إنما مرده إلى قلة حظ هؤلاء من الثقافة، وعدم اعتيادهم التعمق في التفكير وخشيتهم من كل جديد يزلزل عقائدهم فضلاً عن كون الفيلسوف يعمد أحياناً إلى التعبير في غموض عن أفكار تخطر ببال كثير من الناس العاديين، ويستخدم أسلوباً فنياً مشحوناً بالمصطلحات الغريبة عنهم، فيقيم بذلك بينه وبين أذهانهم سداً منيعاً. ولذلك كانت لا تكاد تمضي حقبة من الزمن، يكون الشراح قد تناولوا فيها إنتاج الفيلسوف بالشرح والتفسير، وتكون العقول قد نضجت بعض الشيء، والإفهام تهيأت بقبول ما نبذت، فإذا المجنون عبقري خالد، والمارق قديس متبتل، ومذهبه عقيدة راسخة. وقد كان الفيلسوف الألماني (عمانوئيل كنت) يقول: (جئت بمؤلفاتي قرناً قبل موعدها، ولن أفهم إلا بعد مائة سنة، وحينذاك ستقرأ كتبي وتقدر قدرها.) وقد صدقت نبوءة الفيلسوف العظيم فلم يكد ينتصف القرن التاسع عشر حتى كان في كل قطر من أقطار أوربا مدرسة فلسفية بأسرها تستمد مبادئها من فلسفة كنت.
الفيلسوف إنسان:
إن الفيلسوف لا يأتي بدعا، ولكنه يرى ويسمع، فيحكم ويستنتج، وما يراه وما يسمعه أمور تقع تحت بصر الناس وسمعهم، وملكة الحكم أو ملكة الاستنتاج ليست وقفاً عليه، فالناس جميعاً يحكمون ويستنتجون؛ ولكنه أدق منهم حساً، ولديه من الفراغ والذكاء والصفات المزاجية ما يكفل له التعمق في تأملانه ومزاولتها أغلب الوقت، والانشغال بمحاولة فهم الكون عن كل ما عداها من شئون الحياة الجارية. ناهيك بقدرته على التجرد من أهوائه، والوقوف من حوادث الكون موقف المحايد: لا تعنيه التقاليد الموروثة والآراء الشائعة، إن تعارضت مع العقل. وكل امرئ بمقدوره ذلك ولو في فترات متقطعة عبر حياته. ويمكننا كمربين أن نعود النشيء كيف ينتزع نفسه - زمناً ما - من استغراقه في تيار الحياة اليومية، وكيف يستخلص العبر العامة من حادث مفرد، وكيف يتجرد من عواطفه، ويتجرد من تأثير غيره ليحكم في نزاهة، وينقذ في جرأة، ويسمو فوق المشاغل الجزئية التافهة.
لست أقصد بطبيعة الحال أن الناس جميعاً فلاسفة ولكنني أقصد أن كل امرئ بمقدوره أن ينتهج في حياته نهجاً فلسفياً، وأن الفيلسوف لا يفضل المفكر العادي إلا في الدرجة، وأقصد علاوة على ذلك ما أقصده أرسطو بقوله: (إذا لم يلزم التفلسف فلتتفلسف أيضاً لتثبت عدم لزوم التفلسف.) أي أن المرء ليس بوسعه إلا أن يتفلسف ما دام كائناً في عالم دائب الحركة، زاخر بالتطورات والمشاهدات والمفارقات كل ما يقع عليه البصر يثير العجب والدهشة، ويستفز نزعة الاستطلاع الكامنة في تحفز هو لا يستطيع أن يقف موقف المسجل لهذه الظواهر فحسب، فعقله دائب التساؤل، وهو قلق ما لم يصل إلى تفسير لما يرى، وتصور معقول للكون في مجموعة أو في ناحية من نواحيه. وهو إذا ما صاغ نظرية ما، هدأ القلق، وحقق - إلى حين - الطمأنينية العقلية التي لا غنى عنها للمضي في رحلة الحياة. قد تكون النظرية التي يفضي اليها تفكير المرء خاطئة أو قاصرة ولكن ذلك لا يقضى على قيمتها من حيث إنها كافية لإعادة الأمن العقلي إلى نفسه القلقة، والتعلل بها حتى يتهدى لتفسير نهائي. وإذا كان الإنسان عاجزاً عن الوصول إلى تفسير نهائي، فلا يبرر ذلك أن ننكر الفلسفة أو نمتنع عن التفلسف كما حدث لبعض المفكرين: شكوا في قدرة العقل الإنساني، ويئسوا من بلوغ الحقيقة كاملة، فارتموا في أحضان التصوف، ومنهم من آثار الجهل على علم ناقص. يذكرني ذلك بالنقاش الطويل الذي احتدم بين سقراط - إبان إعدامه - وبين تلامذته حول وجود الروح وعلى خلودها، وبعد موافقة تلامذته عليها، بصعوبة المسألة وعدم جواز القطع برأي نهائي بصددها. حينئذ يتشجع أحد الحاضرين، (سيبيس) ويقول قولاً حكيماً: (يبدو لي يا سقراط، كما يبدو لك، أنه من المستحيل، أو بالأحرى من العسير جداً، بصدد هذه الأمور، أن نعرف الحقيقة في حياتنا هذه. ومع ذلك نرى من الجبن ألا نفحص بعناية فائقة كل ما أسلفنا قوله، وأن ندع جزءاً دون بذل قصارى جهودنا: ذلك أنه لا مناص من أحد أمرين؛ إما أن نعلم الحقيقة عن غيرنا وإما أن نكتشفها بأنفسنا؛ فإن استحال كلا الأمرين فلنتخذ من الآراء الإنسانية أقومها وأبعدها عن التفنيد، ولنمتط هذه الآراء كما نمتطي زورقاً يعبر بنا، مخاطرين، هذه الحياة حتى يتيسرلنا أن نعبرها على نحو أسلم وأقل تعرضاً للخطر. . . أجل إن لكل نظرة فلسفية قيمتها، وليس بقادح فيها بعدها عن الصواب أو قصورها عن مطابقة الحقيقة، ما دامت ضرورة حيوية لتهدئة توتر الذهن عند ما يعجز عن حل مشكلة من المشاكل. وعلى هذا الأساس يحق لي أن أتحدث عن فلسفة شعبية تنطوي عليها حياة عامة الناس، وقد يصرح بها نبهاؤهم قولا كما سنبين:
فلسفة الخير والشر:
رجل الشارع إذ يقول: (كله فانٍ) إنما يركز في لفظين اثنين مذهباً فلسفياً ضافياً ملأ أسفار كثير من فلاسفة الأخلاق، لم يستمده من بطون الكتب ولا هداه إليه معلم، إنما هي مدرسة الحياة بتجاريبها تمده بالعرفان، وملكة الحكم السليم: (أعدل الأشياء قسمة بين الناس) تهديه إلى نظرياته. إنه يستقرئ الحوادث والكائنات، ويلمس انتهاء حياة كل كائن إلى الموت. كلما يقع تحت حسه ينمو ويزهو، ثم يذوي ويذبل. كل حي يدب على البسيطة دبيباً قد يتجاوب صداه في الآفاق، وينتفض من فرط القوة والحيوية، ويأتي من الأفعال ما نحمده وما ننكره، ثم إن هي إلا ساعة أو بعض ساعة حتى يتلاشى الدبيب، ويزول الصدى، وتخمد الحركة وتستحيل السيرة ذكريات لا تلبث أن تنمحي:
أتُرى الدنيا سوى دار سفار ... ذات بابين ظلام ونهار
كم وكم من ملك جمِّ الفخار ... حلَّ فيها برهة وارتحلا
حين لبى دعوة الداعي المطاع
ذلك ما يدور بخلد العامي حينما يخلو إلى نفسه يناجيها، أو إلى جماعته يؤانسها، أي حينما ينتزع نفسه من غمار العيش الرتيب، فيطل على الكون من قمة الفكر التي تشرف على الزمان والمكان، ويتحرر إلى حين من إلحاح الحاجات الجسدية التي تعطل التفكير الخالص ما لم ترتو. وحكيم الشعب الذي يقضي العمر لا يحمل حقداً أو ضغينة، ولا يحس إحناً أو سخيمة، يقدم للناس كل خير فلا يجد منهم غير الحسد ونكران الجميل، تقصد مضجعة خيانة الإنسان لأخيه الإنسان، وتترك عشرة الناس في نفسه ندوباً أليمة، حتى ليعصف به شك في وجود الخير في هذه الحياة التي نحياها، شكاً يعبر عنه غناء في أسى نبيل:
(يا زارع الودّ هو الودّ شجرهُ قل ... ولا سواقي الوداد نزحت وماءها قل؟) وقد يكون لشكه
هذا أبلغ الأثر في سلوكه العملي: إما نقمة وسخط على المجتمع فإعلان الحرب عليه وتلمس السبل للانتقام، وإما عفو وغفران فمضى على الصراط المستقيم لا يرعى في شيء إلاً ولا ذمة، ولا ينتظر جزاء ولا شكوراً. وهو في الحالين مبرر سلوكه بفلفسة تثبت فؤاده، وتؤكد سلامة اتجاهه أمام نفسه أو أمام الناس. فهو في الحالة الأولى نفعي، قيمة الفعل الأخلاقي في نظره رهن بمقدار ما يجلب لصاحبه من نفع وما يدفع من نكر، وهو في الحالة الثانية مثالي يفعل الخير للخير، قيمة الفعل عنده لا ترتهن بما يجلبه من نفع، ولكن بما تحدثه في النفس من رضى وطمأنينة. ولو تتبعنا تاريخ الفلسفة لوجدنا كلا الاتجاهين في الفلسفة الأخلاقية. يمثل الاتجاه الأول طائفة السوفسطائيين الذين قادوا حركة فكرية في أثينا إبان القرن الخامس قبل المسيح أعلنوا الثورة على العقائد الموروثة، وسخروا في جسارة من آلهة اليونان ومضوا في شكهم حتى تناول قواعد الأخلاق فأنكروها زاعمين أنها بدعة ابتدعها ضعاف النفوس ممن جردتهم الطبيعة من القوة والامتياز، فتوسلوا بالأخلاق والدين للسيطرة على الأقوياء والموهوبين. أما الخير عندهم فهو المنفعة، والسعادة في إشباع الرغبات والميول التي فطر عليها الإنسان. والواجب يقتضي تحطيم أغلال الأخلاق، لأنها ابتداع يتعارض مع الطبيعة البشرية، وعليه فالإنسان كما يقول أحدهم (بروتا غوارس) مقياس الأشياء جميعاً. . . (فالأشياء هي بالنسبة إلى على ما تبدو لي، وهي بالنسبة إليك على ما تبدو لك، وأنت إنسان وأنا إنسان.) أجل: أنا إنسان، وأنت إنسان - فليمض كل منا وفق هواه، وليجرد كل سلاحه، فالقوة فوق الحق والبقاء للاصلح. وقد أجاد الكاتب الفرنسي (هو نوريه دي بلزاك) في تصوير هذا الأتجاه الوصولي النفعي فيشخص مجرم خطير هو (فوتران) الخارج على المجتمع. يلتقي (فوتران) ذات يوم بشاب هبط باريس يطلب العلم هو (راستنياك) الذي يحمل بين جنبيه نفساً أبية وقلباً ذكياً، وطموحاً نبيلاً، ولكنه مع ذلك كغيره من الموهوبين في مجتمع منحل يعجز عن بلوغ المجد لأنه وقف على من يضحي بمبادئ الشرف والكرامة. يلقاه (فوتران) وهو على هذه الحال من الألم واليأس والرضا - مع ذلك - بالأوضاع والمقادير فيلقنه فلسفة في تلك الكلمات: (أندري كيف يشق الناس طريقهم في هذه الدنيا؟ يشقونه ببريق العبقرية، أو بالمهارة في الخسة. يجب أن تسقط في صفوف البشر كقنبلة أو أن تتسلل بينها كوباء. أما الشرف فلا فائدة فيه). تلك فلسفة يتخذها نفرمن الناس يؤيدون بها مسلكاً عملياً ويبررون بها ثورتهم على مجتمع يرونه ظالماً، وهي لعمري تحمل بين طياتها اعتذاراً ضمنياً عن فعال يحسون في قرارة نفوسهم مجانبتها للصواب. وفي المقال القادم أحدث القراء عن الفلسفة المقابلة، تلك التي ترى الخير غاية في ذاته، والسعادة في رضى النفس وراحة الضمير. . .
عبد المنعم المليجي