الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 838/تعقيبات

مجلة الرسالة/العدد 838/تعقيبات

بتاريخ: 25 - 07 - 1949


للأستاذ أنور المعداوي

لحظات في سجن أبي العلاء

جلست وصاحبي

نتجاذب أطرف الحديث في نواحي الحياة المختلفة من بقاء الجنس والنزوع إلى البقاء وآراء بعض الفلاسفة في الحياة، وساقنا الحديث إلى أبو العلاء، فذكرت لصاحبي قوله في بقاء الجنس:

فليت وليداً مات ساعة وضعه ... ولم يرتضع من أمه النفساء!

واسترسلنا في الحديث فذكرت قوله في النزوع إلى عدم البقاء:

تواصل حبل النسل ما بين آدم ... وبيني ولم يوصل بلامي باء

وأخيراً تطرقنا إلى رأيه في الحياة، وحبه في عدم البقاء، وتشاؤمه من الدنيا، فعرضت لقوله:

دعاني بالبقاء أخو وداد ... رويدك إنما تدعو عليَّ

فما كان البقاء لي اختياراً ... لو أن الأمر موكول إليَّ

فقال صاحبي: ما هي أهم صفة له؟ فقلت: أعمى! فارتسمت على وجهه علامة استنكار لهذا الرأي، كأنه لم يرتح له، ولم يطمئن إليه. . . ولذا جئت أسألك، وقد سبقني إلى هذا السؤال شاعرناالرصافي حينما خاطب طه حسين قائلاً: (لو لم يكن أبو العلاء أعمى، فماذا يكون رأيه في الحياة عند ذاك)؟!

ذلك الله إلى الطريق السوي لطلاب المعرفة الحقة، وجعلك هادياً لمن يريد الهداية، وأدامك ما دمت مجيباً لكل سائل.

(ف. ح)

يوسفية - العراق

سؤال الأديب العراقي الفاضل سؤال يجئ في إبانه. . . لقد قضيت لحظات في سجن أبي العلاء قبل أن أتلقى هذه الرسالة بأيام، وليس أحب إليَّ من أن أعود إلى أبي العلاء من حين إلى حين لأرجع إلى كثير مما قال، ولأراجع كثيراً مما قيل فيه، سواء أكانت المراجعة لأقوال القدامى، أم كانت لأقوال المحدثين.

إن شخصية أبي العلاء لتعد في رأيي أهم شخصية قلقة في الفكر العربي كله؛ ومن هنا يلذ لي أن أعود إليه، كما تلذ لي العودة إلى الشخصيتين الأخريين المقابلتين في الفكر الغربي، وأعنى بهما بودلير وليوباردي!

إن الشخصيات القلقة تستهويني دائما؛ تستهويني لأنها مصدر خصب من مصادر الدراسة النفسية، تلك التي تحيل الشخصية الإنسانية غرفة تشريح يتكشف بين جدرانها وتحت لمسات المبضع مكامن الداء ومنابع الانحراف. . . إن هؤلاء الأعلام الثلاثة - وإن افترقوا في الوطن والدين واللغة - إلا أنهم يلتقون في ميدان واحد توجههم فيه نزعة نفسية واحدة: هي القلق. . . والقلق - كما يقول صديقي الأستاذ راجي الراعي - هو أبرز صفحة في كتاب العبقرية!

لو قال الباحثون عن أبي العلاء إنه إنسان قلق لعبروا عن الواقع أدق التعبير، ولأحاطوا بكل جانب من جوانب شخصيته بهذه الكلمة الواحدة، ولكنهم ركزوا كلُّ عنايتهم في جانب واحد انتهوا منه إلى حكم عام ما لبث أن استقر في الأذهان واطمأنت إليه النفوس؛ هذا الحكم العام محوره التشاؤم في شخصية الرجل وفي فلسفته على حد سواء!

من الخطأ - في رأيي - أن ينسب الباحثون أبا العلاء إلى نزعة نفسية بعينها ليتفرد بها وليقف عندها لا يكاد يتعداها إلى غيرها من النزعات؛ ذلك لأن أبا العلاء قد مال إلى التفاؤل كما مال إلى التشاؤم، ونصح بالإقبال على الحياة كما نصح بالإعراض عن الحياة، وآمن بالبعث كما أنكر إيمانه بهذا البعث، وأوصى بالزهد في نعيم الدنيا كما أوصى بالإغراق في هذا النعيم، ونادى بفكرة الزواج والنسل كما نادى بنبذ هذه الفكرة مقدماً من نفسه مثالاً لهذا الحرمان!

أبو العلاء إذن لم تكن له (لافتة) واحدة (يعلن) فيها عن رأى واحد تتميز به شخصيته الفلسفية والإنسانية، ولكنه كان أشبه بالتاجر الذي يعلن كلُّ يوم عن (صنف) جديد من أصناف (بضاعته) عقب وروده بلحظات!

نعم، فلم يكن أبو العلاء إلا تاجر آراء على التحقيق. . . آراء فلسفية مختلفة متناقضة لا تستطيع أن تصدق رأياً منها لتكذب الآخر، فإما أن تقبلها جميعاً، وإما أن ترفضها جميعاً، أما أن تقف منها عند رأي بعينه لتخرج منه بلافتة كبرى هي (التشاؤم) فذلك أمر تثور عليه فلسفة أبي العلاء كلُّ الثورة، لأنها فلسفة الإثبات هنا وفلسفة الإنكار هناك! إن وجه الشبه بين تاجر البضائع وتاجر الآراء هو أنك لا تستطيع أن تنسب الأول إلى صنف واحد مما يقدمه إلى الشارين، ولا تنسب الثاني إلى رأي واحد مما يقدمه إلى المريدين؛ وإنما تستطيع أن تنسب الأول إلى أصناف بضائعه كلها فتقول عنه مثلاً إنه يبيع (البقالة)! وهكذا كان أبو العلاء في حقيقة شخصيته وحقيقة فلسفته. . . تاجر آراء. . . فيها التشاؤم وفيها التفاؤل، وفيها الإلحاد وفيها الإيمان، وفيها الإقبال وفيها الإعراض، وفيها الهدم وفيها البناء، وكل تلك السطور المتناقضة يمكنك أن تضعها تحت عنوان كبير مكون من كلمة واحدة هي (القلق)!

هذا القلق هو الظاهرة الكبرى في شخصية أبي العلاء؛ فإذا أراد الدارسون أن يقتفوا آثاره ليصلوا إلى أسبابه، فليس أمامهم غير حقيقة واحدة، هي أن الذبذبة الفكرية ما هي إلا انعكاس مباشر للذبذبة النفسية. . . وهذه هي المرحلة الثانية التي تدفع بهم إلى الباب الأخير ليفتح على مصراعيه!

ولنا بعد ذلك أن نسأل: ما هو المفتاح الأصيل الذي نعالج به هذا الباب لنضع أيدينا على سر تلك الذبذبة التي وجهت العقلية العلائية هذه الواجهة التي لا تطمئن إلى رأى ولا تستقر على حال؟ أهو العمى؟ أهو تلك الآفة التي أصيب بها وحرمته نعمة الضياء وردد وقعها على نفسه في كثير من شعره؟!

إن العمى قد يبعث على الألم، وقد يدفع إلى الشكوى، وقد يحض على والتشاؤم فما بال الرجل قد خرج عن هذه الدائرة وتذبذب بين الأمر ونقيضه، وأنحرف مرة نحو اليمين ومرة أخرى نحو الشمال؟!

ونعرض للمشكلة من زاوية أخرى فنقول: إذا مال الباحثون إلى الأخذ بهذا التفسير الذي يلتمس في الآفة الجسيمة سر النظرة إلى الحياة فهو تفسير غير مقبول. . . فما أكثر المكفوفين الذين امتلأت حياتهم بالنور، وامتلأت نفوسهم بالرضا، ونظروا إلى الدنيا من خلال منظار أبيض يحمل الدمعة في عيونهم فرحة وابتسامة، وما أكثر المبصرين الذين نظروا إلى الدنيا من خلال منظار أسود فقضوا كلُّ أيام الحياة وهم يتخبطون في الظلام!

ليست الآفة الجسمية إذن هي مصدر هذا القلق الذي أقض مضاجع الفكر في شخصية أبى العلاء، ولكنه فيما أعتقد شئ آخر نفسر على ضوئه المشكلة دون أن نحمل النفسية العلائية ما لا تطيق. . . إنك لو رحت تبحث عن سر القلق والاطمئنان في كلُّ شخصية إنسانية لما وجدته ممثلا إلا في كلمتين: هما فراغ الحياة، وامتلاء الحياة!

نعم، وهذا هو المفتاح. . . المفتاح النفسي البسيط الذي لا غموض فيه ولا تعقيد. . . لو مأساة تحفل باللوعة والألم والعذاب، ولغدا الفكر الثابت المستقر وهو نهب لزلزلة الرياح والأعاصير!

ولو امتلأت الحياة عند المبصر وغير المبصر لأصبحت في رأى الشعور أملا كبيراً تتبخر تحت أشعة المتوهجة قطرات الهم والأسى وتفر أشباح الحرمان!

الفراغ في حياة أبي العلاء ولاشيء غير الفراغ، وعلى هديه نلتمس العلة الأصيلة لتلك الذبذبة النفسية ممثلةً في هذه الذبذبة الفكرية!

ولنا بعد ذلك أن نسأل: أي لون من ألوان الفراغ كان يشكو أبو العلاء؟

إنها ثلاثة ألوان: فراغ النفس، وفراغ القلب، وفراغ الجسد. . . ولك أن تردها جميعاً إلى الحرمان؛ فنفس أبي العلاء كان تشكو الحرمان من العطف وقلب أبي العلاء كان يشكو الحرمان من العاطفة، وجسد أبي العلاء كان يشكو الحرمان من المرأة!

وقف طويلا عند هذا الحرمان؟ الأخير، فهو مصدر الحرمان كله، ومركز الفراغ كله، وعلة هذا القلق الذي وجه أبا العلاء ألف وجهة، وحيره بين ألف رأى وعقيدة، وقذف بعقله إلى ألف درب من دروب الفكر حيث يتجلى التناقض التضارب والاختلاف!

هذا الجدب العاطفي في القلب الإنساني، وهذا الكبت الطويل العنيف للغريزة الجنسية، هما في رأي - ولا شيء غيرهما - مركبا النقص الخطيران في شخصية أبي العلاء، ولا حاجة بنا إلى الحديث عن مركب النقص وأثره في توجيه العقول والأفكار!

لقد سألني الأديب العراقي الفاضل: لو يكن أبو العلاء أعمى فماذا يكون رأيه في الحياة عند ذاك؟

ترى أيحتاج بعد هذه الدراسة النفسية إلى جواب؟! بعض الرسائل من حقيبة البريد:

أشكر للأديبة الفاضلة التي كتبت إلي مهنئه بشهر الصوم، أشكر لها هذه العاطفة النبيلة التي حملتها إليَّ سطور وكلمات، أما عن سؤالها إذا كنت مسلماً أو مسيحياً فأنا مسلم والحمد لله. ولو رجعت إلى بعض أعداد (الرسالة) لتأكدت من صدق هذه الحقيقة! أما عن قضيتها الأدبية فأرجو أن تثق كلُّ الثقة بأنني معني لها كلُّ العناية، وسأبذل كلُّ ما في وسعي لأقنع (صاحب الأمر) بعدالة هذه القضية. وأنتقل إلى الرسالة الثانية التي تلقيتها منذ أيام من (دمشق) حيث يقول مرسلها الأديب الفاضل عزة عثمان: (أود أن أتقدم بواجب الشكر وعظيم الامتنان، لما أفدته من أبحاثك حول (الفن والحياة). . . لقد تفهمت تماماً - على الرغم مما قاله الدكتور طه حسين - كلُّ معنى قصدت إليه، وقد توارد على فكري وأنا أقرأ ردك على كلمتي الأستاذين طه والحكيم، ما يقول الأستاذ راجي الراعي: (جميلة هي الموجة المقتحمة الهائجة واجمل منها الصخرة التي تردها!) يا صديقي، أشكر لك هذه التحية الكريمة وأقول لك رداً على الأسئلة التي وجهتها إليَّ: إن الترجمة القديمة، خير من الترجمة الجديدة، خير منها من جميع الوجوه التي عرضت لها في رسالتك، وأكتفي بهذا القدر من الإجابة دون التعرض للأسماء حتى لا يحرج بعض الناس! أما عن رجائك في أن أترجم لقراء الرسالة - ولو مرة في كلُّ شهرين - فصلاً أو قصيدة أو قصة أختارها مما بين يدي من نتاج كتاب الغرب، فإنني أجيبك على هذا الرجاء بأنني لا أميل كثيراً إلى الترجمة لأنها ميدان لا تظهر فيه الشخصية الفكرية كما تحب أن تظهر، ولعلك تلمس من كتاباتي أنني إذا قرأت فصلاً من الفصول في الأدب الغربي أو الأدب العربي حرصت كلُّ الحرص على أن أقف منه موقف العارض والمحلل والناقد، وأظنك توافقني على أن الترجمة لا تحقق لي شيئاً من هذا الشغف الذي فطرت عليه! ومع ذلك فأنا أرجو أن أحقق هذه الرغبة يوماً لأنها رغبة صديق.

ولابد من الشكر مرة ثالثة لصاحب الرسالة الثالثة، وهو الأديب الفاضل محمد دويلة من (شرق الأردن). . . يا صديقي إنني أرحب بصداقتك وبكل صداقة يعطرها الخلق والوفاء، وإذا كانت (من الأعماق) و (من وراء الأبد) قد ربطتا بيني وبين كثير من القراء برباط المودة الروحية المتسامية فكم أود أن أكثر من هذا اللون الوجداني ليزداد عدد الأصدقاء المتذوقين. أما الرسالة الرابعة فهي من الأديب الفاضل محمد تميم بمصر الجديدة يقول الأديب الفاضل: (أرسلت إليكم كتاباً طلبت فيه شرح الخطوط الفنية التي درستم على ضوئها إنتاج الأستاذ سهيل إدريس القصاص اللبناني في العدد (834) من (الرسالة)، واليوم أعود فأطالبكم ثانية بهذا الشرح، وأرجو أن يكون وافياً موضحاً بالأمثلة من كتاب القصة عندنا وفي الغرب). إن ردي على هذه الرغبة هو أن بين يدي كثيراً من كتب الأدباء في انتظار النقد وكثيراً من أسئلة القراء في انتظار الإجابة، فإذا أرجأت التعقيب بعض الوقت على هذا الموضوع فأرجو المعذرة!

كتاب جديد للأستاذ أحمد الصاوي محمد:

لست أدري كيف أشكر للصديق الأثير الأستاذ أحمد الصاوي محمد هذه المتعة الروحية الخالصة التي غمرني بفيضها حين أهدى إليَّ كتابه الجديد (بنات). . . إن الذين يعرفون الصاوي كما أعرفه، يعرفون فيه إنساناً يضع قلبه على يديه ليقدمه إلى الناس في غلاف من سمو العاطفة، ومن هنا كان الصاوي في أكثر كتاباته دقات قلب تسبق وثبات قلم، وبخاصة في هذا الكتاب الجديد الذي كنت أود أن أقدمه إلى القراء في هذا العدد لولا ضيق النطاق، فإلى العدد القادم حيث أضعه على مشرحة النقد والتحليل.

أنور المعداوي