الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 837/رسالة الفن

مجلة الرسالة/العدد 837/رسالة الفن

مجلة الرسالة - العدد 837
رسالة الفن
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 18 - 07 - 1949


نظرات في الفن

للأستاذ نجم الدين حمودي

الفنان والطبيعة:

علاقة الفنان بالطبيعة متينة محكمة، فهي مصدر وحيه وإلهامه، منها يستقي عبقريته، ومن جمالها يروي أحاسيسه ومشاعره. ومع أن الطبيعة ينبوع الجمال وموطن الروائع، فهي ليست كل شيء عند الفنان، كما أنه من العبث أن نشبه الفن بتقليد الطبيعة، أو محاكاة الجميل فيها، إذ ليس الفن تقليداً وتشبيهاً، وإنما هو تفسير وتحليل وخلق وإبداع. وليس من المبالغة في شيء أن يقال: يبتدئ الفن عندما يبتعد الفنان عن التزامه لتقليد الطبيعة.

نعم، إن الطبيعة مصدر الجمال ولها أعظم الأثر في عمل الفنان، إلا أنها - كما ذكرنا سابقا - ليست كل شيء عنده. فالفنان في روائعه يضفي على الطبيعة من أعماق نفسه جمالاً يزيد من جمالها، وألواناً من خلقه وإبداعه تكسبها جاذبية وتأثيرا. وإذا كانت السمفونية الريفية لبيتهوفن قطعة فنية رائعة، فهي ليست كذلك لكونها تقليداً لأصوات طبيعية، بل لأن بيتهوفن نفسه استطاع أن يعبر فيها عن احساسات تفتحت من جراء اتصاله وانغماسه بجمال الطبيعة، وتمتعه بنغمات أصواتها الجميلة العذبة، فخرجت تلك الاحساسات، وتفجر ذلك الشعور إلى عالم الواقع بأصوات موزونة ونغمات منسجمة، وبهذه النغمات وتلك الأصوات برزت عبقرية الفنان وقوة خلقه وإبداعه، فجعل من توفيقه بين هذه وتلك قطعة موسيقية رائعة تتوق القلوب لسماعها، وترتوي النفوس من أنغامها وألحانها.

فالابتهاج الذي يغمرنا عند سماعنا السمفونية الريفية، والروعة التي برزت بأجلى مظاهرها في أنغامها المنسجمة الموزونة، لا يرجعان كلية إلى الطبيعة، بل إلى عبقرية بيتهوفن وملكته الفنية.

يشير الأديب الفرنسي أندريه جيد في دراسته للفنان الفرنسي بوسان إلى رأي الكاتب كريستفر مارلو عن أثر الطبيعة في نضوج الفنان فيقول: (يثبت الأستاذ مارلو بأن الباعث على الخلق الفني في كل الرسامين لا يتأتى مباشرة من الطبيعة، وإنما يتأتى من بعض الروائع الفنية التي أنتجها قبلهم عظماء الرسامين الذين حللوا في روائعهم ما في الطبيعة من جمال وفتنة وكمال). ويعلق الأستاذ أندريه جيد على ذلك بقوله: (لا شك أن جمال العالم الخارجي ومظاهره البديعة الخلابة لا يمكنها أن تترك بوسان دون أن تؤثر في مشاعره واحساساته، بل في الحقيقة أن اتصاله بالروائع الفنية القديمة هو الذي دعاه إلى أن يدرك قابليته في الخلق الفني).

نقد الفن:

إن تعذر إيجاد مقاييس عامة لمعرفة المدى الذي تبلغه الروائع الفنية من الكمال، كل حسب نوعه، هو الذي جعل أمر نقد الفنون الجميلة من الصعوبة بمكان عظيم. ويقول الأستاذ أندريه جيد في هذا المعنى: (إن نقد الفنون الجميلة من أخطر أنواع الكتابة، ولم يجد في هذا الباب إلا النزر القليل من الكتاب) ومن الممكن حصر الأسباب التي تجعل النجاح في نقد الفن عسيراً في ثلاثة أمور:

عدم وجود نماذج مثالية تقاس عليها القطع الفنية.

اختلاف الأذواق وتباين النزعات في تقدير القطع الفنية، ومن النادر أن تجد ناقدين يتفقان على أمر واحد بحذافيره.

والسبب الثالث ويتفرع من الثاني، هو صعوبة وجود التجرد التام في الحكم على القطع الفنية.

وكثيراً ما يصدر النقاد حكمهم على قطع فنية عظيمة دون أن يعيروها الوقت الكافي، فيكون حكمهم غير دقيق وبعيد عن الحقيقة والواقع. ويذكر الناقد الكبير كلايف بل في موضوعه (مهلاً أيها النقاد) بأن نقاد الفنون على الرغم من ادعائهم بعدم التسرع في الحكم على القطع الفنية كثيراً ما يقترفون أخطاء جسيمة ويجورون على الفنانين بغير حق.

ويستمر كلايف بل في بحثه قائلاً: (إن بعض القطع من الممكن تذوقها من أول التفاتة يوجهها الناقد إليها، أما البعض الآخر فيستحيل عليه إدراك مواطن الجمال فيها، واكتشاف الأفكار التي تحملها، والبواعث التي دعت الفنان أن يجعل قطعته بهذا الشكل دون غيره ما لم يمعن هذا الناقد في النظر ويتعمق في التحليل).

ويدعم الأستاذ كلايف بل معالجته لهذا الموضوع بأمثلة عديدة لأخطاء جسيمة أقترفها كبار النقاد.

يذكر الأستاذ ماك كول في كلامه عن نقاد الفنون أن هناك نوعين من هؤلاء: النوع الأول وأحسن كلمة نصفهم بها هي كلمة (مراسلون)، وهؤلاء لا هم لهم سوى حشو الصحف والمجلات بكلمات فارغة معسولة عن المعارض التي يحضرونها نيابة عن الصحف والمجلات التي يراسلونها، ومعظم هؤلاء لا يملك المعرفة الكافية التي تؤهلهم لنقد القطع الفنية، فإذا ما عرضت عليهم قطع ترجع في طابعها إلى الفن الكلاسيكي القديم، قالوا: لقد سبق أن صدر الحكم الفن القديم، وإن جادلتهم في معروضات الفن المعاصر، أجابوك بقول: إما ينطوي على عدم الاكتراث، أو يدل على الإطراء والإمعان في المديح.

ويقول الأستاذ ماك كول في هذا: (ليس الفنانون بضاعة يكال لها المديح والإطراء، أو الذم والافتراء، من النقاد حسب ما تمليه عليهم أذواقهم وأهوائهم).

أما النوع الثاني من النقاد، فمنهم من يملك معرفة كافية واطلاعاً واسعاً بالفنون، ولكنهم إلى جانب هذه المؤهلات مدفوعين بعامل التحيز. ولهذا فإنهم ممقوتون من الفنانين لافتقارهم إلى النزاهة في الحكم، وتراهم يختارون من القطع ما لذ لهم، ويجعلونها هدفاً لصب معلوماتهم، كأنه لا فرق بين القطع الفنية الرائعة والمواد الأولية التافهة.

نجم الدين حمودي

سكرتير مجلة سومر - بغداد -