مجلة الرسالة/العدد 837/المتنبي
→ أمم حائرة | مجلة الرسالة - العدد 837 المتنبي [[مؤلف:|]] |
صور من الحياة ← |
بتاريخ: 18 - 07 - 1949 |
للأستاذ راجي الراعي
تمر الأجيال بالمتنبي فلا تجسر أن تلقي عليه ستار النسيان وتتابع السير في طريقها فيستوقفها لتنشد الشعر؛ شعره الذي نظمه كله ليرويه له الدهر فتروى له بعضه والموتى من حوله واقفون إجلالاً والخلود يلقي ظلاله وينصت فخوراً طروباً. . .
وليس من السهل أن تنطفئ شعلة أضرمها المتنبي. ومن يزر ضريحه يشهد فوقه كل يوم صراعاً دامياً بين الموت والخلود يقع بعده الموت في كل مرة قتيلاً يتشحط في دمه. . . أن الموت يخاف الشاعر العبقري ويحسب له حساب خلوده. وهو إذا أتاه أتاه مكرهاً قياماً بوظيفته التي لا تعرف الإقالة والاستقالة، وكل ما يستطيعه الموت هو أن يوقف حركة القلب الواحد الخفاق في صدر الشاعر العظيم. أما القلوب الأخرى التي يحملها فتظل على الرغم من الموت والفناء حية نابضة في صدور قصائده. . .
هاهو ذا المتنبي الذي قال الشعر لينشده الدهر، يقف أمامي في ساحة الموت في نبوته التي لم تشهده نبياً أتحدث إليه أو أتحدث عنه كأن ابن أبي جهل لم يضربه تلك الضربة التي حسبها قاضية ولم تقض له أمراً. . . وإذا كنت قد فكرت في المتنبي وناديته في عالم الأرواح لأراه واحييه وأقول كلمتي فيه والناس لا يحتفلون بذكراه التي مضى يومها، فذاك لأني لا أحب أن أتقيد بما يتقيد به الناس وهم يحتفلون بموتاهم ويحددون لاحتفالاتهم البرامج والمواعيد. فالميت الحي الكبير ماثل أمامي في كل حين أناجيه ويناجيني. وليس للمتنبي يوم خاص لذكراه ثم تطوى صفحته، إن له علينا حقه الكبير كلما أشرقت هذه الشمس وغابت بالأشعة من شاعريته. ومن أخلص لمن أحبه وقد هيل عليه التراب دفعه الحب والوفاء إلى رفع الغطاء عن ضريحه بين الحين والحين ليرى وجهه ويشعره أن يد الموت قد قصرت عنه. . .
وبعد فمن هو المتنبي؟ من يكون هذا الجبار الذي تهيبه الردى فارتد عنه؟ إنه يطربنا، فما هو هذا الذي يطربنا به؟ وهل كل ما فيه يطرب؟ وكيف رفع بناءه؟ وهل من صدوع في ذلك البناء؟ وما هي وأين هي؟ ما هي نقطة الاحتراق التي التقت فيها أشعته؟ قال بعضهم إنه أشعر الشعراء؛ ولكنني لا أذهب إلى هذا الحد، فلا محل لأفعل التفضيل. كتاب الشعر ودولة الشعر لا تعرف لها ملكاً واحداً؛ وإنما هي عروش وإمارات متفرقة. وصولجان الشعر أكبر وأرفع من أن تقبض عليه يد واحدة ولو كانت يد هوميروس. . .
لكل شاعر لونه وصوره ومجاله؛ والألوان والصور والمجالات كثيرة، فما هو مجال المتنبي؟
هو شاعر القوة والطموح والكبرياء، يطاعن خيلاً من فوارسها الدهر، ويقدم إقدام الأتي كأن له سوى مهجته، ويعلن أنه (إذا قال شعراً أصبح الدهر منشدا) وأن (الخيل والليل والبيداء تعرفه والسيف والرمح والبيداء والقلم) ويجري القسمة على هواه (فله النفوس وللطير اللحوم وللوحش العظام وللخيالة السلب) وليته أبقى للخيالة غير هذا الدور ولم يدخل السلب في هذه القسمة التي تخيلتها البطولة.
هو سيد الأولمب وشقيق المشتري ورب البادية والسيف والقلم. هو القوة بكل ما فيها؛ ولكنها قوة لم تتعد عالم خياله. أرته فيما أرته النبوة؛ فلما عاد من تحليقه إلى الأرض والتفت حوله لم يجد المحراب ولا المصلين. . نبي وهم وخيال؛ غير أن هذا الطموح إلى ذروة الذرى نفخ في شعره الروح التي نهتز لها؛ ولولاها لما استطاع أن يأتينا بروائعه. . . إن الكبرياء شيء لا غنى عنه للفنان الكبير، فهو يقيم على قاعدتها تماثيله الفنية. .
هو الشاعر الذي يدور في شعره حول كلمة هي (أنا)، وقد تمركزت في رأسه وتزعمت، وللرأس زعامته، فدارت حولها الصور النفسية الأخرى. ولو أن المتنبي نظر إلى العظمة دون أن ينظر إلى نفسه لكان شعره أبلغ أثراً في النفوس، فكلمة (أنا) وإن نبعت من أعماق طبيعة الإنسان لا يلتف حولها الخلق، وهي تشير إلى المتكلم، التفافهم حول العظمة العامة الشاملة. . . إن تغنيك بعظمتك شيء وتغنيك بالعظمة شيء آخر. . وقد خيل إلى البعض إن المتنبي نسي تغنيه بنفسه عندما راح ينظم القصائد لسيف الدولة وضد الدولة وابن العميد وكافور، ويرفعهم بمدائحه إلى الأوج طمعاً في المال الذي كانوا يغدقونه عليه، وتسائلوا عن عظمته وهو بين أيديهم. والحق أن المتنبي أنفق الكثير من عبقريته في هذه السوق الملكية الرابحة بدلاً من أن يقول الشعر للشعر ويقيم هياكله للفن وروحانياته. غير أن من نظر إلى البيئة التي نشأ فيها والى العقيدة العربية وسلطان الملوك في عهده وقدرهم قدر الشعراء لا يرى في مدائحه لملوكه ما يغض من عظمته التي كانت تظل مكانها لو أنه كف عن هجائهم يوم كانوا يقطعون عنه الصلات. . .
المتنبي شاعر الخيال قبل أن يكون شاعر العاطفة؛ فخياله أكبر من قلبه. إن بدائعه صور تصيبك بدوار الإعجاب، ولكنك لا تسمع فيها صراخ القلب ونحيبه. ولعل طموحه وتعاظمه شغلاه عن الدمع فلم يأت به غزيراً محرقاً، وعن دم القلب الجريح فلم يره إلا على شفار السيوف، وحولاه عن المرأة مع مالها من سلطان وصدر أرضع الشعراء في كل زمان ومكان فلم يقف عندها طويلاً، في حين إن أبياته فيها حين كانت تستوقفه في سيره إلى العظمة لا تنحط عن سائر ديوانه، بل هي أشد ما فيه روعة وقد فاض بها القلب. وهل أجمل من قوله:
تناهى سكون الجسن من حركاتها
وقوله:
أتراها لكثرة العشاق ... تحسب الدمع خلقة في المآقي
وقوله:
نرى عظما بالبين والصد أعظم ... ونتهم الواشين والدمع منهم
ومن لبه مع غيره كيف حاله ... ومن سره في جفنه كيف يكتم
ولما التقينا والنوى ورقيبنا ... غفولان عنا ظلت أبكي وتبسم
فلم أر بدراً ضاحكاً قبل وجهها ... ولم تر قبلي ميتاً يتكلم
ليت المتنبي وقف طويلاً عند هذا الوتر من قيثارته! كان لامرئ القيس عنيزة، ولطرفة هريرة، ولمجنون ليلى ليلاه، ولجميل بثينة، ولأبنأبي ربيعه الثريا، وللبحتري علوة. أما المتنبي فقد كان عالياً على الحسناء، (علوته) العلياء. . .
ولا نرى المتنبي يشرب الكأس التي نعرفها للشاعر وخمرته وانما كانت كأسه كأساً صب فيها بدل الخمرة مجداً سكر به فلم يسأل عن الخمار والخمرة ولم يقل فيها وحولها شعراً لا سراً ولا جهراً، وكم من شاعر استعان بها لتثير ما كمن في صدره وتطلقه حمماً ومعجزات. كان شاعر الخمرة التي لا كأس لها، شاعر العروش التي لم يشأ أن يجلس عليها المرأة وهي التي تقيمها. . .
ليس المتنبي مع إبداعه بالشاعر الوجداني الروحاني؛ فاعتداده بنفسه ومزاجه وبيئته، وحبه للمال، وبريق سيوفه وهزيم رعوده وصهيل خيوله وروعة أوتاره أقصته عن تلك الأصوات والهمسات التي تأتي من الأعماق فلم يسمعها؛ فهو يمدح ويهجو ويرثي ويصف ويفخر ويتغزل ويطلق الحكم، ولكنك لا تحس في ذلك كله تلك الخلجات والرعشات التي لا يعرفها غير الإحساس المرهف الدقيق الصارخ القاطر دماً ودمعاً، القائم بين الحيرة والاضطراب والذهول والوجد. . كان شاعر الحس والمادة لا شاعر الروح والروحانية. . وكان شاعر الحكمة التي تكاد تحتل قمة شاعريته، وكأنه شعر بذلك فقال: أنا وأبو تمام حكيمان والشاعر البحتري.
إن الحكم والأمثال التي أطلقها هي الدعامة الكبرى التي قامت عليها شهرته فقد تداولها الناس وحفظوها لأنها تعبر عما تنطوي عليه صدورهم، وهي حكم وأمثال معروفة دونت قبله بأجيال فلا إبداع فيها، ولكنه عرف كيف يصوغها في قالب جديد.
إن في شعر المتنبي روعة الصور التي يجيش بها الخيال الخلاق وهو اليد التي تشير إلى العبقرية. وقول القائلين أنه سرق بعض شعره قول فيه الكثير من الجور والتعسف؛ فشاعر يأتيك بقوله:
وتكاد الظبي لما عودوها ... تنتظي نفسها إلى الأعناق
وقوله:
كأنها الشمس يعي كف قابضة=شعاعها ويراه الطرف مقترباً
وقوله:
وخص تثبت الأبصار فيه=كن عليه من حدق نطاقاً لا تنسب إليه السرقة في الشعر. ويكفي أن يأتي الشاعر ببيت واحد يدل على الإبداع حتى يقال إن فيه منجماً من ذهب. .
على إن كل ما قذفت به أرحام المتنبي ليس بالرائع العجيب. فبينما تسمعه يقول:
أمعفر الليث الهزبر بسوطه ... لمن ادخرت الصارم المصقولا
إذا بك تقع على قوله:
جفخت وهم لا يجفخون بها بهم ... شيم على الحسب الأغر دلائل
وقوله:
هذي برزت لنا فهجت رسيسا ... ثم انصرفت وما شفيت نسيسا وقوله:
لو استطعت ركبت الناس كلهم ... إلى سعيد بن عبد الله بعراناً
إلى ما هناك من هذا الطراز.
لو كان تعاظم المتنبي سمح له بأن يضحي ببعض ما نظم لزاد عدد ملوكه وقل حجابه. . . وحبذا لو اختير الملوك في شعر المتنبي وجمعوا في قاعدة واحدة فيتجلى سلطانه على غير الوجه الذي يعرفه الناس. هذا الكتاب الذي يجمع ملوك المتنبي وجواهره دون الحجاب والأصداف تطالب به المكتبة العربية وهو روح ديوانه! وهو ديوانه الحقيقي الذي لا أرى له في غيره روقين ينطح بهما النجوم ودهراً يروي له القصائد وينشد. . .
راجي الراعي