مجلة الرسالة/العدد 836/مصطفى كمال الزعيم التركي
→ أنا 000 والموت! | مجلة الرسالة - العدد 836 مصطفى كمال الزعيم التركي [[مؤلف:|]] |
صور من الحياة ← |
بتاريخ: 11 - 07 - 1949 |
بقلم الكونتسفورزا وزير خارجية إيطاليا
للأستاذ أحمد رمزي بك
- 1 -
منذ أشهر لمع اسم سفورزا في الحفل السياسي الدولي وقد قلت أن مثله قليل في الساسة، وهو يذكرني بكافور ومدرسته، الذي حقق الوحدة الإيطالية، فإذا تبنى سفورزا عودة المستعمرات لإيطاليا فهو خصم جبار لا يستهان به0 وإذا أردت أن تعلم من هو هذا الجبار فاقرأ له.
هذا بحث قديم عثرت عليه بين أوراقي، وأغلب الظن أنني كتبته في عام 1927 حينما كنت أشغل وظيفة سكرتير قنصلي بمدينة تريستا، بإيطاليا، ولم يكن لدي من العمل أو من العبث ما يشغلني عن مثل هذه الأبحاث.
أعرضه على قراء الرسالة ليرو ناحية من نواحي ساسة الغرب حينما يتكلمون عن الشرق وأهله: فأن لنا في كل هذا ذكرى وعبرة.
أحمد رمزي
من الغريب أن كتب التاريخ الحديث المستعملة في المدارس الإنجليزية والفرنسية والإيطالية لا تزال تلقن الأطفال الذين ولدوا بعد الحرب العظمى أن تركيا من الممالك التي قهرها الحلفاء وفرضوا إرادتهم عليها، مع أن الحقيقة بخلاف ذلك لأننا إذا حاولنا التفرقة بين الغالب والمغلوب، رأينا أن الغالب هو الذي خرج من الحرب بمعاهدة حصل فيها على كل مطالبه، والمغلوب هو الذي فقد كل مصالحه وتنازل عما يدعيه من الحقوق التي كانت له قبل الحرب في بلاد الآخر.
فمن من الطرفين الذي حصل على مطالبه، الحلفاء أم تركيا؟ لا نزاع في أن تركيا هي التي وصلت إلى كل ما تطلبه من الحلفاء 0 وقد حصلت على ذلك بعمل رجلها مصطفى كمال.
عرفته لأول مرة وهو شاب في الثامنة والعشرين من عمره وذلك في سنة 1908 حين كان يشغل وظيفة أركان حرب محمود شوكت باشا قائد الجيش التركي الذي زحف على استنبول وأجبر السلطان عبد الحميد على منح الدستور لرعاياه. وكان شوكت باشا في ذلك العهد آلة بيد جماعة الاتحاديين في سلانيك تلك المدينة التي كانت مركز الثورة والتي تمخضت عن فكرة الانقلاب والاستيلاء على الحكم، والتي اشتهر أهلها المسلمون بنزعاتهم الوطنية في تاريخ الانقلاب التركي. وقد نشأ مصطفى كمال بتلك المدينة وتشبع فيها بأفكار جماعة الأحرار، وسرعان ما صار أحد خطبائهم العاملين على نشر الأفكار الثورية الحديثة بين الضباط في الجيش
والذي يفسر لنا اختيار شوكت باشا إياه ليكون رئيساً لأركان حربه رغم حداثة سنه هو أن شوكت لم يكن عضواً بأحد الألواج المركزية لجماعة الثورة فاختار مصطفى كمال ليجتذب إليه ثقة أصحاب النفوذ في الحركة ويفهمهم باختيار أحد المتحمسين لهم أنه مُسلِّم بأفكارهم متبع لخطتهم.
وقد تمكن مصطفى كمال بعد أثنى عشر عاماً مضت على هذه الحوادث أن يصير رئيساً مطاعاً في أمته ذا كلمة نافذة على الجيش ورؤسائه - ثم انتهى بعد ثلاث سنوات إلى تقلد رئاسة الجمهورية التركية - ويعد هذا نجاحاً عظيماً لأي شخصية ولو كانت وليدة عصر مملوء بالانقلابات والثورة.
أنني مع ثقتي التامة بالنواحي الظاهرة مع شخصية مصطفى كمال مثل همته المقرئة بالإقدام وشجاعته المقترنة بالتحوط والانتباه أرى عدم إغفال الإشارة إلى العامل الأساسي الأول الذي دفع به إلى قمة النجاح، وهو عمل السياسة الإنجليزية في تركيا بعد الحرب؛ لأن مصطفى كمال وأنصاره ما كأنة بوسعهم أن يفكروا أو يصلوا إلى عزل السلطان وحيد الدين أو الذهاب إلى أنقرة والعمل على تحطيم معاهدة سيفر المشؤومة - بغير حدوث الأغلاط التي ارتكبتها السياسة الإنجليزية في بلادهم.
وأنه لجدير بمصطفى كمال أن يتخذ دوننج استرليت حيث كان يقطن لويد جورج كعبة ينحني أمامها لأنها كانت سبب صعود نجمه السياسي.
وفعلاً قد اعترف بذلك رجال إنجلترا الرسميون؛ ولا أريد بذلك لويد جورج الذي لا يكتب ولا يبوح - وإنما أقصد ونستون تشرتشل الذي اعترف بهذا في كتابه عن مفاوضات الصلح -
وطبيعي أني لا أقصد بكلامي هذا مناقشة وتحقيقما تم في هذا العهد الذي انتهى بالتسليم بوجهة النظر التي لمستها من أول الأمر وشرحها من المبدأ بطريقةإيجابية للجهات المسؤلة.
انتهت حالة الحرب معتركيا بهدنة مدروس التي تم التوقيع عليها على ظهر بارجة إنجليزية في 30 أكتوبر سنة 1918 ولم ينص في بنودها على شروط خاصة بنزع السلاح ولا تسريح الجيش بشكل قطعيولا على العقوبات التي كان يجب أن توقع على الرجالالمسؤولين الذين باعواضمائرهم لدول الوسط
ولما كانت فكرة تقسيم تركيا بعيدة عن الأنظار في ذلك العهد ولم يكن أحد متوقعاً لها - وإن كانت السياسة الإنجليزية أعلنها بعد ذلك وجعلتها غرضاً من أغراضها - لذلك لم تتخذ الاحتياطات اللازمة لتنفيذها ولم ينص على شيء من ذلك في عقد الهدنة. وهذا يدهش طبعاً العقلية الألمانية أو الفرنسية التي اعتادت التفكير بشكل منطقي منظم يتطلب النظر والاستعداد لكل حالة بعد وقوعها، ويجعل الكثيرين حيارى أمام التغيرات التي تطرأ على السياسة الإنجليزية بل تجعل بعضهم يرمونها بأنها دائماً مقترنة بنكث العهود مع أن الحقيقة أن هذه التغييرات هي نتيجة للتسرع في العمل أمام حالات طارئة، وهذا التسرع تستدعيه طبيعة القرارات التي توجه السياسة لجهة معينة بغير الدخول في التفاصيل التي يترك لمقتضى الأحوال تكييفها أو تسييرها
قررت الحكومات الثلاث لدول إنجلترا وفرنسا وإيطاليا بعد عشرة أيام من إمضاء الهدنة تعيين ثلاثة مندوبين ساميين لتعهد مصالحها في تركيا، فعينت إنجلترا الأميرال كالثروب الذي عقد الهدنة مندوباً لها، وعينت فرنسا الأميرال أميت قائد أسطول الشرق، وتعينت أنا مندوباً عن إيطاليا فسافرت لتسلم عملي عن طريق كورفو، وسافر معي جزء من الأسطول إلى استنبول.
ولما وصلنا تبين لنا أن الآلة الحكومية التركية قد تعطلت وفقدت سلطتها فأصبح من المحتم علينا تحمل عبء الحكم مؤقتاً انتظاراً لما يقرره مؤتمر الصلح في باريس.
وكانت القوات البحرية الراسية في البوسفور والقوات البرية المعسكرة في تركية الأوربية كفيلة بضمان تنفيذ ما نقرره في كل جهة. وكما نعقد كل أسبوع اجتماعاً في إحدى السفارات الثلاث تحت رئاسة المندوب المجتمع في داره - وكان لتركيا في ذلك العهد صدر أعظم يعمل في الباب العالي، وسلطان يقيم في سراي ضولمة باغجة - ولكن لم يكن هناك من يهتم بهما لأن طلبات المعونة والحماية والتعويض كانت كلها تقدم لإحدى هذه السفارات كأنها الجبهة أو السلطة صاحبت الشأن في البلاد، وكان عملنا سائراً لا تشويه غيرة أو تنازع على المصالح، وإنما بإنفاق تام ساعد عليه كثيراً تآلفنا الشخصي.
وكنت قد استحضرت معي علماً إيطاليا من إحدى البوارج أسرعت برفعه على دار السفارة بعد أن قمنا بتحية إنزال العلم الأسباني الذي كان يرفرف عليها طوال مدة سنوات الحرب الطوال، وما كادت الموسيقى تعزف ألحان النشيد الوطني الإيطالي حتى اجتمع عدد كبير من الأهالي مكون من يونان وأرمن ويهود وبعض الترك، الذين لم يظهر عليهم أي مظهر عدائي نحونا.
لقد أقتنع كثيرون من أن حملة الدردنير كانت نكبة من الوجهة العسكرية لما سببته من النتائج الخطيرة التي أطالت مدة الحرب، ولكنني تيقنت من ذلك حينما أقمت باستنبول بعد الهدنة لما علمته من السلطات التركية من أن القواد الترك دهشوا لما رأوا انسحاب القوات البحرية في الوقت الذي بدأت فيه قوى المدافعين تخذلهم - فكأنهم لم يشعروا بانتصارهم إلا بعد انسحاب عدوهم - وهذا دليل جديد على أن العامل النفسي هو أساس كل انتصار حربي.
وقد دهشت كثيراً عند وصولي استنبول وبعد زيارتي لبروسية من وفرة المؤن والمحاصيل الغذائية في البلاد، لأنإيطاليا تأثرت كثيراً من حالة الضيق التي كانت فيها مدة الحرب 0 ولعلمي بوجود جالية إيطالية كبيرة في تركيا، كنت أنتظر أن أجدها في شبه مجاعة، فاستحضرت من إيطاليا كميات كبيرة من الدقيق لتوزيعها على أفراد الجالية - ففوجئت حينما علمت أن الجالية ليست في حاجة إلى شيء من المعونة وإن أفرادها يفضلون الدقيق التركي الممتاز ببياض لونه ونقاوته على الدقيق الإيطالي - وعلمت من ذلك أيضاً فداحة ما تحمله الحلفاء بسبب إخفاق حملة الدردنيل؛ ولكن الماضي قد انتهىالآن وليس أمامنا مواجهة الحقائق التي أمامنا.
أقنعتني هذه الحقائق منذ البداية أن تركيا لم تكن قد ماتت بل بالعكس كانت الحكومة المركزية تمثل وحدها الجزء الفاني المحطم في البلاد، أما تركيا الحقيقية فكانت موجودة يستطيع من يريد أن يلمسها، فكان في اعتقادي من خطل الرأي محاولة تضييق حبل الخناق كثيراً - لأن في تضييقه انتقال تركيا إلى آسيا وبقاءنا نحن في استنبول وسط بلد مهجور.
هذا الري الذي كونته لنفسي عن الحالة والمستقبل بادرت بإخبار حكومتي به وأبلغته في نفس الوقت إلى مؤتمر باريس. وصارحت روما بأنني لا يسعني أن اخدم بلادي الخدمة الحقيقية إلا إذا حصرت الجهد كله للوصول إلى صلح عاجل يعطي إيطاليا كل المزايا الممكنة في الأراضي التركية بشرط الإقلاع عن أي فكرة ترمى إلى القضاء على وحدة البلاد.
ولم أكن أجهل المشروع الذي وضع لتقسيم الأراضي التركية إلى مناطق نفوذ بين الدول، وأعلم أيضاً أن هذا المشروع يوافق هوى الدوائر الرسمية في باريس، ولكني لم أعطي نفسي حق الوقوف عند ذلك - بل تيقنت أن رأيي هو الذي يلتئم مع الحقائق التي أمامي، وأن من الواجب علي لمصلحة بلادي أن أصارحها به لعلمي أنه يغلب في النهاية أن يكون الرأي المتبع.
وكنت أنتظر من الحكومة استدعائي من مركزي بعد تصريحي بهذا الرأي ولكن لم تبد من جهة أورلاندو ولا سونينو (أولهما رئيس الوزارة والثاني وزير الخارجية) أي بادرة لمعارضتي في هذا الرأي مما دل على موافقتهم لي ضمناً - وإنما كتب لي سونينو بعد ذلك، أنه إذا أظهرت الأيام فساد هذا الرأي وعدم مطابقته للواقع فأنه سيترتب على ذلك تنصل الحكومة الإيطالية من تبعة أعمالي وإعلانها عدم موافقتها على سياستي.
وكان السلطان ضعيفاً لا يقر على رأي حتى ينقضه مهتماً بمستقبل عائلته أكثر من اهتمامه بمستقبل بلاده وشعبه. وكان مظهره وحركاته مثلاً تاماً لسليل عائلة انتهى عملها وظهرت بوادر فنائها.
واختار له وزيراً أول الداماد فريد باشا؛ وهو كما يدل عليه أسمه صهر للبيت المالك بزواجه من الأميرة خالدة، وهو مثل لما تفرغه التربية الإنجليزية في عقلية شرقية، لأنه أنم دراسته في أكسفورد وتأثر في ذلك فخرج صورة تامة للجنتلمان الإنجليزي.
ولما كانت الدوائر التركية في سبات تام لا تبدر من جهتها بادرة حياة، اقتنع الرجال المنوط بهم الاتصال بلويد جورج وكيرزون أن تركيا قد أصبحت طوع أيديهم وفي وسعهم أن يفرضوا عليها ما تشاء أهوائهم - ويرجع معظم الخطأ إلى هؤلاء الأفراد وممثليهم ودعاتهم ومأجوريهم أبوا من المبدأ أن يتصلوا بأي فرد من الترك الذين تكونت منهم النواة الأولى لحكومة أنقرة - وقد ساق لي الحظ مقابلة بعض هؤلاء الترك في منزل مهندس إيطاليا والتحدث إليهم في نادي (السير كل دوريان) تحت أنظار زملائي الذين اشمأزوا من ذلك.
وقد شعرت من أول وهلة أن هؤلاء الرجال لم يحاولوا قط تضليلي بل فاتحوني بصراحةتامة قائلين أنه إذا اشتدت الحال ببلادهم ففي وسعهم أن يحافظوا على استقلالهم مهما كلفهم ذلك ولو بانسحابهم جميعاً إلى آسيا.
ولذلك لم أتردد في اليونان أن أصرح برأيي حينما أبلغني الأميرال كالثروب في 12 مايو سنة 1919 قرار مؤتمر باريس القاضي باحتلال لأزمير - من أني مقتنع تمام الاقتناع أن مسائل الشرق الأدنى ستزداد تعقداً وقد تدخل دوراً مملوء بالحوادث الفاجعة - ولكن الأوامر التي صدرت إلينا كانت قاطعة ولم يكن هناك مناص من إطاعتها وتنفيذها.
وقد تم إنزال الجنود واحتلال المدينة بالشكل الذي كنت أتوقعه أي بعمل حربي مجرد من القتال ولكن مقرون بالدماء. وقد اتضح لي خطأ أتيناً في اليوم الذي احتفلت برفع علمها الأزرق على قلاع أزمير بعد معركة تمثلت فيها البطولة كما نقلت إلينا البرقيات في حينه.
وكانت الجنود التركية وقت مباشرة الاحتلال بواسطة القوات اليونانية ملازمة لقشلاقتها، مطيعة للأوامر التي صدرت إليها من الحكومة وحملها رسل من طرف الداماد مؤكدين بان الاحتلال مؤقت وسترون في القريب - وكانت المدينة خالية من أولئك الفدائيين الذين ظهروا في كثير من جهات آسيا الصغرى وقدموا حياتهم بشجاعة خارقة للعادة فداء للوطن التركي.
فمن المسئول إذن عن أول طلقة وجهت من ناحية الثكنات؟
أكد لي بعض المكلفين باستقاء الأخبار أن مطلقها أحد المهيجين اليونان بقصد إثارة الفتنة والمذابح. فإذا كان هذا صحيحاً فمن المؤكد أن حكومة (أتينا) بعيدة عن إرسال أوامر بمثل هذه الأعمال التي تصدر غالباً - وفي كل البلاد بدون استثناء - من عمل بعض الرجال العسكريين المتحمسين لدخول معركة لا يكلفهم الانتصار فيها شيء.
وقد كان احتلال أزمير وخيم العواقبلأن الأمل الضعيف الذي كان باقياً في توطيد الحالة وإيجاد حل يقبله الطرفان قد انتهى بارتكاب هذا الخطأ - والأخطاء في عالم السياسة كالذنوب لدى الأفراد تأتي تباعاً ويجر بعضها بعضاً.
أحمد رمزي