الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 836/قصة الحياة

مجلة الرسالة/العدد 836/قصة الحياة

بتاريخ: 11 - 07 - 1949


(إلى روح صديقي محمود، الذي رحل إلى عالم الخلود)

للأستاذ صبحي إبراهيم الصالح

كنت في الحديقة ساعة الأصيل أتفيء شجرة وارفة الضلالمتأملاً سفيرها المتأثر بين قدمي ومن حولي؛ ثم التقطت منه - على غير شعور مني - ورقة صفراء يابسة ففركتها بين إصبعي، وهفت الريح فأطارت ما في يدي مع الغبار، وتركتني أهيم في تفكير طويل!

ولكن. . . لشد ما آلمني تفكيري، وأرهف حسي وشعوري!

لقد تلوت (قصة الحياة) تحت هذه الشجرة وشهدت تمثيلها الخاطف العجول؛ ولقد كانت القصة مأساة بثقت لها عيناي، وكان تمثيلها مؤثراً حرك حزني وأساي. . .

رأيت الحياة - في هذه المأساة - نبتة نزل عليها الغيثفأخرجت شطأهاوهاجت وترعرت، ثم استوت على سوقها وأينعت وأثمرت، ثم علا رأسهافأغصنت وأفرعت، ثم اضحت شجرة فأخصبت وأمرعت، فجنى ثمارها الخاطفون، واستورف ظلالها العابرون.

على أن الرياح - وا أسفاه - استطالت عمر هذه الشجرة فهوت عليها، وحطمت أفنانها، وذرت أوراقها، وأتلفت ثمارها، وأنذرتها فناء قريباً!

ولبثت الشجرة حائرة في مهب الرياح، ترى أوراقها تذوي فلا تملك إلا النواح

تلك فصول هذه (القصة) تلوتها وشهدت تمثيلها تحت هذه الشجرة: فلم أربعد اللعب واللهووالزينة، وبعد البهجة والفرح والمسرة، وبعد التكاثر والتنافس والتفاخر، إلا ضعفاً وعجزاً ومرضاً، وكهولة وشيخوخة وموتاً.

ولم أر أنفسنا إلا أوراقاً على أغصان هذه الشجرة، غير أن هذه الأوراق مختلفة الألوان والأحوال، فمنها الخضراء الناضرة، ومنها الصفراء الشاحبة، ومنها التي أوشكت أن تصوح، ومنها التي تساقط أسفل منا ونحن لا نشعر!

وقلت في نفسي وأنا أستعيد في خيالي فصول هذه القصة: (كما فركت بين إصبعي وأنا لا أبالي تلك الورقة اليابسة المسكينة يفرك الدهر الجبال بين إصبعين من فولاذ أوراقنا الجافة بغير اكتراث.

ومرت بي آنئذ - في لمح البصر - صور عزيزة لا تنسى، وذكريات قريبة لا تمحى، لبعض أصدقائي الأوفياء، وأقربائي المحبوبين الذين أبى الدهر أن يؤنسني ببقاء أوراقهم على الغصن الذي أورقنا جميعاً عليه، فأختطفهم وأرسل عليهم ريحاً صرصراً جعلتهم كهشيم المحتظر!

وبكيت لأول مرة في حياتي بكاءً مراً - وما عهدت نفسي بكاء ولا مدامعاً - لأني فكرت في العالم المجهول الذي سيق إليه أحبابي وأصحابي، وخشيت ألا يجدوا فيه روحاً وريحاناً، لا لأني في شك من الخلود، ولكن لأن بعض أولئك الأعزة الذين فارقوني لم يتح لهم من الزمن ما يستعدون معه من الرحيل، ويتأهبون خلاله لسفر طويل، إذ جفت أوراقهم واصفرت بعد اخضرارها بقليل. . . وكان (محمود) أخر من أسرع إليه الجفاف من أصحابي؛ ولقد والله كان انضرهم وجهاً وأحلاهم مبسماً، وأنداهم حديثاً، وأنسهم مجلساً، وأرقهم شعوراً، وأنبلهم عاطفة، وأطهرهم قلباً، وأصفاهم نفساً، وأعفهم يداً، وأصدقهم لساناً، وأكثرهم تواضعاً؛ وكنت أحسبه أطولنا عمراً، وأنساناً أجلاً، وأرغدنا عيشاً لكن الموت عدا على (محمود) وهو في ربيعه الخامس والعشرين - ما يزيد عني سوى عامين - فدفنه كنزاً ثميناً، ودفن معه آماله الكبيرة. . . فكيف أبقى صامتاً لا أرثيه، أم كيف أضل جامد العين فلا أبكيه؟!

وفيما أنا مستغرق فيما يساورني من الأفكار، هزت الريح الشجرة كرة أخرى، فتناثرت أوراق تتري، فأسرعت أفتح لها حجري كأني وددت لو أتلقاها وأحول دون سقوطها على الأرض ووطئها بالنعال، بيد أنها آثرت جميعاً أن تتقبل نهايتها وتقع على الأرض إلا ورقة واحدة كان نصيبها حجري، وانحنيت لألتقط أخواتها وأنا شاعر بأني أحبي أنفاساً توشك أن تموت، وإذا بالورقة نفسها تسقط أثناء انحنائي فأسحقها بقدمي على غير إرادة مني، فعدلت عن التقاط الأوراق الباقية، وأيقنت أن لن يؤخر الله نفساً إذا جاء أجلها، وأننا لا نملك لأنفسنا نفعاً ولا ضراً، ولا نملك موتاً ولا حياة ولا نشوراً، وأننا أوراق في مهب الرياح، لا ندري كم تبقى نضرتنا، ولا نعلم متى نصفر فنموت!

وحينئذ فاضت معاني الإيمان في قلبي، واستطاعت هذه المعاني على سذاجتها وبساطتها ونفورها من التعقيد أن تلهمني الصبر، وتوحي إلي الرضى والسكينة، وهي تهمس في أُذني آية خالدة صورت (قصة الحياة) أروع تصوير: (وأضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرضفأصبح هشيماً تذروه الرياح. . . وكان الله على كل شيء مقتدراً).

صبحي إبراهيم الصالح