الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 834/مالتوس ومشاكل السكان في العالم

مجلة الرسالة/العدد 834/مالتوس ومشاكل السكان في العالم

مجلة الرسالة - العدد 834
مالتوس ومشاكل السكان في العالم
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 27 - 06 - 1949


للأستاذ فؤاد طرزي

(بقية ما نشر في العدد الماضي)

لا يتوقع إلا قلائل من الباحثين إمكان الوصول إلى قانون عام في موضوع نمو السكان ينطبق على الشعوب وفي كل الأزمان؛ ولهذا تحتل اليوم مشكلة التوازن القسم الأكبر من أعمال الباحثين في مسائل السكان وفي مسائل المواد الغذائية على السواء. ولكن فروض مالتوس كانت بمثابة فتيلة ظلت متقدة طوال عصور التاريخ من حين نشر هذا العالم نظريته. وإذا كان هناك من يميل إلى إنكار هذه الفروض فيجب عليه تبعاً لذلك أن يطلع على الملاحظة الدقيقة التي أثبتها لينارد هوبوس والتي قال فيها (إن نظرية مالتوس ذاتها كانت من جملة الأسباب في هزيمة تنبؤاتها فقد كان فحواها أن السكان يتزايدون بسرعة فائقة في الوقت الذي تجري فيه عمليات غير مباشرة تعمل للحد من هذه الزيادة).

ويظن علماء الإحصاء اليوم بأن نظرية مالثوس تكون أكثر نفعاً متى اعتبرت على ضوء صلتها بعصور الدورة الإحصائية العالمية وهي العصور التي تمثل مراحل مختلفة مرت بها شعوب ومناطق مختلفة. وقد بذلك فرنك نوتستين ومساعدوه في جامعة برنستون جهوداً كبيرة لاكتشاف هذه الدورة وترتيب هذه المراحل كما يلي: المرحلة الاحتمالية، والمرحلة الانتقالية، وتمثلت في التجربة الأوروبية الغربية التي شهد مالثوس قسما منها، ومرحلة الهبوط الأولى، (وهذه المرحلة لم ترد في نظرية مالثوس).

يخمن الأستاذ نوتستين بأن ما يقارب نصف سكان العالم هم اليوم في مرحلة النمو الاحتمالي بالقياس إلى العصور الإقطاعية. وإن الشرق الأدنى وجميع آسيا (باستثناء اليابان والاتحاد السوفيتي) والبلدان المتأخرة في جنوب ووسط أميركا لا تزال، مع بعض الاختلافات، في هذه المرحلة التي سبقت عهد مالتوس. فهناك ولادات كثيرة ولكن عدد السكان لا يزال ثابتاً بسبب ارتفاع معدل الوفيات. وهذه هي البلدان التي يمكن إنقاذ النفوس فيها بالوسائل الطبية والصحية ولا يمكن فقدانها إلا بسبب الفقر والمجاعة وفق طريقة مالتوس الأصلية. ومع أنه من الصعب أن نشرح بأي قدر من الدقة الظروف التي تحيط بشعب ما وتؤدي إلى انعدام الطرق الإحصائية الحديثة فيه، إلا أنه من المحتمل اتخاذ الصين كمثل لتقلبات إحصائيات السكان المتصلة بهذه المرحلة. فنحن نعرف أن الوسائل الطبية والصحية لم تنتشر إلى الآن بين الجماهير الصينية، ولذلك فإن عدداً من العلماء يشكون في إمكان حصول أية زيادة ثانية بين الشعب الصيني الضخم. وعلى كل ففي حالة حدوث أي تغير في النسبة المتعادلة بين معدل الولادات ومعدل الوفيات فإن للصين شعباً قادراً على إحداث زيادة كبيرة حالما تضبط معدلات الوفيات.

وقد ظهر في الماضي أن نمو الشعب الصيني قد جرب الأسلوب الدوري الذي جربه العالم الغربي. فحين تسلمت أول عائلة جديدة الحكم شاع السلام واستتب النظام ورجح معدل الولادات على معدل الوفيات بين طبقات العمال المتزايدة وبين الجماعات المثقفة. ولكن الصين رغم بلوغها مرحلة عالية من مراحل المدنية لم تعمل على تحسين مواردها الآلية كما فعلت أوروبا؛ ولذلك بلغ فيها عدد السكان حد الإشباع. ثم جاءت المجاعات والثورات والحروب فخففت من ضغط السكان. وقد حدثت دورة مالتوس هذه أربع مرات منذ القرن الثاني بعد المسيح. واليوم تعيش المرحلة الاحتمالية في الصين في حالة سكون فلا يحس خلالها بضغط السكان ولكن من غير أن تغذي الزيادة فيها كما يحدث في اليابان.

وأما في الهند فإن تنظيم الأساليب الصحية وطرق مكافحة الأمراض الوافدة وتحسين طرق المواصلات واتساع سيطرة القانون والنظام قد ساعد على إحداث هبوط في الوفيات أدى إلى حصول زيادة في السكان مقدارها 83. 000 , 000. خلال عقدين (من 1921 إلى 1941) وهكذا فإن الهند مستعدة الآن لقبول زيادة أخرى، ولا توجد حتى الآن دلائل تشير إلى أنها ستمر بالأدوار التي مرت بها كل من فرنسا وأيرلندا.

وقد دخلت اليابان في المرحلة الثانية من مراحل الدورة فحدثت فيها زيادة في السكان أثر انخفاض معدل الوفيات. إن إمكانيات التصنيع قد استغلت في هذه البلاد بنطاق واسع ثبت منه بأن في إمكان الشرق أيضاً أن يخفض الولادات. ولم يسجل معدل الوفيات في اليابان انخفاضاً ملموساً؛ بل إن معدل الولادات في الفترة الحالية تحول نحو الهبوط. وقد أظهرت الإحصائيات اليابانية بين 1920 و1940 نتائج مشابهة للإحصائيات التي حصلت في إنكلترا ووبلز بين 1881 و1910. وخلال العقدين اللذين تخللا الحربين الأولى والثانية كانت معدلات الوفيات والولادات تشبه تقريباً مثيلاتها في إنكلترا قبل 40 سنة: وبهذه المناسبة من المهم أن نتذكر، كما يقول الأستاذ نوتستين: (بأن التمدين والهذيب في اليابان قد قطعا أشواطاً بعيدة؛ إلا أن نمو السكان كان من نوع التضاعف الثلاثي في القرن الواحد. وقد حصلت أكثر من نصف الزيادة بعد أن ابتدأ معدل الولادات في الهبوط. ومع أن اليابان قد قدمت للعالم مثلاً للتصنيع السريع فإن الاتجاه القادم لنمو السكان فيها سيعتمد على المدى الذي ستؤثر فيه الهزيمة على تطورها الاقتصادي. ولكن علماء السكان يقدرون بأن النمو لا يزال يفعل فعله بين الشعب الياباني.

وإذا عدنا إلى روسيا التي تملك مساحة واسعة من الأرض بين أوربا وآسيا، وتلتقي فيها خصائص الشرق والغرب المتنوعة التي تتميز بها ظاهرة النمو، وجدناها تجني الآن ثمار النهضة الإحصائية، لأنها البلاد الوحيدة القادرة على استغلال كل إمكانيات النمو الانتقالي. فقد حصل فيها توسع صناعي كبير، وانخفض معدل الوفيات بنتيجة التقدم الصحي والطبي. ولم يتخلل عهد التصنيع في هذه البلاد سوى هبوط ضئيل في معدل الولادات، ومع ذلك فإن هذا المعدل حسب ما هو ملاحظ آخذ في الازدياد؛ لأن السياسة القومية تشجع بنشاط العائلات الكبيرة، يضاف إلى ذلك أن الوضع الحالي للاتحاد السوفيتي يشير إلى احتمال حصول زيادة في عدد النساء خلال العقود القادمة. ويتوقع فرانك لوريمر المستخدم في شعب الإحصاء في روسيا في كتابه (سكان الاتحاد السوفيتي) حصول زيادة في السكان بين عامي 1940 و1970 تقدر بـ 70 , 000 , 000. وقد وصلت روسيا في الوقت الحاضر إلى المرحلة الانحدارية من الدورة، ودخلت كدولة أوربية في مرحلة الهبوط الأولى. وإذا ما استقرينا قوانين السكان وجدنا أن معدل النمو في روسيا لا يفوق معدل الزيادة الكبيرة في نفوس سكان جاوه مثلاً تحت ظل النظام الاستعماري الهولندي، ولكن في روسيا مجالات تمدد جديدة تتمثل في الحركة الصناعية النامية بينما سبق لجاوة أن اجتازت المرحلة النهائية من مراحل التطور الاقتصادي الزراعي. وبالإضافة إلى ذلك أن الاتحاد السوفيتي يملك داخل حدوده منطقة بكر واسعة لا تملكها أية دولة كبيرة أخرى وهي منطقة سيبيريا. فليس هناك من شك بأن روسيا تنتظر توسعاً كبيراً في السكان، ولكن السؤال الذي يدور في بقية أنحاء العالم هو فيما إذا كان في مستطاع روسيا أن تحتفظ بهذه الزيادات داخل حدودها.

وعندما بحثنا المرحلة الثالثة للدورة الكبرى - مرحلة الهبوط الابتدائي - لم نسر خلف مالتوس لأن توقف الزيادة وهبوطها لم يكونا معروفين في الفروض المالتوسية. فبلدان أوروبا الوسطى والشمالية الغربية كانت أولى المناطق التي دخلت في المرحلة الثالثة، في حين أن فرنسا والسويد وأيسلندا واستراليا وإنكلترا وويلز ستواجه هبوطاً في عدد السكان ابتداء من سنة 1970. أما أيرلندا فقد استعادت كما رأينا قواها ولكنها لم تحقق أية زيادة. ويمكن إضافة ألمانيا إلى هذه المجموعة بسبب خسائرها في الحرب. كما تعاني بولندا نقصاً في السكان لم تعانه أية أمة أخرى في العصور الحديثة. إلا أن طبيعة تكوين شعبها تساعد على العلاج إذا ما توفرت الظروف الاقتصادية الملائمة. ويقول علماء الإحصاء إن شعوب أوروبا الوسطى وأوروبا الشمالية الغربية قد بلغت مرحلة النضج، وقد أدى تحديد النسل بينها إلى إنقاص نسبة الشباب بينما رفع تقدم مستوى المعيشة من نسبه ذوي الأعمار الطويلة. وما دامت أعمار أغلبية النساء في هذه المنطقة قد تجاوزت معدل الخمسين فإن ذلك سيجر وراءه زيادة في طول الأعمار يؤدي إلى توسع إنتاجي إضافي. ففي الولايات المتحدة واستراليا وزيلندا الجديدة من الممكن أن تعيش المرأة البيضاء إلى سن السابعة والستين، كما أنه من الممكن أن تستطيع المدنية الأوربية أن تزيد معدل الحياة عشر سنوات أخرى خلال العقدين القادمين

وقد كان متوقعاً من دراسة معدلات 1935 - 1939 أن يبلغ نمو سكان أميركا نهايته حوالي 1980. إلا أن الولايات المتحدة قد خرجت من الحرب العالمية الثانية بأرباح غير متوقعة في النفوس، لقد فاقت الولادات مقدار عدد الضحايا بين الشعب الأميركي الذي لم يدخل بعدُ مرحلة الهبوط الابتدائي.

وعند هذه المرحلة من مراحل دراستنا سندخل منطقة يميل عند بلوغها علماء الإحصاء في العصر الحديث إلى وضع إرشادات تجريبية فقط بشأنها. إن معرفة ما يمكن أن يحدث وماذا يستحب أن يحدث، إذا ما سارت القوى الطبيعية في مجراها الطبيعي، تدفع الأفراد لأن يستعملوا عقولهم وإرادتهم للوصول إلى نتائج أكثر تكيفاً مع حاجاتهم ورغباتهم. وهناك بعض الباحثين لا ينظرون إلى ظاهرة النقص في السكان نظرة جدية، في حين أن هذه الظاهرة قد بنيت على أسس الاتجاهات التي توجه الوقائع والقوانين. ولكن يتساءل اليوم عمن يستطيع التحدث عن التقلبات الاجتماعية التي ستظهر فعل هذه الاتجاهات؛ إذ أننا نرى أن ظاهرة زيادة السكان من المكن أن توجه توجيهاً يساير حركات القوى الاجتماعية والاقتصادية التي تعترضها. فهل يمكن أن تفعل مثل ذلك بالنسبة لمشكلة الخوف من نقص السكان؟ وهل ضبط النسل يمثل ثورة على بعض انحرافات النظام الاقتصادي والصناعي؟ وهل يمكن أن يوقف إذا ما تحسنت مؤسسات اجتماعية أخرى تحسناً مناسباً؟ وللإجابة على هذه الأسئلة يجب أن تترك المرحلة النهائية من مراحل دورة السكان مفتوحة، معترفين بأنه من المحتمل حصول هبوط مطرد بين السكان بسري قانونه على البلدان المتقدمة في المدنية الغربية. كما أن هناك بعضاً من الخبراء يعتقدون بإمكان ظهور نوع من أنواع الحركات الميكانيكية توازن بين السكان لتقليل الهبوط الناجم من تحديد النسل.

وإذا ما أردنا أن نطبق هذه التطورات التاريخية على مسائل السكان في الشرق جابهتنا في الحال - وعلى الأخص في البلدان العربية - الصعوبات الناجمة عن تأثر الطرق الإحصائية الحديثة التي يمكن الاعتماد عليها لتنظيم دراسة متفقة موحدة. وكل ما نستطيع أن نقوله في هذا الصدد هو أن البلاد العربية لا تزال في مرحلة النمو الاحتمالي، وأن مجتمعاتها مستعدة لتقبل زيادات أخرى نظراً لكثرة الموارد الطبيعية غير المستغلة إلى الآن، ولانحطاط وسائل الاستغلال الزراعي والصناعي فيها. ولذلك فإن مشاكل السكان الحديثة لا يمكن أن تطبق على هذه المجتمعات إلا بعد أمد طويل نسبياً.

(بغداد)

فؤاد طرزي

المحامي