الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 833/مالتوس ومشاكل السكان في العالم

مجلة الرسالة/العدد 833/مالتوس ومشاكل السكان في العالم

بتاريخ: 20 - 06 - 1949


للأستاذ فؤاد طرزي

لم يثر أي كتاب من الكتب ضجة كالضجة التي أثارها كتاب توماس مالتوس (بحث في نظرية السكان) الذي صدر في سنة 1798 في منتصف فترة النهضة التي تسمى نهضة (الزيادة الكبرى) في مجموع السكان وفي بلاد ازداد عدد سكانها زيادة سريعة لم تدانها أية زيادة من الزيادات التي حصلت في بلدان القارة الأوربية الأخرى. فقبل هذه النهضة بـ150 سنة كان سكان القارة الأوربية يبلغون قرابة الـ 100. 000. 000 نسمة، ولكن بعد النهضة بـ 150 سنة أخرى واجهت شعوب أوربا مشكلة ابتداء حصول نقصان في مجموع السكان. ولكن سنة 1798، عندما أخذ يتضاعف عدد سكان القارة الأوربية الذي يبلغ الـ187. 000. 000 - على الرغم من ارتفاع عدد المهاجرين الذي بلغ 550. 000. 000 - اكتسبت نظرية مالتوس التي سماها نظرية زيادة السكان أهمية مريعة.

ففي عام 1650 كان تعداد سكان العالم يقارب 500. 000. 000، ثم بلغ هذا التعداد في سنة 1940 بليونين، وقد حصل نصف بليون من هذه الزيادة خلال المائة سنة بين 1650 و1750، في حين حصلت زيادة البليون الآخر في السنوات التي تلت ذلك. وبذلك ازداد في 3000 سنة عدد الأوربيين - الذين يدخل فيهم السلالات المتحدرة النقية التي تعيش في الخارج - زيادة تبلغ السبعة أضعاف، وهكذا، ومع مرور الزمن غدت ظاهرة الزيادة - كما كتب لنكزلي دافيس - شبيهة بسلك رفيع يحترق ببطيء وتعثر، إلى أن أدرك الاحتراق نهايته فأنفجر. ولعل أبرز مظهر لظاهرة زيادة السكان في الغرب - وهي الظاهرة التي أطلقنا عليها اسم نهضة (الزيادة الكبرى) في مجموع السكان - تتبدى في ازدياد عدد نفوس الشعوب الناطقة بالإنجليزية. فقد كان تعداد هذه الشعوب يبلغ 5. 500. 000 في عام 1600 فتضاعف إلى 200. 000. 000 في عام 1940. وفي المائة سنة الأخيرة من التاريخ التقويمي ازداد عدد سكان الجزر البريطانية نحو أربعة أضعاف ما كان عليه، وهذا بالإضافة إلى أن أكثر من 17. 500. 000 قد هاجروا من هذه الجزر إلى أمريكا الشمالية ودومنيونات ما وراء البحار.

ويرى العلماء المحدثون أن مالتوس قد وجه نشاطه مبدئياً، في الطبعة الأولى من رسالته، نحو دراسة مشكلة الفقر، وإن مسألة السكان كانت ثانوية في آرائه. فقد أراد أن يدرس طبيعة الفقر كما انكب آدم سمث على دراسة طبية الثروة؛ إلا إنه وضع رسالته يرد بها على وليم كودوين والتلاميذ الاشتراكيين مستهدفاً إثارة المحافظين الدينيين والاشتراكيين المتطرفين في آن واحد. وكتب مؤرخ حياته جيمس بونار يقول: (لقد غدا مالتوس من بعد ثلاثين سنة أمطر خلالها الناس سيلاً من الأخطاء أعظم شرير في عصره، وأصبح إنساناً يدافع عن الجدري والعبودية وعن قتل الأطفال وعن إلغاء الزواج المبكر، إنساناً بلغت به الوقاحة أن يتزوج بعد إلقائه وعظاً يبين فيه مساوئ العائلة، إنسان ظن أن العالم بمجموعه سلسلة ظواهر تحكمها عوامل الشر حكماُ يدفع إلى الاعتقاد بأن خير الأعمال هي ما كانت أكثرها إيذاء. ولم يقدم مالتوس - باعتباره شارحاً لأسباب الفقر - أجوبة مقنعة تتفوق في شمولها وقناعتها على تلك الأجوبة التي وضعها بعض المتعصبين من ذوي العقول الجافة كهنري وجورج وكارل ماركس. وإن نظريته التاريخية التي نقحها في الطبعة السادسة لرسالته هي أكبر ما قدمه).

قرر مالتوس بأن نسبة الزيادة بين السكان تفوق نسبة الزيادة في المواد الغذائية، ولذلك - إذا لم نضبط هاتين النسبتين عند حد متوازن واحد - فستجتاح الإنسانية المصائب والكوارث والنكبات والآلام. وقد أفرغ نظريته في قانونه المشهور: تجري زيادة السكان على شكل متوالية هندسية - بهذه الصورة 32. 16. 8. 4. 2. . . الخ - وتجري زيادة المواد الغذائية على شكل متوالية حسابية - بهذه الصور 5. 4. 3. 2. 1. . . الخ فإذا لم تضف أراض جديدة كما يقول مالتوس فسوف لا يستطيع أي شعب في العالم أن ينتج المواد الغذائية سنوياً إلا ما كان ينتجه في السنة السابقة، في حين أن عدد السكان - كما ظهر في أمريكا - يزداد زيادات متضاعفة من جيل إلى جيل، ولذلك فإن زيادة السكان لا تسير في مستوى واحد مع إنتاج المواد الغذائية إلا بوجود تحديدات معينة، وإن التحديد الحاسم بين هذه التحديدات هو المجاعة التي تعتبر الضابط الذي يوقف ازدياد السكان. 0 وعلى ذلك فإن هناك تحديدات أخرى من الممكن أن يظهر مفعولها قبل ظهور فعل هذا التحديد، وهي الفقر والحرب وسوء التغذية والفجور. كما أن تقييد الزواج من الوسائل الرئيسية المعينة على التهرب من مثل هذه النتائج المخيفة. وكل مشروع يوضع لإنشاء مجتمع أصلح لتحقيق حاجات أكبر يستهدف إضعاف مفعول هذا القيد - تقييد الزواج - لا ينجح إلا في تقوية الجراثيم التي ستأكل قلب الإنسانية.

إن العلماء يميلون اليوم إلى تجنب المناقشات التي لا طائل تحتها بتوجيه سؤال واحد، هو: كيف يمكن لفروض مالتوس أن تصاغ بشكل تثبت فيه لاختبارات الباحثين في مشاكل زيادة السكان. ويقول هؤلاء العلماء: دعنا نفترض حدوث زيادة كبيرة في السكان أعقبها هبوط في استهلاك الأغذية، وإن ارتفاع معدل الوفيات أدى في النهاية إلى المجاعة. ففي هذا الفرض - حسب نظرية مالتوس - يجب أن يكون العلاج الوحيد تقليل نسب الزواج بدرجة كافية للتقليل من نسب الإخصاب البشري. ولكننا إذا ما أخضعنا هذا التقدير الافتراضي إلى حقائق علم السكان نجد - باستثناء حالات الحرب - أن شعباً واحداً فقط من بين شعوب أوروبا قد انطبقت عليه تنبؤات مالتوس وهو الشعب اليهودي. وبتعقب فترة المائة والخمسين سنة التالية لعهد مالتوس ظهر لعلماء السكان بأن هذا الباحث قد عاش في مرحلة خاصة من مراحل التطور الإنساني. وعن طريق المصادر العلمية المادية وتقدم الوسائل الإحصائية والرياضية وتطور أساليب إحصاء النفوس يستطيع هؤلاء العلماء أن يحللوا هذه المراحل ليكتشفوا التغييرات الأساسية في نسب الوفيات والولادات التي تخللتها، وبذلك تستطيع هذه التحليلات والدراسات أن تعينهم على إعداد العدة للمستقبل. ومن هنا يظهر أن أغلب أساليب التحليل والإحصاء الحديثة قد استخدمت لإصلاح عمل هذا الباحث الذي عبر عن روح العصر الذي كان يعيش فيه

ونحن نعلم علماً تاماً - بعد أن ندع جانباً التطورات التي تعود في أصلها إلى ظروف الحرب - بأن معدل الوفيات قد استمر في هبوطه منذ زمن مالتوس كما نعلم بأن ارتفاع معدل الأعمار لا ارتفاع معدل الولادات هو الذي سبب هذه الحركة في مسائل السكان وهي الحركة التي دفعت مالتوس دفعاً مباشراً لصياغة نظريته. وكان لكارساندرس فضل الكشف عن هذا الهبوط في معدل الوفيات الذي بدت ظواهره في إنجلترة حوالي 1730 في السنة التي ولد فيها أكبر معمر في عصر مالتوس. وقد أبان هذا الباحث أن المعدل قد هبط من 35 في الألف إلى 22 في الألف في عام 1830، أي بعد ثلاث سنين من إخراج مالتوس الطبعة الخامسة من رسالته. ثم مرت بعد ذلك مائة وأربعون سنة أخرى قبل أن تبدو بوادر هبوط في معدل الولادات عام 1880 يعادل الهبوط الذي طرأ على معدل الوفيات في إنجلترة حوالي 1740. وظلت الوفيات تتناقص إلى أن بلغت 10 في الألف في العقد الأول من هذا القرن، وظلت تتزايد نسبة الولادات خلال الستين سنة التالية. ويعود سبب ذلك لحد كبير إلى الفرق الكبير بين المعدلين.

ولقد كان من نتيجة التطورات العظيمة في العلوم الطبية والصحية وفي الشؤون الاجتماعية العلمية إنقاذ نفوس كثيرة، ثم تطعم ذلك في عام 1750 بقيام الفلاحين بزرع أرضهم زروعاً زودتهم بالخضروات واللحم الطازج بدلاً من تركها بوراً في الشتاء، كما وفر استعمال القطن بعد ذلك للطبقات العامة منسوجات رخيصة فازداد هبوط معدل الوفيات.

إن مشكلة السكان التي شغلت مالتوس خاصة، مشكلة إطعام الشعب الإنجليزي الذي يتزايد عدده مع بقاء جزيرته كما هي من حيث المساحة. هذه المشكلة قد حلت - كما يقول هارولد رايت بعد بضع مئات من السنين بنتيجة الزيادة الهائلة التي حصلت في إنتاج البضائع المصنوعة ومبادلتها بالأغذية والمواد الخام المنتجة في القارات الجديدة. فكلما ازدادت النفوس أصبح الغذاء أرخص لازدياد المهاجرين الذين ينتجون الأغذية في الخارج وازدياد العاملين الذين انتشروا في أوروبا عند استعمال الماكينة الزراعية والبواخر والقاطرات وهي الوسائل التي ساعدت على إنتاج الأغذية ونقلها من مكانها إلى محلات استهلاكها: فالثورة الصناعية قد قضت على أزمات السكان طوال مدة بلغت المائة عام. في الخارج وازدياد العاملين الذين انتشروا في أوربا عند استعمال الماكينة الزراعية والبواخر والقاطرات وهي الوسائل التي ساعدت على إنتاج الأغذية ونقلها إلى محلات استهلاكها: فالثورة الصناعية قد قضت على أزمات السكان طوال مدة بلغت المائة عام.

وتزايد هذه الوسائل الجديدة مكن أوربا من إنشاء شعب صناعي كثيف لم تكن تحلم باستطاعتها إعاشته. وكي لا نغمط كل حق لمالتوس يجب أن نشير إلى إنه قد تنبأ بهذه الإمكانيات ولو كان تنبأ مشوباً باليأس كما يظهر من الملاحظة التالية الواردة في رسالته.

(وقد نفرض، ونحن في غمرة التأملات الشاردة المجدية، أن أوربا يجب أن تنمي حبوبها في إنجلترة وأن تكرس نفسها تكريساً تاماً للصناعة والتجارة وتصبح أحسن آلة عاملة على سطح الكرة الأرضية. ولكن حتى إذا ما جارينا المفترضين في مباغاتهم وقلنا بان طبيعة الأشياء ستنتهي بجعل أوربا آلة عاملة من النوع الذي يفترضونه، وأنها ستوفر إمكانيات تستطيع بواسطتها هذه القارة أن تزيد نفوسها زيادة تتجاوز مساحة أراضيها، إلا أنها مع ذلك ستكون النتائج مؤلمة إيلاما كبيرا، إذ إن الحقيقة التي لا يصح نكرانها تتطلب أن يقوم كل إقليم، حسب إمكانياته الطبيعية وقدرته على خلق الثروة، للإنتاج لنفسه فما العمل إذن عندما تبدأ أمريكا - بمقتضى هذه الظاهرة - بسحب حبوبها من أوربا لتكفي نفسها، وحين تصبح المنتجات الزراعية غير الأوربية كافية لسد النقص الذي تحس به؟ لاشك إنه سيبدو حينذاك بأن الفوائد الوقتية سيبدو حين ذاك بأن الفوائد الوقتية المتحصلة من زيادة نسب الثروة والسكان قد كلفت غالياً ودفعت إلى مقاساة لفترة طويلة عامرة بالآلام والمتاعب.

ومع أن الثورة الصناعية قد وقت أوربا من أخطار ازدياد السكان، إلا أنها لم تعدل تعديلا أساسيا تحدي مالتوس، ولذلك فإنه حين ابتدأت حركات الموازنة اتخذت الأسلوب الذي دعا إليه - اطراد هبوط معدل الولادات - ولو أنها لم تتشكل بالشكل الذي تنبأ به. فإن معدل الزواج ظل في منطقة واحدة مرتفعا - في الروسيا - أما شعوب المدنية الغربية فقد تجنبت أزمات السكان بالإشراف على الولادات عن طريق وسائل التحديات العائلية. فإذا ما قلنا بأنه قد تخلل عصر نمو السكان هبوط معدل الوفيات فيجب أن نعترف بأن هبوط معدل الولادات قد كان جزرا مضادا.

فقد كان واضحا منذ عام1850 بأن معدل الولادات قد هبط في فرنسا والولايات المتحدة وايرلندا، كما كانت الدلائل تدل على أن الزيادة الهائلة التي طرأت على الولادات في أمريكا قد ابتدأت في الهبوط ثانية منذ الإحصاء الأول عام 1790. فبين عام 1847 وعام 1914 هبط معدل الولادات في فرنسا من 27 في الألف إلى 19، وهبط خلال الحرب العالمية الأولى إلى 11 في الألف ثم استأنف بعد ذلك الهبوط بعد ارتفاع وقتي. وقد اشتد هذا الهبوط، مع بعض التغيير حيناً، أو مع عدمه في حين آخر، في العصر الذي يسمى عصر الزواج، ويعزى سبب هذا الاشتداد إلى تحديد الولادات داخل العائلة، إذ المعروف أن عمليات تقليص حجم العائلة قد استمرت في فرنسا، ثم انتشرت من هذه البلاد إلى شعوب أوربا الغربية.

وأما في إنجلترا فإن معدل الولادات قد وصل إلى درجة عالية عام 1850، إلا إنه من عام 1880 أخذ يعاني هبوطا مستمرا. وفي خلال فترة قصيرة أمدها ستون سنة (بين 1870 و1930) هبط هذا المعدل من 35 في الألف إلى 15. وقد كان لهذا الهبوط أثر كبير على الحياة الإنجليزية.

فكيف إذن فشل مالتوس في التنبؤ بإمكانية هذا التقلص في حجم العائلة الذي يعتبر أعظم إنقلاب في شؤون السكان في العالم الحديث؟ لقد ظهر لأغلب المفكرين الأحرار بأن مالتوس كان يخدم جبهتين مختلفتين: جبهة المستغلين، وجبهة ذوي السلطة. واكتشف العالم الألماني هانس ميوهوف بأن أعمال مالتوس قد تأثرت بدفاعه عن التقاليد، كما أن العالم جيمس فيلد قد وصل بعد دراسة دقيقة إلى نتيجة أثبت فيها بأن مالتوس كان مطلعاً على الدعاية الموجهة لتحديد الولادات في زمانه، ولذلك عارض بقوة كل تدبير طبيعي لتحديد حجم العائلة.

ولعل هذا الدفاع عن التقاليد الاردذوكسية - والذي دفع علماء السكان إلى أن يسموا صاحبه (البارسون مالتوس) قد جعل من منافسيه من أمثال فرانسيس بلاس وريشارد كارليك وروبرت ديل والدكتور جارلس نولتن أقدر منه في معالجة الفروض العلمية

إن الضرورات تقتضي - حسب نظرية مالتوس - أن يكون الزوج قادر على إعالة زوجة وستة أطفال، أما علماء السكان في الوقت الحاضر فيقولون إن إنجاب العائلة ثلاثة أطفال يكفي لاستقرار السكان، بينما يؤدي إنجاب كل عائلة ستة أطفال إلى مضاعفة السكان من جيل إلى جيل. وليس هناك من يشك في إخلاص مالتوس في دفاعه عن الضابط المعنوي، ولكننا يجب أن نشير في مقابل ذلك إلى أن الكتاب والمصلحين في أيامه قرروا ما يقرره اليوم كثير من رجال الدين وعلماء التشريح وقادة الاجتماع بأنه إذا ما أراد المجتمع أن يجعل من الاتصال الجنسي قيمة سامية؛ فالزواج المبكر خير معوان على ذلك.

ويبدو أن تاريخ الشعب الايرلندي خير تصوير محزن لفرضية مالتوس، وهو الشعب الذي كانت المجاعة أكبر آفة أصابته؛ ففي سنة 1610 ابتدأ السير والتر رالية بزرع بذور البطاطس المستوردة من أمريكا في مزرعته، وبعد مضي جيلين أصبحت البطاطس الغذاء الرئيسي في ايرلندا. وكان الفرد يزود بهذا المصدر الغذائي الجديد، فيتزوج شاباً ثم ينمو بسرعة. ولذلك أخذ عدد السكان يتضاعف ابتداء من عام 1849 إلى أن بلغ هذا التضاعف أوجه عندما صار تعداد السكان 8 , 300 , 000. وقد جاء في كتاب السير جيمس كونور (تاريخ ايرلندا) ما يلي: (لقد شجع المسلك الديني الزيجات المبكرة، وشجعت السياسة الايرلندية الزيجات المبكرة كذلك، وأدى هذا التشجيع المزدوج إلى حصول زيادة سريعة في السكان. ولكن ظل ما يقارب الثلاثة ملايين والنصف من النفوس ملمومين في أكواخ موحلة مغطاة بالقش، كل كوخ يتكون من غرفة واحدة بلا نافذة ولا منفذ. وفي عام 1844 ظهرت في أمريكا الآفة النباتية التي تعطن البطاطس خلال بضعة أيام.

وفي صيف 1846 اجتاحت هذه الآفة ايرلندا كالوباء الأسود وأهلكت المؤن الغذائية التي يعيش عليها الفلاحون؛ ومات خلال خمس سنين بين 1846 و1851 حوالي 1 , 000 , 000 شخص. وكان من نتيجة ذلك فيضان هجرة كبيرة من ايرلندا فغادرها خلال عقد واحد ربع السكان متوجهين إلى الولايات المتحدة. ثم أخذ عدد المهاجرين في التزايد حتى بلغ في ظرف جيلين 5 , 000 , 000 ولكن الايريلنديين جابهوا الموقف بإيقاف الزواج أو تركه. ويصعب علينا قياس معدل الولادات في ايرلندا إلا فيما يتعلق بفترة منتصف القرن التاسع عشر، ولكن كاساندرس قال إن هذا المعدل ربما كان حوالي الأربعين في الألف عام 1850 ثم أخذ في الهبوط بعد فترة قصيرة من هذا التاريخ فصار 622 بالألف بين عامين 1871 و1881، و212 بالألف بين عامي 1910 و1926. وخلال هذه الفترة ازداد معدل نسبة النساء الايرلنديات غير المتزوجات من اللواتي تتراوح أعمارهن بين الـ 25 و35 من 28 في المائة في عام 1841 إلى 52 في المائة في عام 1926. ولا شك أن ترك الزواج بالنسبة لشعب بأكمله فترة طويلة يعني بالطبع أن عددا كبيرا سيتركون الزواج نهائيا.

ففي عام 1841 كان 15 بالمائة من النساء الايرلنديات بين الخامسة والثلاثين والخامسة والأربعين غير متزوجات. وفي عام 1926 ارتفع هذا المعدل إلى 29 بالمائة. وهكذا، فإن ثلاثة أعشار النساء الايرلنديات يعشن بلا زواج. وأما بالنسبة لأولئك اللواتي تزوجن فإن معدل الولادات بقي بينهن عالياً. وفي عام 1861 كان يوجد لكل 100 امرأة ايرلندية متزوجة من اللواتي دون الخامسة والأربعين 130 طفلا دون الخامسة. وفي عام 1826كان العدد المماثل 130طفلا أيضا. ويقابل ذلك في إنجلترا وفي نفس الفترة هبوط المعدل من 100 طفل لكل امرأة متزوجة إلى 071 وقد استقر الآن عدد سكان ايرلندا حوالي 4. 300. 000 نسمة أي ما يقارب نصف العدد الذي كان عليه عدد النفوس قبل المجاعة. ولهذا السبب نجد أن عدد المنخرطين في المسلك الديني في ايرلندا يفوق أي عدد مماثل له في العالم الغربي إذا لم نقل في العالم كله. فقد جندت هذه البلاد أبناءها في سلك الرهبنة ليخدموا الكنيسة الكاثوليكية في كافة أنحاء العالم. ولكنا إذا عدنا إلى إنجلترا وفرنسا والولايات المتحدة وجدنا انه لم يحدث في هذه البلدان إلا هبوط قليل في نسبة الأفراد المتزوجين؛ ولذلك نرى الكنيسة الكاثوليكية خسرت كثيرا من المجندين في هذه الأقطار. ومن هنا نرى أن تخفيض ايرلندا معدل الولادات فيها بترك الزواج يعتبر نتاج سلسة غريبة من الظروف الاقتصادية قويت بإخلاص أهلها للكنيسة، وأن قصتها تعتبر نموذجاً لطريقة إنقاص عدد السكان في العالم وهي الطريقة التي يمكن أن تلفت انتباه مالتوس الأخلاقي أكثر من جلبها انتباه مالتوس العالم علاوة على دلالتها على مبلغ جسامة الوسائل التي يحتاج إليها لهزيمة تفسير مالتوس.

(البقية في العدد القادم)

فؤاد طرزي