مجلة الرسالة/العدد 831/صور من الحياة
→ المستغربون | مجلة الرسالة - العدد 831 صور من الحياة [[مؤلف:|]] |
شعر المعتمد بن عباد ← |
بتاريخ: 06 - 06 - 1949 |
جزاء. . .
للأستاذ كامل محمود حبيب
آه، إن في الإنسان دوافع ترابية إن سيطرت عليه نزلت به عن معاني الإنسانية!
قال لي صاحبي: وانفلتّ من لدن أخي بعد أن سخر من ضعفي وسلبني مالي. . . انفلت من لدنه وفي يدي جنيهات، وفي قلبي لوعة، وفي عيني عبرة، وأحسست بقلبي يحتدم غيظاً وكمداً، وشعرت بفؤادي ينشق أسى وألماً.
ولبسني الشيطان، وسيطر عليَّ الأرق، وتناهبتني الهموم، فقضيت ليلتي أتقلب في أتراحي وشجوني والشيطان إلى جانبي ما يبرح ينفث فيَّ سموماً شيطانية ويسوِّل لي أمراً، وأنا ألقي السمع إلى كلماته، أطمئن إلى حديثه حيناً، وأفزع عنه حيناً، وبين يديَّ جنيهاتي أقلبها ذات الشمال وذات اليمين وفي قلبي قلق واضطراب، وفي رأسي خواطر سود ما تنقشع. . . ولكن أخي هو أخي، ضمني وإياه تاريخ سنوات عجاف، ولطالما استشعرت منه العطف والحنان والتضحية.
وقال لي الشيطان: لقد غالك أخوك وأنت في مرضك تهفو إلى شفقته وترنو إلى رحمته، غالك لتصبح فقيراً ترى أبناءك يحسون لذع الفاقة ومرارة العوز وقسوة الحرمان على حين يرفل أبناؤه في السعة ويتقلبون في النعيم.
لا عجب، فهو رجل ترابي العقل، أرضي العاطفة، نشر حواليك شباك الجشع - على حين غفلة منك - ليستلبك من مالك، وأنت في سقامك لا تستطيع أن تذود عن نفسك بعض طمعه ولا أن تناقشه الرأي، فاستسلمت - على الرغم منك - في فتور وضعف. لقد عبث بالأوراق في خسة، ورتب الحساب على نسق أراده هو ليبلغ غاية يتلظى الشره في ثناياها منذ أن شطر الدار شطرين، وأرهقك بالدين عن عمد منه، ثم صدمك بفكرة بيع الدكان ليرغمك على أن تنزل له عن حصتك بثمن بخس. تلك أمور سوَّنها إرادة طينية تغلغلت في نفسه ليستولي على مالك في غير حق. فأنت عاجز الهمة، فاتر المروءة، إن لم تدفع ما أصابك من ظلم وطغيان. ستراه - بعد أيام - يرفل - هو وصغاره - في الحرير والدمقس ويستمتع بأطايب الطعام ولذيذ المأكل، على حين لا تجد أنت إلا صبابة من مال لا تغ من عرى ولا تسمن من جوع. فلا تقعد عن أن تغمد هذا الخنجر في صدره، أو تصوب فوهة ذاك المسدس إلى قلبه. تسلل إليه في سكون الليل، تحت ستر الظلام، ثم استل روحه من بين جنبيه وارتد إلى فراشك هادئ البال، ساكن الجأش، فتكون قد انتقمت لكرامتك ومالك. وإلا فأنت عاجز الهمة فاتر المروءة.
وظل الشيطان يوقع لحن شيطانيته على أوتار أذني في دربة ولباقة، حتى أوشكت أن ألقي إليه السَّلم فأتردى في الهاوية، وظللت أنا أضطرب في مضلات لا أهتدي ولا يغمض لي جفن، فما سكنت جائشة نفسي إلا حين سمعت صوت المؤذن ينادي في الفجر: (الله أكبر، الله أكبر). . . فاستيقظت الروحانية في قلبي، وقمت في تراخ وكسل أدس جنيهاتي في درج مكتبي، ثم انطلقت صوب المسجد عسى أن أجد هناك راحة النفس وهدوء الضمير، أو أن أنفض عني الخواطر الشيطانية وهي ما زالت تتدفق في قلبي منذ الغسق. وهناك - في المسجد - أحسست السكينة والأمن حين ألقيت عن كاهلي متاعبي وشجوني. وكنت كلما سمعت (الله أكبر) شعرت بروح المسجد تغمر قلبي نوراً وهدوءاً، وتملأ جوانحي ثقة وإيماناً، وتنفث في روحي الحياة والنشاط. وللمسجد في قلب المؤمن معان سماوية تسمو به عن النوازع الأرضية الوضيعة، وترتفع به عن شواغل المادة الحقيرة. وسكنت إلى المسجد فجلست في ناحية منه استلهم وحيه السماوي وأجتلي نوره الفياض، فما أفقت إلى حين ملأ نور الصبح صحن الجامع.
ورجعت إلى داري يهدني الجهد والإعياء مما قاسيت في ليلتي وأنا مؤرق الجفن، مضطرب البال، مشتت الذهن، فبدا عليَّ الشحوب والذبول. ورأت زوجي عذاب نفسي مسطوراً على جبيني فنظرت إليَّ في ذهول وشفقة، ثم انعقد لسانها فما استطاعت أن تحدثني بأمر ولا أن تشير برأي، وخشيت أن تقول كلاماً ينكأ جرحي ويدمي قلبي ويركسني إلى العلة التي برئت منها منذ أيام، فأمسكت بالرغم منها.
وقضيت يومي أضطرب في أنحاء القرية لا أستقر، أريد أن أفر من خواطري، وأن أهرب من أخيلتي، فلا أستطيع إلى ذلك سبيلا، وظلت هي تلاحقني وتتشبث بي حتى رجعت إلى داري عند الأصيل. وألفيت زوجي تختلج اختلاج مكروب أرمضه الأسى، وفي عينيها أثر البكاء والضنى.
وعزَّ عليَّ أن أحمِّلها بعض وزري، أو أن أشركها في هذا البلاء، فأطفئ فيها جذوة الشباب وأخمد فيها نور الحياة. وعزَّ عليَّ أن تتساقط أسفاً وحسرة، وأنا قد لمست فيها العطف والحنان في ساعة العسرة، فجلست إلى جانبها أحدثها: (ما بك؟) قالت: (لا شيء، إلا أن أراك تأسى على أمر تافه ضئيل). قلت: (لقد غالني أخي فسلبني مالي). قالت: (لا بأس عليك، فهو أخوك الأكبر، وهو منك بمنزلة الأب، وله عليك ألف حق وحق). قلت: (أفيذرني وحيداً عاجزاً يلتهمني الألم وتعصرني الفاقة). قالت: (آه، إن في السماء أموراً غُيِّبتْ عنا لتكون بلاءً للصابرينّ! وما أقسى فقر النفس!). قلت: (هذه فلسفة عفنة). قالت: (ولكنها فلسفة روحانية تذر النفس هادئة مطمئنة، فكم أخذت من أخيك بالأمس ثمناً لحصتك من الدكان). فسحبت جنيهاتي من درج المكتب في فتور، ثم ألقيتها بين يديها في صمت. ونثرت هي الجنيهات بين يديها تعدها وأنا أرمقها في سكون، ثم قالت: (الحمد لله، هذا شيء كثير). وعجبت أنا لقولها. ولكن نفسي اطمأنت حين أحسست بكلماتها تزيح عني عبئاً ثقيلاً يمضني ويضجرني. . .
وفاضت روح الإيمان والعقيدة على المبلغ الضئيل فملأته خيراً وبركة، وفاض نور المسجد على قلبي فغمره فاستحال اليأس القاتل إلى أمل واسع جيَّاش، وانقلب الفتور إلى نشاط يتوثب، وأحسست بالصحة تسري في عروقي، وانطوت الأيام فإذا جنيهاتي تصبح دكاناً يفهق بالبضائع من كل صنف، ورفّت السعادة على داري فأفعمتها بالهدوء والطمأنينة. . . ثم. . . ثم نسيت ما كان من أخي الأكبر.
أما أخي فظل يدل عليَّ بمال وصحته وأولاده حيناً من الزمان، ثم ضربته العلة وركبه السقام فانهدت قوته وذوى نشاطه. أفكان ذلك من أثر الندم الذي يتأجج بين جوانحه على أن غالني حقي وأنا مهدود القوة لا أستطيع أن أدفع أذى ولا أن أرد شراً؟ أفكان من أثر أكل المال الحرام وهو ينسرب إلى جوفه لظىً يتضرم؟ أفكان من عدل السماء وهو يجازي الشر بالشر ويدفع السيئة بالسيئة؟ من ذا يدري؟ ولكنه انطلق يطب لداءين: داء نفسه وداء جسمه. . . وثقلت عليه وطأة المرض فانحط في فراشه لا يبرحه، وانصرف عن تجارته فأغلق دكانه، وتسلل المال من بين يديه إلى الدواء والطبيب، وبدا على وجه زوجه سمات الجزع والقلق - بادئ ذي بدئ - ثم برمت به فهي لا تصغي إلى حديثه إلا في ملل، ولا تجيب نداءه إلا في ضجر، ولا تقوم على خدمته إلا في تثاقل.
واختلفت إليه أريد أن أخفف عنه لوعة المرض، وأن أزيل عنه جفوة الوحدة، فاستقبلتني زوجه - أول الأمر - في بشر وتلقتني في بشاشة وتحدثت إليَّ في سرور، ثم تراءى لي أنها تطمع في أن تصرفني عن أخي، وأن تخدعني عن نفسي، وأن تستلبني من قلبي، فدفعتها في رفق ونصحتها في لين، ولكنها كانت فتاة جميلة فيها المكر والمداهنة، تتوسل إلى رغبات نفسها بأساليب شيطانية فيها الإصرار والعناد. وخشيت أن أغلظ لها القول فتنطلق إلى أخي توسوس له وتوحي إليه بأنني أريد أن أعبث بكرامته، أو أن أسطو على عرضه فتقمصه الصدمة، وهي قوية عنيفة، وهو ما يزال يعاني عنت المرض ولأواء العلة.
لشدَّ ما آذاني أن أراك - يا أخي - تفقد مالك وصحتك وزوجك في وقت معاً! ولشدَّ ما حزَّ في نفسي أن أرى زوجك تحاول أن تغترني عن كرامتي وشرفي ورجولتي لأكون حيواناً يرتدع في حيوانيته في بيتك أنت يا أخي!
بالرغم مني - يا أخي - أن أنزوي عنك فلا أزورك إلا بين الحين والحين، وبالرغم مني أن أصانع زوجك اللعوب لأحفظ ودك. . . آه، لو أن لك أذناً تسمع حديثي وتطمئن إلى قولي! ولكني أوقن بأنك لا تسكن إلا إلى حديث زوجك، ولا تستعذب إلا كلماتها، ولا تستسيغ إلا خداعها!
ومضت الأيام، فإذا أخي يخرج إلى الناس يتكفأ في مشيته من الضعف والهزال، وقد ضربه الإفلاس وركبه الدَّين، لا يجد من يحنو عليه غيري أنا. . . أنا أخوه الذي اغتال مالي وسلبني حقي ليشبع رغبات نفسه ورغبات زوجه.
فيا أخي، إن في الإنسان دوافع ترابية إن سيطرت عليه سفلت به عن معاني الإنسانية!
كامل محمود حبيب