مجلة الرسالة/العدد 830/قضايا الشباب بين العلم والفلسفة
→ صور من الحياة | مجلة الرسالة - العدد 830 قضايا الشباب بين العلم والفلسفة [[مؤلف:|]] |
نفحة من العبقرية ← |
بتاريخ: 30 - 05 - 1949 |
للأستاذ إبراهيم البطراوي
- 2 -
بقى بعد هذا بدعة أخرى، وهي آخر ما سنتكلم عنه - جاءتنا هذه الأيام من فرنسا، وفرنسا دائماً بلد العجائب وأم البدع. هذه البدعة الجديدة وأعجب ما في أمرها أنها تدعي لنفسها عراقة نسب في التاريخ وكرم محتد في الفلسفة تسمى (الوجودية) '
وأعجب من هذا أن يظهر مثيل لهذا المذهب في ألمانيا على يد الفيلسوف الأديب نيتشه قبل القرن العشرين، ويظهر المذهب نفسه بعد ذلك على يد هيديحر في ألمانيا أيضاً؛ فلم يكد يعرفه أحد هنا حتى ظهر هذه الأيام في فرنسا على يد سارتر فسرعان ما وجدنا له أساتذة عندنا وأعواناً قبل أن يجد سارتر الأعوان والأساتذة؛ لأن فرنسا غدت بعد الحرب في فقر من الرجال كما يقول سارتر.
لا يدخلن في روعكم أن هذه الفلسفة أتت بجديد؛ فهي عين ما جاء به روسو وفولتير ومزدك والإسماعيلية وماركس: البهيمية والإباحية. . . مع اختلاف الأسماء وتزويق في الألفاظ! ولكنها على كل حال تجلت في ثوب جديد، وعرفت كذلك باسم جديد يلائم ذوق العصر وثقافته ' فلنعرف أولا ما هي هذه الوجودية ثم ليكن بعد ذلك ما يكون:
خلاصة ما فهمت من شروحهم بعد دراستي لهذا المذهب وبخاصة ما كتب زعيمهم سارتر ولا سيما في كتابيه (الوجود والعدم) ' والمتوهم '
أنهم يقابلون قسمة الكائنات الحية في الدين وعند كل الفلاسفة القائلين (بالإثنينية) إلى روح وجسد، أو إلى مثال وصورة، أو إلى جور وعرض. تتقدم الروح في الوجود ظهور الجسد، ويتقدم المثال تجسيد الصورة، ويتقدم الجوهرُ العرض، إلى آخر تلك الأشياء التي هي في واقعيتها ومعقوليتها أقرب إلى أن تكون بدائه؛ فيزعمون أنها خرافات تأصلت في النفوس بعد أن ابتليت بداء الدين العضال!!
فلو سألناهم: إذا كان هذا باطلاً حقاً يتجافى الواقع كما تدعون فعرفونا بما لديكم من أنباء الأمور الصحائح لعلنا نهتدي بهديكم، وجدناهم يعمدون إلى الغموض والتعمية وإلى المراوغة والتكايس، ولم يزد كل أمرهم على أن يقابلوا شيئاً بشيء فيضعوا لفظاً مك لفظ، ويغيروا اسماً باسم، ويقلبوا وضعاً لينصبوا مكانه آخر وهكذا. . .
فيقولون إن أي كائن يتكون من شيئين اثنين هما: جِبلَّته ووجوده.
فالجبلة: هي تلك السمة التي تميز كل نوع من الكائنات عن النوع الآخر؛ فبها تتميز الأنواع.
والوجود: هو الظهور الفعلي النافذ في هذه الحياة.
ففكرة المهندس في تصميمه لآلة من الآلات مثلا هي جبلة هذه الآلة. وتنفيذ هذه الفكرة أو تجسيدها - كما في المثال المتقدم - هو وجود هذه الآلة.
من هذا نعرف أن الجبلة هي التي تتقدم الوجود؛ ولكن هذا عند الوجوديين خطأ محض إذا طبقناه على الإنسان: فلنا أن نطبقه على كل شيء إلا الإنسان؛ فإن له قانوناً خاصاً غير قانون الدين المتقدم، فهو - كما في زعمهم - خطأ!! وغير قوانيني الطبيعة؛ لأن كل قوانينها (أوهام) اختلقها العقل وقيد بها نفسه. فليس هنالك شيء اسمه القانون! ولكن لا بأس عليهم أن يلزمونا بقانون، ولا بأس علينا إذا أخذنا بقانونهم هذا فهم أئمة الهدى المعصومون! وهو: أن وجود الإنسان هو الذي يتقدم جبلته!
فلم يعد ثمة جبلة خلقها الله؛ ولكن الإنسان - وهو في نظرهم ذلك اللقى الذي قذف به في هذا العالم قذفاً من هاوية لا يدريها ولا يجب (إن كان وجودياً عاقلا) أن يفكر فيها، فما عليه إلا أن يعرف أنه هكذا وجد! - هو الذي يخلق جبلة لنفسه بنفسه حال صراعه مع الكائنات الأخرى ومع الطبيعة في سبيل الحياة. . . وما عدا ذلك أوهام وترهات!
وأود أن أطمئن من يجد في هذه النظرية شيئاً من التناقض أو الغموض بأن سارتر نفسه يعاني من هذه الحال، ويعز عليه أحياناً أن يكون هذا حظه في فهم المذهب الذي به يعيش؛ فلا يستحي أن يقول إن التناقض والغموض من أغراض الوجودية، لأنها تصوير (صادق) للحياة بما هي، والحياة كلها متناقضات ومعميات!
فإذا قلنا لهم: في أي منطق يصح هذا ويستقيم، وبأي عقل يمكن أن نسيغه أو نقبله؟ وجدنا الجواب حاضراً - فهم قوم أعدوا لكل شيء عدته، ولكل محتمل جواباً، ولا يتهافت على الهبوط إلى وكرهم للاندماج في عصابتهم إلا كل بارع في فن الجدال والمداورة، وفي فن التمويه والمكابرة - فما أسرع ما يقولون وما علينا إذا لم تفهم البقر!.
وفي شرح هذه النظرية والدفاع عنها ألفت كتب وأبحاث. كما أن سارتر يدير مجلة في فرنسا لهذا الغرض هي (العصور الحديثة)
والشعار الذي يقدمونه لكل مطلع على مؤلفاتهم هو (الحرية) وأنهم دعاتها وحماتها. وتحت هذا الشعار - مهما خدعوا بالألفاظ المزورة واصطلاحات الشعبذة - تسير جيوش الإباحية وادعة آمنة. (أنا حر فأنا إذن موجود) هذا هو شعار القوم. ولكن الحرية هنا ليست بالمعنى الذي نفهمه معشر الشرقيين، أو الذي يفهمه معظم سكان العالم، وإنما هي من ذلك النوع الذي نادى به أجدادهم ومن هم على شاكلتهم قبل اليوم بعشرات السنين
الحرية هنا هي أن يتمتع الإنسان بكل شيء وعلى أي نحو بشرط ألا يندم بفعل أي شيء وإلا كان وجوده ناقصاً (أو كان غير موجود!) واسمحوا لي أن أكون أكثر حرية من ذي قبل حتى أستطيع أن أحدثكم عن هذه الحرية الجديدة.
ومهما يكن من أمر ما نادى به سارتر من (وجوب أن يكون الأدب صورة للقارئ) أو الكاتب أو حتى البيئة - وقد أثير ذلك في بعض مجلات مصر العريقة - فإني لم أقف على هذا متحققاً فيما بين يدي من مؤلفات سارتر ولم يكن ليهمني أن أقف عليه قدر ما كان يهمني أن أحلل هذه المؤلفات من حيث هي ومن حيث هي وسائل وضعت لغرض مخصوص هو نشر مذهب معين وأقصد به الوجودية كما يقول بها سارتر.
وما عدا الخطوط الأساسية التي هي أصول (المذهب) والتي أشرنا إليها آنفاً، فإن مما يلفت النظر - وقد أجمع جمهور النقاد الفرنسيين عليه - هو أن سارتر يفرض على نفسه دائماً أن يبرز أشخاصه الروائية وهي (تقترف عملا من الأعمال) مريباً أو غير مريب، فهذا أمر ثانوي، لأن جميع القيم المتعارفة كلها (مُتَوَهمات) - ويشرح اتجاه هذه (الأعمال) وما يجب أن تكون عليه كقاعدة مثلى للآداب عامة والوجودي منها خاصة، فيقول في بعض رواياته وهي (سبل الحرية)
(هاأنذا موجود أتذوق نفسي، إني أحس بالطعم القديم للدم وللماء الحديدي، وذوقي هو أني أتذوق بنفسي. إني أوجد والوجود هو هذا: أن أتمتع بنفسي وأرتوي منها بدون ظمأ. أربعة وثلاثون عاماً، أربعة وثلاثون عاماً أتذوق فيها نفسي، وقد كبرت - قد اشتغلت وانتظرت وبلغت ما كنت أريد: مارسيل وباريس والاستقلال، وقد انتهى كل شيء فلا أنتظر شيئاً بعد ذلك)
هذا الشذوذ الأعمى هو بيت القصيد في الوجودية السارترية. ولكي يهون الأمر على المضللين به أخرج قصة غاية في السخف والتهافت دعاها (الذباب) ترمي إلى إبطال الألوهية إطلاقاً وإلى إنكار القيم الاجتماعية، وبالتالي يستتبع هذا بالطبع الإباحية الهمجية حسب القانون الذي استنتجناه في أول الكلام، وحسب ما يفهم من كلامه في غير هذه القصة وإن كان يرمي إلى هذا من طرف خفي، أو من وراء حجاب بتعبير أوضح، وهذا أخطر الخطر: فلا شيء هو الإله ولا شيء هو العلم ولا شيء هو الحب أو البغض أو الغنى أو الفقر له وجود، وإنما هنالك شيء هو الوجود حقيقة ألا وهو الحرية يتمتع بها الآدميون). .
(يتبع)
إبراهيم البطراوي