الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 829/قضايا الشباب بين العلم والفلسفة

مجلة الرسالة/العدد 829/قضايا الشباب بين العلم والفلسفة

مجلة الرسالة - العدد 829
قضايا الشباب بين العلم والفلسفة
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 23 - 05 - 1949


للأستاذ إبراهيم البطراوي

قليل من المصلحين الاجتماعيين هم أولئك الذين يبحثون مشكلات الشباب بحثاً جدياً لوجه الحق. واقل من هؤلاء أولئك الذين يوفقون في حل لا تتدخل فيه الأغراض الخبيثة ولا العناصر الذاتية التي تختلف وتتعدد تبعاً لاختلاف الأفراد وتعدد الجماعات.

والشباب بين هؤلاء وهؤلاء يضطرب في مسالك الحياة حائراً لا يدري - وسط هذا التناقض الفكري والمذهبي في كل مظاهر الحياة تقريباً - لا يدري

ما يأخذ، ولا يدري ما يترك، ولا يدري ما يفعل؛ ولكن لديه طاقة فتية يتأجج أوارها ولا بد له من استنفاذها على أي وجه من الوجوه.

وأنا لنراه - برغم تعدد السبل التي يسلكها في استجابته لرغباته ونزعاته - يصل إلى نتيجة واحدة هي (الشك): الشك في القيم والمثل، لأنها لم تتكاتف في الأخذ بناصره وتحقق غايته؛ والشك في العرف والأوضاع، لأنها تتجاهله في أكثر الأحيان؛ والشك في السياسة، لأنها تتملقه لنيل مآربها؛ والشك في كل شيء حتى نفسه، لأنه اصبح لا يرضى عن شيء حتى نفسه: لهذا نراه قلقاً متبرماً بكل شيء، ثائراً على كل شيء.

ويحاول المصلحون الاجتماعيون أن يعزوا هذه الظاهرة - ظاهره الثورة في الشباب - إلى عوامل فسيولوجية وسيكولوجية (معينة) يستغلها أرباب المذاهب السياسية والاقتصادية في تحقيق غاياتهم بإثارتها بأنواع المثيرات المغرية.

ويبدأ أولو الأمر يعالجون المشكلة على هذا الأساس، ولكنهم عبثاً يحاولون أن يصلوا إلى نتيجة.

وانهم ليخطئون كثيراً حين يقدرون انهم حصروا العلة في هذه الدائرة الضيقة.

والواقع أن الأمر أعظم واخطر بكثير مما نتصور، بحيث تتضاءل بجانبه جميع الاحتمالات التي قدرنا حتى الآن: أنه يتخطى العوامل الفسيولوجية والسيكولوجية إلى ما وراءها: إلى تلك الحواجز القوية التي تضبطها وتمنع انفجارها وانحرافها، بل وتحول بينها وبين الاستجابة لأي مؤثر في غير ما رسم لها.

نعم، إن الاتجاه يهدف إلى وراء هذه الجزيئات، إلى الكليات، محاولاً القضاء عليها حتى يكون ثمة شيء يقف في سبيله بعد ذلك. هذا الشيء الذي يخشاه أرباب المذاهب السياسية والاقتصادية، ويحسبون له ألف حساب، متحينين كل فرصة وكل وسيلة للقضاء عليه هو (الدين). ويتذرعون بمختلف الحيل والأحابيل لإلغاء فطرة الله: تارة باسم الحرية الفردية، وتارة باسم الأدب والفن، وتارة باسم العلم والفلسفة، وتارة باسم الوجودية، وتارات بإشاعة الفجور ومغرياته بمهوناته من الحاديات وأشياء يزعمون أنها طابع العصر وعنوان المدينة!

والشباب موزع يحس صراعاً في ذات نفسه - من حيث يدري ولا يدري - بين هذه الفلسفات والمثيرات، وبين ما ورثه من حقائق الدين، وعقائد الألوهية، ومواضعات العرف. ونتيجة لهذا تتشتت قواه وتنقسم شخصيته بين عاملي الشك واليقين، وثم تتملكه الهموم ويتنازعه الشقاء، وما يستتبع ذلك من نزعات منحرفة قد تودي بحياة الشاب في بعض حالاتها. وأضننا ما زلنا نذكر تلك النزعة الرومانتيكية التي طغت على أوربا حيناً فغشيتها آنئذ موجة الانتحار المشهورة، والتي هونت على الشاعر الألماني الفيلسوف جوته سبيل الانتحار تخلصاً من يأس الشك، حتى يرى ماذا يكون وراء الطبيعة، أحقيقة هو أم كذب بقوله لنفسه: (لتقتحمي الطريق الذي يوصلك إليه حتى ولو اعترضتك نيران الجحيم المستعرة). . . لولا أن تداركه لطف الله. وربما يحدث غير ذلك، فينغمس الشاب في الشهوات تخلصاً من آلامه حتى يهلك. وما إلى ذلك من مآس لا يسمح المقام بذكرها.

ولكن أين إذن موضع الحق من ذلك كله؟

هذا ما سنحاول الكشف عنه فيما يلي:

رأينا فيما سبق كيف أن الاجتماعيين جانبهم التوفيق في تلمسهم أسباب الثورة عند الشبيبة في حدود العوامل الفسيولوجية والسيكولوجية ليس غير؛ فتورطوا في غلطة لن يغتفرها التأريخ لهم أبداً، وهي نصحهم بالعلاج السيكولوجي لنفسيات الشبيبة، فماذا ترون إذن يكون هذا العلاج؟

لاشيء عند السيكولوجيين غير حل العقد الفرويدية وما إليها بالطرق التي نعرفها جميعاً، وغير تجنب عوامل الكبت بما يسمونه (التنفيس)؛ وفي سبيل هذا التنفيس يهون كل مرتخص وقال. ويجب قبل كل شيء أن نعرف أن الحياء مرض نفسي، ولا يمكن أن تكون النفس كاملة إلا بإزالة هذا المرض الخطير (يعني بقلة الحياء)! ومن أجل التنفيس لا بأس عندهم من إباحة شيء من المحرمات (ولكن في حدود الاعتدال) هكذا يقولون! ومن عوامله في الغريزة الجنسية مثلاً الاختلاط والرقص وترويج الوريقات الخليعة التي تسير على مذهب الصراحة الجنسية، وما في هذا المعنى الفاجر.

وكأن حال لسان السلطات يقول: إن لم تكن هذه الأشياء مجدية، فهي على كل حال ملهية! إي والله! إن هذا هو ما حدث! ويل لهؤلاء المحترمين إن سكتوا بد اليوم عن هذا الحال وظلوا هكذا متشبثين بذنب الحية دون رأسها!

ألم يعلموا أن هذا العلاج الجنسي والنفسي إشاعة للفجور، وأن ترويج المفاسد والفجور هو أفعل سلاح قضى على العقائد والمبادئ حتى الآن؟!

والقانون الذي يمكن أن نستنتجه من استقراء حوادث التأريخ قديمها وحديثها هو (أن الثورات وليدة الفجور والإباحية التي معول الأديان والعقائد). وإن أصحاب المبادئ السياسية والاقتصادية لا يمكن أن تتنسم مبادئهم الحياة إلا عن طريق هذا الذي استنتجناه الآن وسميناه - ولو على سبيل المجاز - قانون الهدم الاجتماعي.

والقاعدة التي نستخلصها من تطبيق هذا القانون هي أن كل ملحد أو داع إلى إلحاد لا يمكن أن يكون غير واحد أو أكثر من هذه الثلاثة: (استعاري، إباحي، مغفل كالقرد لا هم له إلا أن يقلد، فهم أو لم يفهم). ولا يجوز أن يتعدى الملحد بأي حال هؤلاء الثلاثة.

تلك مقدمات لابد منها لكي نعرف هل الملحدون الذين بلبلوا أفكاراً ورطونا في هذه الأزمات النفسية الخطيرة - يؤمنون حقاً بمبادئهم تلك، أم أن لهم غايات أخرى وراء ما يظهرون؟

وإذ كانوا هم لا يؤمنون بهذه النظريات ذاتها إلا بقدر ما بقدر ما نحق لهم من أغراض كما أثبت التاريخ على نحو ما رأينا؛ فواضيعة أعمارنا وزهرة شبابنا في شيء ليس له حتى عند أصحابه وجود!

على أننا متى عرفنا هذا وتيقناه؛ فلن تسحرنا أقوالهم ولن نقع - بعد اليوم - في شباكهم، وكفانا بهذه المعرفة العاملة سعادة!

والآن يبدو لي أننا بحاجة لأن نمتطي الزمن لحظات عبر التاريخ في سياحة علميه نلم فيها إلمامه قصيرة بشيء من ختل هؤلاء الممثلين البارعين: هذه هي فرنسا ظهر فيها فولتير وروسو (باسم حماة العدل، ورافعي الظلم، ودعاة الحرية بإنارة الفكر، وهداية العقول).

وبدأ راهبا (الحرية) هذان ينشران مبادئهما التي تتلخص في تسفيه الأنبياء وإنكارهم الألوهية بزعم أنها خرافات. وان الدين الحق هو دين الطبيعة الحرة، والمعبود الحق هو الشهوة. . .

وبذلك حدثت المآسي الخلقية التي يذكرها التاريخ خجلاً، والتي رأينا صورة منها في اعترافات روسو نفسه.

وعلى أثر تسمم الناس في هذه الآراء قامت الثورة المعروفة على أنقاض الدين.

وهذه هي الروسيا لم تتمكن فيها مبادئ ماركس من الوجود إلا على أساس الشيوعية الإباحية التي أعقبتها الثورة على الدين والنظم السياسية والاجتماعية والقضاء على ذلك كله.

والأمثلة تفوق الحصر ولكن ليس هذا محلها: إنما اقتصرت على مثالين حديثين يذكرهم ويعرف تفاصيلهما كل منا، وإن التأريخ اجمع من أوله إلى آخره هو حجتي وبرهاني على صدق الأرقام التي ذكرت: فما من صاحب مذهب الحادي إلا وله قصد غير الإلحاد في ذاته.

أما في الأمم التي لم تنضج ثقافتها فإني أصدق أن فيها من يلحدون إخلاصاً للإلحاد ذاته أو لأن الإلحاد قال به ديكارت أو فلان من الناس، أو للاشتهار بالمخالفة. . .

ويعلم الله أنهم - على حسب مقاييس سادتهم الغربيين - لا يفهمون من معاني هذه الألفاظ التي يتشدقون بها غير أسمائهم، وأن التقليد الجاهل فيما يضر ولا يفيد - إن دل على شيء - فليس إلا على أحط دركات الانحطاط الخلقي والعلمي أما الذين يدعون إلى الشك بدعوى العلم قد قال به في يوم من الأيام، فلست أدري إن كانوا يفهمون حقاً ديكارت ذاك، هل شك ديكارت في الأديان وفي العلوم وفي التأريخ لأنه قديم وكفى؟ وهل كان يصل إلى نتيجة لو أنه قدر وحدث هذا؟ آخره آ

ومهما يكن فيا ليت هؤلاء فعلوا ما فعل ديكارت؛ إذن لكنا جنينا من ورائهم خيراً كثيراً كما جنت العلوم بل والأديان من نهج ديكارت هذا الذي يضللون به السذج ممن لم يعرفوا حقيقته

(جاء في الجزء الثالث من دائرة معارف من قواعد فلسفة ديكارت أن ما وجد في الذهن واضحاً جلياً فهو حق يجب أن يسلم به تسليماً) أين هذا من قولهم بالشك في التأريخ والدين وفي كل قديم لأنه قديم وهذا حسبه؟ (لم تكن عظمة ديكارت راجعة إلى أنه شك؛ ولكن إلى أنه اهتدى بالبحث إلى طريق وصله إلى اليقين) (على أنه حين أخذ الشك يساوره كان غلاماً ناشئاً لم تجاوز سنة العشرين (ولما يتم دراسته الجامعية) فشكه حينئذ لم يكن ليحتج به)

ولكنه على كل حال بحث وجد في بحثه حتى توصل إلى أن قال كلمته المشهورة (أنا أشك فأنا إذن موجود) ثم قال بعد ذلك (إني مع شعوري بنقص ذاتي أحس في الوقت نفسه بوجود ذات كاملة، وأراني مضطراً إلى اعتقادي بأن هذا الشعور قد غرسته في ذاتي تلك الذات الكاملة المتحلية بجميع صفات الكمال وهي الله)

وقد اعتذر ديكارت الكهل نفسه عما بدر منه أيام الشباب برسالة صغيرة أخرجها للناس في سن الأربعين بين فيها كيف تخلص من أزمة الشك إلى اليقين بهذه الطريقة العلمية الرائعة التي يعرفها التاريخ باسمه عنوانها (مقال في الطريقة).

ومن أهم مبادئها كما شرحت في دائرة المعارف البريطانية إننا لا نقبل شيئاً ولا نسل به ما لم يختبره العقل اختباراً دقيقاً ويتحقق من وجوده بما ليس فيه أدنى ريب؛ فكل ما كان مصدره الحدس والتخمين يجب رفضه ونبذه قطعاً.

يجب أن يكون بحثنا على الترتيب الآتي من البسيط إلى المركب ومن الصعب إلى الأصعب.

ومن أهم شروط صحة البحث ألا نحكم بصحة رأي أو مقدمة أو خطأ حتى تتحقق من ذلك بالامتحان.

ولو أننا طبقنا هذه الحقيقة على ما يرجف به السادة المشككون باسمه، لقضت على آرائهم في مهدها، ولاستراح الشباب والشيوخ من سفسفاتهم وترهاتهم. . .

(للكلام صلة)

إبراهيم البطراوي