مجلة الرسالة/العدد 829/الأعلام والروايات
→ صور من الحياة | مجلة الرسالة - العدد 829 الأعلام والروايات [[مؤلف:|]] |
فلسفة طاغور الأخلاقية: ← |
بتاريخ: 23 - 05 - 1949 |
للأستاذ أحمد رمزي بك
أرى الراية الصفراء يرمي اصطفاقها ... بين أصفرٍ بالراعفات اللهازم
فتستبي فلسطيناً وتجبى جزائراً ... وتملك من يونان أرض الأساحم
إن التاريخ الإسلامي بأكمله لا يزال بكراً لم يدرس بعد الدراسة العلمية الصحيحة. وأغلب ما نشر من الكتب الحديثة عنه هو من قبيل جمع المعلومات وتبويبها ولذلك جاء أكثر ما بيم أيدينا من المطبوعات وهو لا يتعرض لحل مشكلة مشكلات البحث ولا قضى بأمر نهائي في مسألة مستعصاة.
وقد أثير أخيراً في مجلة الرسالة موضوع لون الراية التي أتخذها صلاح الدين لجنوده، واتخاذه اللون الأصفر الذي بقي علماً للأيوبيين ولملوك مصر من دولتي الأتراك والشراكسة.
والكتابة عن موضوع الأعلام وألوانها، قد تكون جزءاً من الكتابة عن أنظمة الجيوش الإسلامية وتقاليدها، وقد تكون جزءاً مما أطلق عليه القدماء اسم ترتيب المملكة ونظام المواكب العظام. . .
ويدخل في ترتيب المملكة نظام الملك وتقاليده وأبهته وقواعد المراسم في الحفلات العامة.
وكل هذه المسائل لم تدرس بعد الدراسة الكافية في الدول الإسلامية ابتداء من عهد الخلفاء الراشدين إلى نهاية الدولة المملوكية أو إلى نهاية الدولة العثمانية، ثم قيام الأسرة العلوية بمصر.
وقد تعرض لمثل هذه الأبحاث المرحوم جورجي زيدان بك في كتابه عن تاريخ التمدن الإسلامي، واعتقد ما أن جاء في هذا الكتاب هو من قبيل جمع المعلومات المتفرقة، لا من قبيل الدراسة العلمية الصحيحة، ولم يصل إلى علمي بعد أن هناك من تعرض لدراسة هذه الأمور دراسة علمية سوى الأستاذ (ماير) بالجامعة العبرية بمدينة القدس الذي أخرج كتاباً عن (الرنوك) فوضع بذلك أساساً علمياً يصح أن يتخذ لزيادة الأبحاث وتطورها ومعرفة أصول الرنوك وألوانها وهو عمل يحتاج إلى عناية وتدقيق وإلمام بالغات الشرقية ومدنيات الشعوب الطورانية ولهجاتها ومقدار تأثرها بمدنيات آسيا وكل هذا لا شك أ، المستقبل كف بتحقيقه.
أما ما يخص جانبي ترتيب المملكة وتنظيم الجيوش، فكل دولة من الدول الإسلامية لها طابعها الخاص بها. ويمكن فيما يخص مصر أن نقسم البحث إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: ترتيب المملكة في زمن الخلفاء الراشدين إلى آخر الدولة الإخشيدية.
القسم الثاني: الدولة الفاطمية.
القسم الثالث: الدولة الإسلامية التي بدأت من عهد صلاح الدين إلى ابتداء الحملة الفرنسية.
أما الكلام عن القسم الأول، فكان ولا يزال ميداناً للبحث والاكتشاف العلمي وجمع المعلومات، ويظهر أنه كان محاطاً بالغموض في العصور الماضية بدليل أن صاحب صبح الأعشى يقول أنه لم يتحر له معرفة ترتيب المملكة فيها، والظاهر له أن أغلب النواب والأمراء حينئذ كانوا على هيئة العرب واستمروا كذلك حتى ولى مصر أحمد بن طولون وأبناؤه فأحدثوا فيها ترتيب الملك. وهذا الباب الأخير من القسم الأول أي من ابتداء الدولة الطولونية إلى نهاية الإخشيدية يحتاج إلى عناية الباحثين، والدخول فيه عسير لأن مواده لا تزال قيد البحث والتنسيق.
فإذا دخلنا العصر الفاطمي، نجد أنه كان موضع عناية المتقدمين وأن بين أيدينا مادة للبحث مدونة ومبوبة وتصلح للدرس والمقارنة.
أي أنه توسع الكاتب أن يتناول ترتيب المملكة ترتيب المملكة من جهة نظام الملك وتقاليده وأبهته وقواعد المراسم في الحفلات العامة كما قلنا، ثم يعرض لملابس التشريفة الكبرى وما كان يلبسه الخاصة والعامة والجند والأمراء، ثم يخلص إلى الآلات الملوكية المختصة بالمواكب العامة كالتاج وشدة الوقار والمظلة وغيرها.
أما الأعلام في العهد الفاطمي بالذات، فيحتاج درسها إلى احتراس شديد، وكذلك دراسة السلاح وأصناف الجند وتعبئتهم في الصفوف والمواكب، وأعتقد أن لدينا من المواد المعلومات ما يجعل دراستها تحت متناول يد الباحث، لو كان ملماً بالقواعد المعمول بها في العالم الآن، إذ لكل دولة من الدول القائمة ومنها مصر مراسمها الخاصة بها وتقاليدها، كما أن لجيوش البر والبحر قواعد تختلف بعضها عن بعض ولكنها ترجع في النهاية إلى أصول متعارف عليها. وقد نجد في بعض هذه الأنظمة بقايا من أثر الشعوب الشرقية واضحاً ملموساً.
فإذا اطلعنا على أنظمة الجيش البريطاني، نجد أن قواعد الأعلام والرايات واستعمالها منظمة فيما يخص ما يرفع منها للملك وللقواد ولأصناف الفرق، ونجد قواعد التحية بالمدفعية وأنظمة خاصة بالموسيقى.
وما يقال عن الجيش البريطاني ينصرف أيضاً إلى الجيش الإيطالي، فقواعد التحية بالأعلام وغيرها منظمة في كتب معمول بها يطلق عليها
فهذه قواعد قائمة إلى اليوم ونحن في حاجة إلى الإلمام بها وتعرفها قبل الدخول في موضوع الأعلام والرايات ولو كان الكلام عنها تاريخياً؛ إذ أنه إخراج ما في بطون الكتب من المعلومات وتنسيقها يحتاج إلى تفهم ما يجري به النظام والعرف في الوقت الحاضر لكي يجيء عملنا على أساس علمي.
قرأت في البحث الذي نشرته مجلة الرسالة للأستاذ بدوي قوله في تبرير اختيار صلاح الدين للراية الصفراء (وكان في ذلك إشارة إلى أن مصر وإن كانت قد عادت إلى أحضان الدولة العباسية - فهي مستقلة ذات كيان خاص بها)
وأختلف معه فأقول:
أولاً: إن إعادة الخطبة لبني العباس لم يجعل من مصر ولاية عباسية وإنما كان هذا العمل دينياً أكثر منه سياسياً أو إذا شئت هو إعادة اعتبار المذهب السني وضم ولاية من الولايات إلى الأقطار التي تدين بالولاء الديني لخليفة بغداد.
ثانياً: إن صلاح الدين حينما اتخذ اللون الأصفر وإن كان يؤمل في الاستقلال بولاية أو سلطنة لم يقصد ولم يبرر عمله باختيار لون خاص يضعه على أعلامه.
أذن علينا أن ندرس لون العلم على أساس غير هذه الناحية التي أشار إليها الأستاذ بدوي ويخيل إلي إن العصر امتاز بوجود نظامين: نظام الخلافة العباسية،. ونظام الملك. وعلى هذا يمكن استخلاص بعض الحقائق الملازمة لهذا الاختيار:
للخلافة شعارها وللسلطنة شعارها:
إن اختيار اللون الأسود لبني العباس قديم والكلام عنه يخرجنا عن غايتنا. وهو لون اشتهر به بنو العباس وأصبح شعاراً لهم منذ إنشاء الدولة العباسية ولا يفهم من هذا إن نظام الدولة العباسية وترتيب الملك فيها حرم استعمال لون آخر بل كان للدولة عدة رايات وأعلام مختلفة اللون والشكل بدليل ما جاء في الطبري إن أحد الخلفاء ولعله المتوكل على الله ٍنصب علناً أبيض اللون وسماه لواء العمل وهذه ناحية كما قات تبعدنا عن الغرض الذي رسمناه لأنفسنا. ولذلك أعود إلى القرن السادس الهجري وأقول: أنه ورث كما كان متبعاً في القرنين السابقين: الخامس والرابع، أي ابتداء من دولة بني بويه ثم قيام الدولة السلجوقية فالذي المسه هو أن العالم الإسلامي الذي يدين بالولاء الديني لبني العباس عاش في تلك الحقبة من الزمن وبلادة تحمل شعارين: شعار الخلافة بأعلامها وألويتها وتقاليدها وشعار المملكة أو السلطنة بترتيبها وألويتها وإعلامها.
ولم يكن هناك ما يحول دون قيام الشعارين أو النظامين في وقت واحد ولذلك اجزم بان صلاح الدين حينما أعلن الخطبة لبني العباس وأقام شعائرهم في المساجد جاء إلى مصر ومعه شعائر السلطنة أو المملكة المتغلبة. وهى منبثقة من نظام الدولة السلجوقية التي كان يتبعها الأتابكة ولو في مظهرها وشعائرها، ومنهم نور الدين الشهيد الذي فتح صلاح الدين مصر باسمه. وكان تابعا له وقائدا من قواده على راس جنود من التركمان والأكراد الذين يدينون بالولاء للدولة الأتابكية التي تخضع في أنظمتها وتقاليدها لآل سلجوق الذين يمثلهم رغم استقلال الولايات وتغلب المتغلبين عليهم ما يطلق عليه.
سلطان السلاطين أو ملك الملوك:
وكان هذا اللقب من مسميات الدولة السلجوقية وهو لا يطلق إلا على من يكون في ولايته ملوك تحت سيطرته. فالملك في نظرهم من يملك مثل الشام أو مصر أو مثل أفريقية أو الأندلس وتكون عدة عسكره عشرة آلاف فارس على الأقل.
فإن زاد بلاد أو عددا الجيش كان اعظم في السلطنة وجاز له أن يطلق عليه السلطان الأعظم فأن خطب له في مثل مصر والشام والجزيرة، ومثل خراسان وعراق العجم وفارس، ومثل أفريقية والمغرب الأوسط والأندلس كان سمته سلطان السلاطين السلجوقية) اهـ. قاله ابن فضل الله في المسالك نقلا عن على ابن سعيد.
تقليد سلطان السلاجقة: ولدينا وصف كامل للمراسم التي اتبعتها خلافة بغداد في تقليد سلطان السلاجقة وهي جديرة بالتأمل والدرس؛ لأنها تعطينا صورة حية لأساليب هذا العصر ثم تجعلنا نعود إلى أوائل دولة بني بويه فنجد أن هذا التقليد اتبع في عهد عضد الدولة فناخسرو الذي كان أول من خوطب في الإسلام بالملك شاهنشاه. ولدينا صورة لتقليد صمصام الدولة سنة 373هـ لا تختلف في مظاهرها عن تقليد السلطان السلجوقي سنة 447 هـ. ونعود إلى هذه الحفلة فنعرضها كما جاءت في كتب الأقدمين:
جلس الخليفة القائم بأمر الله يوم السبت 25 ذي القعدة سنة 447 هـ دخل عليه سلطان السلاطين طفرل بك.
توج وطوق وسور.
أفيضت عليه سبع خلع سود في زيق واحد واتخذت له بها مملكة الأقاليم السبعة.
شرف بعمامة مسكيه مذهبة فجمع بين تاجي العرب والعجم.
لقب بالمتوج والمعمم.
قلد سيفا محلى بالذهب.
عاد وجلس على الكرسي.
قام ورام تقبيل الأرض فلم يتمكن لموضع التاج الخسروي.
سأل مصافحة الخلفة فأعطاه يده دفعتين
قلده سيفا آخر كان بين يديه.
ختم له بتقليد السيفين، فقلد ولاية الدولتين.
خاطبه بملك المشرق والمغرب.
من ذلك يتضح أن تقليد الخليفة للسلطان تم بمقتضى مراسم موضوعة روعي فيها جلال سلطان الخلافة وعظمة سلطان الأرض.
قارن هذه المراسم بحرص الملك الظاهر بيبرس أن يتم تقليده طبقا لها عند إعادته للخلافة العباسية في مصر مع اختلاف في بعض مظاهرها.
(للكلام بقية) أحمد رمزي