مجلة الرسالة/العدد 828/أمم حائرة
→ ../ | مجلة الرسالة - العدد 828 أمم حائرة [[مؤلف:|]] |
الأدب بين عالمين ← |
بتاريخ: 16 - 05 - 1949 |
4 - أمم حائرة
الهداية والرقابة
لصاحب العزة الدكتور عبد الوهاب عزام بك
وزير مصر المفوض بالمملكة السعودية
إن قامت الجماعة على غير طريقة، وعملت على غير خطة، فكيف تستقيم على محجة، وكيف تقصد إلى غاية؟ وإذا انبهمت الغاية، واشتبهت السبل، ساغ لكل جاهل أن يدل على الطريق، واستطاع كل ناعق أن يقول: (هذا هو النهج) وليس بعد هذا إلا الضلال والحيرة.
لابد من عقل رقيب، وفكر ناقد ورأي سديد. ولابد أن يكون للعقل والفكر والرأي طريقة تؤدي إلى الناس نصيحتها، ونظام يعرف الناس بدعوتها، وقانون ينفذها فلا تضيع الآراء السديدة في ضوضاء المضلين، وصيحات المبطلين. ولابد من رقابة الجماعة ومن سلطانها متمثلين في نظام الحكومات وفي الطوائف التي تقر لها الجماعة بالهداية والرقابة والتقويم.
إني لأرى أموراُ تحدث في نظام الأسر وسنن الجماعة، لا يعرف كيف نشأت؛ وهي لا تجد من أولى الشأن رعاية إن كانت صالحة، ولا حرباُ إن كانت فاسدة. وأرى كثير من العادات تشيع على كره عقلاء الأمة والمصلحين فيها. فأسأل نفسي وأسأل أصحابي: لمن قيادة الجماعة؟ وبأي يد أزمتها؟ فأرى أحياناً مبتدعي هذه العادات الكريهة، ودعاة هذه العادات السيئة، من أصحاب الهوى المولعين بالتقليد، أو طائفة من التجار الساعين وراء الكسب بأية وسيلة، ومن أصحاب الملاهي أو وأشباه هؤلاء. فهؤلاء يقضون في أمور تحسب هينة، وهي في سير الجماعة ذات عواقب وخيمة؛ يراها المفكرون المبصرون وتكل عنها أبصار من لا يتجاوزون الظاهر، ولا يدركون ما بعد اليوم. هؤلاء ومن ورائهم الدهماء، يسيرون الجماعة أحيانا بأهوائهم ومآربهم، ويدعو الخيار فلا يستجاب لهم، ويقول المصلحون فيسخر منهم، ويغضي أولو الأمر تهاونا واحتقاراً، عن أمور يرونها صغيرة وما هي بصغيرة.
قد شمل القانون والنظام كل الجوانب في الجماعات الحاضرة قانون الحكومة وقانون الهيئات التي تقرها الحكومة على اختلاف النظم والأسماء.
كانت الجماعات، فيما سلف، لا ينالها القانون والسلطان إلا في بعض شئونها، ولكن حكومات هذا العصر تشرف على كل شيء، بالإجبار أو الإرشاد، فالتعليم والصحة والرياضة وأمور اجتماعية كثيرة تتولاها الحكومات أو الهيئات تقرها الحكومة وكانت من قبل لا تعنى بها الحكومات إلا قليلا.
فلا جرم أن هذه الحكومات والجماعات المختلفة قادرة على الهداية والرقابة والتقويم والتهذيب إن عنيت بالأمور النفسية والاجتماعية العناية الخليقة بها
وليس على الهداية الرقابة جور على الحرية. فإن الحكومة والهيئات الأخرى مشتقة من الأمة قائمة باختيارها ورضاها. والأمة تغتبط بأن تفيد بكل نظام صالح، وتربط بكل خلق كريم وسنة حميدة، وتصد عما يضر بها ويذهب بسعادتها.
ثم الصحف والمدارس ما خطبها في التقويم والإصلاح والقيام على النشء والإشراف على الجماعة؟ إن خطبها لعظيم. فأين هي من احتمال الاضطلاع بالعبء وتأدية الواجب؟ إن لكل منها لحديثاُ، وأبدأ بحديث الصحافة:
هي من نعم هذا العصر ومحاسنه، وهي من نقمه ومساوئه. وهي عظيمة الخطر كبيرة الأثر في الجماعات. تطلع على الناس صباح مساء بأخبار وآراء، وعلم وفن، وأمر ونهي، وجد وهزل، لا تدع أمراُ مما يهم الإنسان في معيشته الخاصة، أو أحوال الجماعة التي يعيش فيها، أو الأمم الأخرى إلا عرضت عليه خبراُ عنه، أو رأيا فيه، أو نبذة من علم يتصل به، أو فن يرجع أليه، أو تاريخ يبينه، أو قصة تصوره.
وهي تنتشر في كل جانب وتلقى الإنسان في طريقه وداره ومدرسته ومتجره ومصنعه وحيثما كان في شأن عام أو خاص. تطلبه وإن لم يطلبها، وتقتحم عليه وإن لم يدعها.
وأمر الصحافة أبين وأوضح، وأشيع وأجليمن أن يعني الكاتب ببيانه، أو يحس حاجة إلىالكلام فيه.
فانظر كيف أثرها إن صدقت، وتحرت الصدق، وطلبت الحق، وأخلصت في طلبه، وعملت للخير ودعت إليه، وسارت على طريقه لا تحيد ولا تضل، ولا تميل ولا تزيغ ولا تجور ولا تحابي!
وانظر كيف أثرها إن خلطت صدقاُ بكذب، ولبست حقاُ بباطل، وعملت لنصرة فرد أو طائفة أو حزب، وزينت لها العصبية أن تزين كل ما يقول حزبها وما يفعل، وإن تقبح كل ما ينطق به خصمها وما يعمل! وانظر كيف أثرها إن بغت الانتشار والربح بكل وسيلة، واحتالت لهما بكل حيلة، ولم تبال صلاح الناس وفسادهم ولا خيرهم وشرهم! وانظر كيف هي إن فتنت القراء وأضلتهم وتركتهم على قلق وتردد في آرائهم وأعمالهم، ولبس وحيرة في أخلاقهم وآدابهم. وأقامتهم في بيداء مضلة لا تبين سبلها ولا تعرف أعلامها؟ كيف أثرها إن احتالت على القراء بما يهوي القراء، وبما يستهوي الدهماء من قصة مفسدة وصورة فاتنة وما إلى القصص والصور من أقوال لم يصدرها عقل ولم يراقبها وجدان. إن الداء عضال وإلى الله المشتكي.
إن الصحافة حبر ورأي ودعوة وتعليم. وشروط هذه كلها التثبت والنقد وقصد الحق والخير والإخلاص فيه ابتغاء وجه الله، فليس كل ما يسمع من أخبار يروى قبل التثبت والتحري. وليس كل ما يصح بعد التثبت والتحري ينشر حتى ينظر هل هو جدير بالنشر؟ أيستحق أن يذكر؟ أليس في نشره إثارة فتنة أو إضرار بفرد أو جماعة، أو إفشاء لسر يحسن أن يكتم، أو إظهار لأمر يجمل أن يسر؟ ومرجع هذا كله إلى وجدان القوام على الصحف وعملهم وبصرهم وإخلاصهم. وإن لهم من أولئك رقيباُ أكبر من كل رقيب وأعظم شأناُ وأقوى سلطان من الحكومات والقوانين.
وأما أن يختلق الخبر، أو ينشر تثبت، أو يذاع لنكاية أو لتشنيع أو تسميع أو إثارة فتنة فيها هوى للناشر أو مصلحة له أو لحزبه، فهذا تنكره مروءتنا وأخلاقنا وديننا وتاريخنا. ومهما يقل القائلون في حرية الأخبار وحق النشر، فلن يجد من عقولنا مقبولاُ ولا في ضمائرنا رضا، فليتق الله في أنفسهم ومواطنيهم وأمتهم وفي الناس جميعاً هؤلاء الكاتبون والقائمون على الصحف.
وأما الرأي فعماده علم ونظر وترو. فإن رمي بالرأي دون إحاطة بموضوعه، أو دون تفكير فيه، أو بغير إعمال الروية كان حرباُ أن يبعد من السداد، وأن يخذله الرشاد، وكان خليقاُ أن يضل ويضل ولا يصلح.
فهل الآراء التي تطلع الصحف صباح مساء، أعطيت حقها من المعرفة، وشرطها من الروية، وحظها من الإخلاص؟ أي فارق بين الكاتب الذي يكتب فيما لم يحط به علماُ، وبين المعلم الذي يتكلم على تلاميذه وهو لم يحط بدرسه ولم يوفه بحثاُ وفكراُ؟
هذا، إن حاد بالرأي عن الصواب جهل أو تهاون أو عجلة. فما بالك إن زاغ به الهوى، وأربد به تضليل، وقصد به إلى مأرب؟ وكيف إذا اختلفت الأهواء وكثرت الآراء وكلها لا تهدي إلى الحق، ولا تبغي الخير، ولا تبالي إلا بهزيمة الخصم والتسميع به والقارئ الساذج في حيرة بين الآراء المتصادمة، والأهواء المتقاتلة حتى يميل به طبعه أو هواه إلى جانب، أو تستمر به الحيرة والضلال. إن كل من يمسك قلماُ ليكتب في صحيفة يتصدى لأمر عظيم، ويتحمل تبعة جسيمة. فليتق الله في كل فكرة يفكر فيها، وفي كلمة يسطرها. ولينظر ما أثر فكرته وكلمته في أمته، وما حق هذه الأمة عليه.
وأما الدعوة فينبغي أن تكون إلى الأخلاق العالية والسنن الصالحة يدعى إليها بكل وسيلة، وتسلك إليها كل سبيل. وينبغي أن يحذر كل الحذر من الدعوة، صريحة أو خفية، إلى التحلل من الأخلاق والفرار من التبعات؛ فإن النفوس قد احتملت أعباء الواجب وصهرت عليها ولم تبال بما فيها من مشقة وحرمان؛ ابتغاء ما هو أعلى وأشرف وأعظم، ابتغاء الحق والخير وإيثاراُ لما هو أجل من خير الناس وصلاحهم. فإن ارتابت في هذه الأعباء الثقيلة ودعيت إلى الدعة، وإيثار الأهون عليها والأحب إليها، والاستجابة إلى الأهواء والإخلاء إلى اللذات والخضوع للمطامع، والسكون إلى سفاسف الأمور والإشفاق من جليلها. صادفت الدعوة منها هوى ولقيت منها إصاخة واستراحة إليها باطناُ وإن نفرت منها ظاهراُ، إلى أن يضعف الوجدان الذي يحجب إلى النفس إيثار الأشق الأعظم من الأمور، وإلى أن تسف الهمة التي تتقدم بالإنسان على الصعاب وتنأى به عن اللذات، استجانة للمعاني الجليلة التي يسير الله بها البشر إلى الكمال الذي قدره لهم.
إن الإنسان يعيش تحت أوقار من الواجبات وأوامر الأخلاق وتكاليف المجد، كما يغيش تحت أثقال من الضغط الجوي. فإن دعي إلى هذه طرح هذه الأعباء واستراح إلى هذه الدعوة هلك كما يهلك إذا خف عنه ضغط الجو. ورب كلمة فاتنة أو قصة ساخرة تنقض في نفس الناشئ أو تزلزل كل ما أمرت التربية في نفسه، وتاريخ البشر في فؤاده! فلينظر الكاتبون وليتقوا الله.
وأما التعليم فكذلك يعمل له الفكر والنظر، ويختار ما هو أنفع للناس وأقرب إلى الصواب من الأمور النفسية والآفاقية على هدى العلم، وإرشاد التجارب وهلم جرا.
ما أقدر الصحافة على الإصلاح! وما أقدرها على الإفساد! وما أكثر المصلح منها في عصرنا هذا وما أكثر المفسد منها! فمن كان مصلحاُ فليزدد إصلاحاُ، ومن كان مسيئاُ فلينزع عن إساءته.
عبد الوهاب عزام