مجلة الرسالة/العدد 827/أمم حائرة
→ ../ | مجلة الرسالة - العدد 827 أمم حائرة [[مؤلف:|]] |
إلى الأستاذ توفيق الحكيم ← |
بتاريخ: 09 - 05 - 1949 |
3 - أمم حائرة
نحن والمدينة الأوربية
لصاحب العزة الدكتور عبد الوهاب عزام بك
وزير مصر المفوض بجدة
أعني بكلامي هذا الأمة المصرية أولا، ويتناول الكلام الأمم المشابهة لها المتصلة بها من العرب والمسلمين بما تشابهت أحوالهم فيما ورثوا من حضارة قديمة، وبما تقارب نظرهم إلى الحضارة الحديثة.
طلعت هذه الحضارة على المشرق مع قوم يعدّهم الشرقيون - ولاسيما العرب والمسلمون - أعداء، سجَّل التاريخ كثيراً من حروبهم ووقائعهم، ولم يخل عصر من إغارتهم على المسلمين، أو إغارة المسلمين عليهم، منذ انتشر الإسلام في غربي آسيا وشمالي أفريقية وفي جنوبي أوربا: أسبانيا وجزر البحر الأبيض ثم البلقان.
وظهرت هذه الحضارة والنزاع مستمر، والمعارك دائرة، ولم يغير أصحاب هذه الحضارة من خططهم، ولا عدلوا عن سِيَرهم، بل استعانوا بما أمدتهم به الحضارة الحديثة من علم وصناعة في الغلبة والسيطرة على من عجزوا عن قهرهم وتذليلهم من قبل.
فلم يكن بد أن ينفر الشرقيون، وبخاصة الدول الإسلامية، إذ كانت مجاورة لأوربا، وكانت صاحبة السلطان في آسيا كلها ما عدا الصين، وفي أفريقية - لم يكن بد أن ينفر هؤلاء من الحضارة التي طلعت عليهم بين الحديد والنار على أيدي أعدائهم القدماء، وطلعت مشوبة بكثير مما يخالف عقائدهم وآدابهم وسننهم.
وسرعان ما أيقن المدافعون عن أنفسهم من أهل الشرق أنهم مغلوبون لا محالة إن لم يدفعوا هؤلاء الأعداء الأشداء، بمثل سلاحهم، ويلقَوهم بمثل عددهم، ويكيدوهم بمثل خططهم وتدبيرهم. فلم يجدوا مناصاً من أن يأخذوا من أوربا حضارتها الصناعية على قدر الطاقة وعلى قدر ضرورات الدفاع.
لم تكن هذه الحضارة موضع تردد، إذ دعت إليها ضرورة الدفاع عن الأنفس والأوطان، ولم تكن موضع ريبة لأنها قائمة على قوانين طبيعية لا تختلف في المشرق والمغرب، ول تلائم أمة دون أمة، ولا تتصل بتاريخ دون آخر، وهي لا صلة لها بالدين والأخلاق والآداب والعادات والعرف والطباع ونحوها.
أخذ المسلمون الحضارة الصناعية على قدر ما مكّنهم علمهم وخبرتهم وأحوالهم، وعلى قدر ما يسرت لهم أوربا الأخذ. أخذوا نتائج هذه الحضارة الصناعية، وحاولوا أن يأخذوا ما تعتمد عليه من علوم وفنون.
ثم أخذوا كذلك ما لم يجدوا مناصاً من المسارعة إليه من نظم للجيوش، ونظم للدولة، ونظم للإدارة.
ثم زاد اتصال الغرب والشرق بالاقتباس والاقتداء، ثم بغلبة الغربيين على كثير من الأقطار وإقامتهم فيها واختلاطهم بأهلها. وأخذت هذه الحضارة أمم الشرق بالرغبة والرهبة. وبالسطوة والزينة، فسايروها راضين وكارهين، وعارفين ومنكرين، وافتتن كثير من الناس فرأوا كل ما أتى من أوربا حسناً، وكل ما ورثه الشرق من تاريخه قبيحاً. وزادت هذه الحضارة إغراء بما ازينت به من مناظر، وما اتصلت به من لذة ولعب ولهو، فلم يقو على معارضتها والصبر على فتنتها إلا قليل.
واشتبهت الأمور، وانبهمت السبل، والتبست الأشياء، فلم يفرق الناس بين طيب وخبيث، ونافع وضار، ومعروف ومنكر، هذه الفتن التي تدع الحليم حيران، فكيف بالجهلاء والعامة في هذا السبل الجارف والطوفان الطام؟
ولم يفرق الناس في هذه الفتنة العمياء، وهذه المحنة الصماء، بين الحضارة الصناعية والحضارة الأخلاقية، ولم يميزوا بين ما يلائم وما لا يلائم، فقاسوا الأخلاق والآداب وسنن الجماعات وروابط الأسر، وقاسوا العقائد والمذاهب، على السيارات والطائرات والغواصات والمدمرات، وعلى البرق والهاتف والمذياع، وفتنوا بالمسرح والمرقص، وبالتزين والتبرج والتعري. واختلط الحابل بالنابل، وضاع الحق في هذه الضوضاء، وضلت المروءة في هذه السوق. ونادى العقلاء فلم يسمع لهم، وقال الحكماء فلم يبالَ بقولهم، وغُلِب الناس على أمرهم حتى أختلف القول والعمل، فترى الإنسان ينكر الشيء ويفعله سيراً مع الدهماء، ويخلفه اعتقاداً ورأياً وقولا ويخضع له في داره بين أهله وأولاده. وبلغت الفتنة أن قال بعض الكبراء وأنا أحاوره في الطرقة المثلى: (إن الطريقة المثلى هي الواقع).
وقد أنكرنا أنفسنا وحقرنا ما عندنا وأعظمنا ما عند غيرنا وأخذتنا الرهبة والروعة من كل جانب. وكم زرينا على أشياء ورثناها وعرفناها، حتى أخذها أهل أوروبا وأعجبوا بها فنقلناها عنهم، ورضينا بها إذ رجعت إلينا من بلادهم، كما هجرنا الهندسة العربية في الأثاث وغيره، ثم حاكيناهم في الإعجاب بها فأخذناها بعد أن سميناها (أربسكا).
وكما أعرضنا عن سباق الخيل وضروب الفروسية والرياضة التي كانت لنا، ثم عكفنا على قمار في سباق يربِّي خيلا ولا ينشئ فرساناً. . . وأمثال هذين كثير.
والإنسان في هذا الضعف والخوف لا يصح له رأي، ولا تستقيم له طريقة. وكيف يصح الرأي إن لم يعتد الإنسان بنفسه، فيثق بعقله. ويعرف أن له كياناً واستقلالاً، وأن له الحق أن يأخذ يرد، ويستحسن ويستنكر؟
إن الحياة التي لا تشعر بنفسها، ولا تستمد قواها، ولا تستعين بمواهبها، لأشبه بالموت، لها صور الحياة وليس فيها حقائقها. . .
عظمت حيرتنا في التقليد على غير هدى، وقلقنا على المحاكاة على غير بينة، وضعفنا في هذا الاستسلام، والذهاب مع التيار، والتعلل بحكم الزمان وسنة العصر، وما حكم الزمان وسنة العصر إلا تعِلّة العاجزين، وعذر المفلسين، وإنما الإنسان الحق الذي يسير الزمان، ويخلق سنة العصر، ويرد الحادثات عن مجراها، ويسيرها على الطريقة التي يرضاها.
فلما ألفينا أفكارنا وحقرنا مذاهبنا، والطرق أمامنا مختلفة، والمذاهب ملتبسة، نزع كل منا منزعا ً، وذهب على ما تخيل مذهباً، فكان اختلاف الآراء في الجماعة، وتناكر المذاهب فيها، وكانت هذه الحيرة، وهذا القلق، وهذا الاضطراب.
ليتنا حين أخذنا عن غيرنا أخذنا الجليل والحقير، وحاكينا في الجد والهزل! وكم من الغربيين من قدوة صالحة، أسوة نافعة، وخطة حميدة. ولكن عظائم الأعمال لها وسائل من الكد والدأب واحتمال المشاق والصبر عليها. وللمجد مصاعد شاقة، وتكاليف مرهقة. وسفساف الأعمال هينة قريبة لذيذة يستطيعها كل من شاءها، ويهبط إليها من لم يكلف نفسه الصعود. فقد أسرعنا في هزل الغربيين ولهوهم ومظاهرهم، وشق علينا أن نضلع بكثير مما اضطلعوا به وعملوا له، في نظام محكم وخطة شاقة، ودأب لا يكل.
لسنا جاهلين بمحاسن الحضارة الحديثة وفضائلها ومزاياها، ولا غافلين لذاتها ومتعها؛ ولكنا لا نجهل كذلك رذائلها وعيوبها، ولا نغفل عما وراء لذاتها من مهالك للأمم ومفاسد للجماعات. ما أيسر أن يُعِفىَ الإنسان نفسه من الإصلاح، وينهز مع الغُواة، ويستمتع مع المستمتعين، ولسنا عن هذا عاجزين، ولكن الأمانة التي في أعناقنا للأمة، والواجب الذي علينا لها، والبصر بما وراء المظاهر، والبصر بما وراء المظاهر، إدراك ما بعد الحاضر، كل أولئك يعَنّي المفكر، ويقلقه ويسلط عليه هموما لا تنام ولا تُنيم. فيُلزم نفسه الدعوة إلى الإصلاح، والأخذ بالأشق، وحرمان نقسه من كل ما يأباه الوجدان اليقظ، والعقل الصحيح.
(للكلام صلة)
عبد الوهاب عزام