مجلة الرسالة/العدد 826/أمم حائرة
→ ../ | مجلة الرسالة - العدد 826 أمم حائرة [[مؤلف:|]] |
قطرات ندي ← |
بتاريخ: 02 - 05 - 1949 |
2 - أمم حائرة
طغيان المادة وضعف الروح
لصاحب العزة الدكتور عبد الوهاب عزام بك
وزير مصر المفوض بجدة
كشف العقل أسرار الطبيعة فاخترع عجائب العلوم والفنون والصناعات، وغير تاريخ البشر كله. واهتدى الناس إلى سنن للحكومات، ونظم للجماعات، ضبطت كل شيء بالنظام والقانون. وعرفوا من قوانين الصحة ما عصمهم من كثير من الأوبئة والعلل، وافتنوا في عمران البلاد، وتعبيد الطرق، وتشيد المساكن، وذللوا كل صعب، وقربوا كل بعيد بفنون الهندسة وغيرها. وابتكروا في الملابس والزينة ما ابتكروا. وتهيأ لهم من أسباب الحضارة ووسائل الرفاهية ما لا يحتاج إلى بيان، فهو ملء الأسماع والأبصار.
ولكن الأنفس لم تساير العقول، والرقى الروحي لم يدرك الرقى الحسي، وليس عجيبا أن يسمو العقل، ويتسع العلم، ولا تسمو النفوس، وأن تتقدم الأفكار ولا تتقدم الأخلاق، فتصرف العقل أكثره في أمور خارجة عن نفس الإنسان، وإدراكه يجول في عالم الطبيعة. وهو في بحثه لا يفرق بين الإنسان وغيره، ولا يبالي بالخير والشر. فمقاصد العلم تتحقق بكشف الكهرباء - مثلا - وضبط قوانينها وتسخيرها. وسواء بعد هذا استعمال الكهرباء للإضاءة، أو المداواة، أو استعمالها للقتل والتدمير.
إلى العلم ترجع الحضارة الصناعية القائمة على قوانين الطبيعة والخارجة عن نفس الإنسان. وأما النفس الإنسانية وملكاتها وحالاتها ونزعاتها، فأمور وراء هذا كله وهى حقيقة الإنسانية.
وهى التي تدرك الجمال والقبح، وتميز ببين الخير والشر، وتقبل على الفضيلة، وتنفر من الرذيلة.
وهى مناط الأخلاق والعواطف والفضائل والرذائل، وإلى هؤلاء ترجع الحضارة الإنسانية وما يتصل بها من آداب وسنن ومادات ونحوها.
وبهذه تقدم الإنسانية، وبها يكون تقدمها الحق وتخلفها وعلوها أو شغولها. ومن أجل أن العلم يتصرف في قوانين طبيعية خارجة عن نفس الإنسان كانت العلوم غير مختلفة بين الأمم في قوانينها، فلا تختلف الرياضة أو الكيمياء بين أمة وأمة، ولا بين إنسان وإنسان، إلا بمقدار ما تزيد أمة عن أمة، أو فرد عن فرد، في الإحاطة بقوانين الرياضة أو الكيمياء. وبهذا كان نقل علم من أمة إلى أخرى يسيرا لا إعضال فيه.
وأما الحضارة الإنسانية، فهي مختلفة باختلاف الأمم والأفراد يعسر أن تنقل من أمة إلى أخرى، إذ هي متصلة بصميم النفس، مرتبطة بالعواطف والأخلاق والتاريخ والآداب. ولكل أمة في هذا خصائصها، ولها مزاياها ونقائصها.
ليس هنا مجال الإفاضة في هذا، ولكني أردت أن أشير إشارة عاجلة إلى أن العلم والصناعة لا يسايران الآداب والأخلاق كل حين.
وغاية قولي أن الفجوة بين العلم والأخلاق، ومسافة الخلف بين العقل والروح من أسباب الاضطراب والقلق، والضوضاء والصخب والشقاء، التي تحيط بالإنسان بعد أن سخر الأرض والماء والهواء، فقد أعطى الإنسان بعقله وعلمه ملكا عظيما، وسخر له العالم، وانقادت قوى الطبيعة، ولكنه لم ينل من المعالي الروحية، والفضائل الإنسانية ما يكافئ هذا الملك، ويلائم هذا السلطان، ولم يبلغ من العدل والإحسان والعفة وأخواتها ما يسير هذا الملك على شريعة منصفة، وسنة قويمة، فكان كمن أوتى ولاية ليس أهلا لها، ومن ورث ثروة لا يحسن تدبيرها. ومن أعطى سلطانا تصرف فيه بأهوائه على غير هدى. وكالشرير المسلح بالبنادق والسيارات وما يشبهها مما يمكن له في الشر، ويبلغه مقاصده من الأضرار والإفساد.
ألا ترى إلى قوى العقل وقوانين العلم كيف يوجهها العدوان والبغي، والشره والجشع والضلالة والحيرة، إلى تدمير الحضارة وأهلها.
ولم يكف الأشرار عن الشر على كثرة ما اخترعت الحكومات من وسائل لأخذ المجرمين وتعقبهم ومراقبتهم، وعلى كثرة ما أقامت من شرط وحرس وجيوش، وما سنت من سنن للمحاكمة، وقوانين للعقاب. ذلك بأن كل هذه الوسائل لا تمس النفس، ولا تصل إلى الوجدان، وإنما هي قيود وسلاسل، وأخذ وضبط، وشجن للأجسام، ولو أن ارتقاء النفس الإنسانية كان على قدر افتنان البشر في وسائل السيطرة والأخذ والعقاب ما احتاج البشر إلى هذه الوسائل، أو لاستفتوا عن معظمها، ولو أنصف الناس استراح القاضي.
ومن آثار هذا التباعد بين العلوم والأخلاق، والتفاوت بين العقول والأنفس أن سلك الناس إلى المال والجاه والشهوات مسالك شتى، وافتنوا في التوسل إليها بما عرفهم العلم ورضوا في سبيلها بالدنايا، ولم يقفوا في ابتغائها عند حد.
كل طامع جاهد مستزيد، لا يرضى ولا يقنع ولا يعف، ولا يقول هذا حسبي، وهذا حقي، وهذا حق غيري، وهذا حلال، وهذا حرام، وهذا شريف، وذاك خسيس (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وقليل ما هم).
وضاع الحياء، وفقدت المروءة. . . ألا ترى بعض التجار يجذبون المشترين بنساء فاتنات يكلون إليهن البيع، أو قبض الأثمان، ومنهم من يدعوا إلى بضاعته في الصحف بصور مغرية، ولو كان امرأة في حمام، كما يفعل بعض تجار الصابون، ويعينهم على هذه الدنايا أصحاب الصحف ابتغاء الربح أيضا!
ألا ترى الصحف والجرائد والمجلات، إلا النادر، تستهوي الناس بنساء عاريات، وصور مفسدات، وقصص موبقات؟!
أليس معنى هذا، حين تسمى الأشياء بأسمائها، ويكشف عنها تمويهها، أن ناشر هذه الصور يتوسل إلى الرواج بأن يجذب الناس - بكل وسيلة - غير مبال بالأخلاق والأعراض، يستوي عنده الصلاح والفساد!
رحم الله من قال: (تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها)!
ومن قال:
ولقد أبيت على الطَّوى وأظّله ... حتى أنال به كريم المأكل!
غلبت الناس المادة، وضعفت فيهم الروح، فجهادهم ونزاعهم وصياحهم وضوضاؤهم في المادة ولها إلا قليلا. بل هذه الشيوعية التي فتن بها بعض الناس وحسبوها مثلا عاليا، أو المثل الأعلى في التسوية بين الناس هي مادية خالصة تنكر كل شيء إلا الخبز، فهي كالمساواة بين القطيع في المرعى، وليس للقطيع اختيار في المسير أو الوقوف، وليس له حق في غير الكلأ والماء.
فأما التدين والسمو الروحي والحرية والفضائل والأواصر الرحيمة التي تربط بين الوالدين والأولاد، وكل ما هو بسبب من هذه، فتنكره الشيوعية، لأنها دين ولد في هذا العصر، وهذا العصر يعرف المادة، ويحرص عليها، ويخضع لها، ويموت فيها!
(للكلام صلة)
عبد الوهاب عزام