مجلة الرسالة/العدد 824/الأدب والفن في أسبوع
→ تعقيبات | مجلة الرسالة - العدد 824 الأدب والفن في أسبوع [[مؤلف:|]] |
البريد الأدبي ← |
بتاريخ: 18 - 04 - 1949 |
للأستاذ عباس خضر
العربية تزحف على يد وزير المعارف:
كتب معالي الأستاذ علي أيوب بك وزير المعارف، صفحة جديدة في تاريخ الكرامة المصرية، إذ أعز اللغة القومية ورفع لواءها على مكاتب السفراء ورجال السلك السياسي الأجنبي في الأسبوع الماضي، حينما أمر بكتابة الدعوات التي أرسلت إليهم لحضور حفل المرشدات باللغة العربية، على خلاف ما جرت عليه الوزارة من كتابتها باللغة الإنجليزية أو الفرنسية.
وهي دفعة من الدفعات التاريخية التي قام بها رجال من رجالنا في العصر الحديث لنصرة اللغة العربية والتمسك بها ورفع شأنها باعتبارها لغتنا وأن لا شخصية لنا إلا بسيادتها.
ولا شك أن من حقنا أن نكتب بلغتنا لمن نشاء، ولكن كنا نتسامح ونفرط في هذا الحق ولم يحدث أن تمسكنا به واستطاع أحد أن يصدنا عنه، بل العكس كنا نتطوع بتمكين الأجانب من إهمال لغتنا لأننا نهملها معهم. وهذا هو السفير البريطاني يرد على دعوة وزير المعارف باللغة العربية أيضاً، آسفاً لعدم إمكانه تلبية الدعوة لتغيبه بالإسكندرية يوم الحفل. فأين كنا من زمان؟!
إن اللغة تقوى بقوة أصحابها وتضعف بضعفهم، وليس هناك لغة حية ولغة ميتة، فالأحياء والأموات هم الناس.
مدرسة حديثة في فن القصة:
لا تقر فضل الخير على الشر، ولا تعترف بفارق بين الفضيلة والرذيلة، ولا تميز الحق من الباطل؛ أية نزعة من نزعات الإنسان عندها كأية نزعة أخرى، لا تقول للص يا لص، ولا تقول للبطل يا بطل، لأنه لا جريمة ولا بطولة، فلكل عمل دوافعه ومقدماته، وكل ما يأتيه الإنسان أمر طبيعي لا ينبغي الحكم عليه ولا يجوز أن يستنكر.
هي مدرسة حديثة في فن القصة، ظهرت في مصر، وأعلنت صوتها يوم الأحد الماضي في نادي رابطة الأدباء، على لسان الطالب الأديب صلاح حافظ الذي ألقى محاضرة دعا فيه دعوة هذه المدرسة وأعلن ميلادها في زهو، وتطأ من فبشر بزعيمها الجالس بجوار المنصة يبعد عن سيماه خجل التواضع.
والزعيم أو الكاتب القصصي الأول في هذه المدرسة الحديثة، هو الأديب محمد يسري أحمد، وأعلام المدرسة وأنصارها والمتحمسون لها، يجتمعون في واحد هو محاضرنا الأديب صلاح حافظ، وهما طالبان بالسنة الثالثة بكلية الطب، إنهما يشرحان الإنسان الحي كما يشرح الإنسان الميت في قصر العيني. هل يأبه الطبيب للقذارات أو يأنف من روائح الجثث؟ كذلك كاتب القصة يحلل الإنسان كما هو ويتغلغل في أعماقه ليصورها كما هي، فإن قلت إن غاية الطبيب المشرح الوصول إلى الحقائق العلمية قالت لك المدرسة الحديثة في فن القصة إنها لا غاية لها، فالكاتب يجب أن يبدأ القصة ويسير فيها مع الطبيعة لا يهدف إلى شيء، فإن قلت إن الطبيعة لا تعتسف طريقها فهذا هو الفارق بين الطبيعة وبين المدرسة الحديثة.
يظهر أنني بمذهب هذه المدرسة في عرض الأشياء كما هي وإبراز الإنسان كما هو، فإني أتحدث عنها كما هي، وإتماماً للخطة أضربت في هذا الموضوع عن استعمال علامات التعجب لأنها تدل على الانفعال وقد تشير إلى الحكم. وأستمر في السير على هذه الخطة فأقول:
حدثنا المحاضر صلاح فقال إن المدرسة الحديثة قد اكتسحت كل ما عداها وأحرزت نصراً مؤزراً في مسابقات القصة المختلفة ففاز يسري بقصة في مهرجان الشباب، وبأخرى في مسابقة الإذاعة، وبثالثة في مسابقة الثقافة العامة، وفاز هو، أي صلاح، بقصة في المسابقة الأخيرة.
وليس هذا هو كل إنتاج المدرسة الحديثة، فقد كان ليسري في مهرجان الشباب قصة غير التي فازت، تحدث فيها عن حادثة غرام بين فنان وأخته وحلل العوامل التي جعلت بطل القصة يفتتن بمحاسن أخته ويستمتع بجسدها ثم يقتلها. ولم يعجب ذلك الاتجاه النفساني في فن القصة شيوخ الأدب المحكمين في المسابقة، فرفضوها وقال إن الأستاذ عبد الله حبيب قرأ هذه القصة، إذ كان يعمل في تنظيم المهرجان، حتى وصل إلى نهايتها وهو لا يشعر أن فيها جريمة ترتكب، وإنه دافع عنها أمام لجنة التحكيم (وقد سمعت أنا أيضاً ذلك من الأستاذ عبد الله).
وأنا مازلت أتحدث على طريقة المدرسة التجريدية، ولكني وصلت إلى نقطة أراني فيها مضطراً إلى الخروج مع المدرسة نفسها عن طريقتها.
شيوخ الأدب جامدون لا يقدرون الاتجاه النفسي الجديد لأنه يخالف اتجاههم، فالشيوخ يتحدثون عن جمال الربيع ولا يهتمون بالإنسان، فإذا عرجوا عليه لزموا السطوح ولم ينزلوا إلى الأعماق، كما يقضي بذلك علم النفس، وكما تفعل ذلك المدرسة الحديثة. وقرأ المحاضر في هذا المعنى رسالة كتبها يسري إلى الأستاذ فريد أبو حديد بك، ومن فقراتها (لا يا سيدي نحن جيل وأنتم جيل).
ثم أرجع إلى الطريقة التجريدية فأقول: هكذا يقضي الشيوخ بفوز قصص المدرسة الحديثة في المباريات، وتعتز المدرسة بذلك، ثم تهاجم الشيوخ الذين حكموا بفوز قصصها. أقول هكذا فقط ولا أذكر الوفاء ولا الاعتراف بالجميل فليس شيء من هذا في معجم المدرسة الحديثة في فن القصة. أما لماذا قضت لجان التحكيم في المباريات بفوز تلك القصص، فقد قال أحد أعضائها وهو الدكتور إبراهيم ناجي، في تعقيبه على المحاضرة: إن القصص التي فازت، إنما فازت لأن بقية القصص المقدمة تافهة ليس فيها شيء من فن القصة بل هي حكايات و (حواديت).
وجرياً على مذهب تلك المدرسة في العطف على الضعف الإنساني وإن جانب الذوق السليم واندفع مع الحيوانية السائمة - لا أريد أن يتجه القلم إلى القسوة على بطليها، غير أننا نختلف في أن لرفقي بهما غاية.
إنكما يا ابنيَّ تتعجلان. وإني وإن كنت لم أقرأ لكما يبدو لي من الملابسات والقرائن أنكما من ذوي الاستعداد ويمكن أن يجيء منكما، ويدل ما يقول الأستاذ عبد الله حبيب عن قصة عاشق أخته على براعة يسري في السياق والحبكة، ولكن ما أشبه حال الأستاذ وهو يقرأ القصة غير شاعر بأن فيها جريمة ترتكب، بمن (نشلت) حافظة نقوده وهو لا يدري.
إن مناقضتكما للأخلاق الكريمة بهذه الدعوة مناقضة ظاهرة، وأنتما لا تنكران ذلك، وإنما تتمسكان بأهداب الفن وأنا لا أدري كيف يتسق الفن مع مخالفة الذوق السليم وإغفال المثل الإنسانية والانسياق مع الحيوانية البحتة. وما هو الفن الذي يتجرد من العاطفة؟ إن تحليل الأشخاص وإظهارهم دون انفعال وحكم، عن طريق التصوير الفني، على ما يأتون وما يدعون لا ينتج إلا شيئاً قد يسمى (علم نفس تطبيقياً) أما الفن فلا بد فيه من عاطفة الفنان، فإن تجرد منها فليس فناً. والعاطفة في العمل الفني إما أن تهدف إلى الخير وتتجه نحو الجمال الذي يهفو إليه الذوق السليم، أو تنزل إلى الشر وتتدلى إلى القبح.
أريد أن أفرض في شأن هذين الشابين أحسن الفروض، وهو أنهما يتكلفان الشذوذ على طريقة (خالف تعرف) ولا بأس بأن حققت لهما شيئاً من ذلك، وغاية ما أرجو أن يكون الثمن هدايتهما إلى سواء الأدب القويم.
رسالة من غراب:
تلقيت رسالة كريمة رقيقة من الأستاذ أمين يوسف غراب، على أثر ما ظهر في (كشكول الأسبوع) خاصاً بخطأ لغوي في قصة له بمجلة الأديب، قال الأستاذ في رسالته (أما الخطأ الذي تفضلتم بالإشارة إليه فأنا أعترف به، ولا أريد أن أحمل المطبعة وزره، أو أحيله على غيري كالذي نقل عني هذه القصة مثلا. ولكني لا أعترف بأنه كان يستحق عنايتكم إلى هذا الحد، أو يستهل إشارتكم الكريمة، إن هناك على ما أعتقد من جديات الأمور ما هو أجدر بعنايتكم وأحق بتوجيهاتكم. كنت أفهم مثلا أنكم تتحدثون عن القصة في مجموعها كوحدة فنية. . . الخ)
وأقول إني لم أعرض لنقد القصة حتى أستوعب نواحيها المختلفة، ولم يصرفني هذا الخطأ عن جديات الأمور. إنما هي نظرة من زاوية، صيغت في سطور من (الكشكول) وليس من دأبي تتبع الأخطاء اللغوية، ولا آتي بشيء من ذلك إلا لملابسات أخرى غير مجرد الخطأ، والذي لابس إشارتي إلى قصة الأستاذ غراب هو ما ألاحظه من استهانة بعض الكتاب ذوي المواهب الفنية بسلامة الأسلوب وصحة اللغة.
وقد لمحت فيما قرأت للأستاذ سمات الإجادة الفنية، وقد بدا لي من رسالته أن ما ندَّ من قلمه ليس عن استهانة، وأنا لا أعتبره ممن قلت إنهم ركبوا ظهور الصحف والمجلات في غفلة الزمان، أحسن عملا وأكثر نفعا من أولئك الذين ركبت الصحف والمجلات ظهورهم؟) ولو سألني أي الفريقين أسوأ أثراً وأكثر ضرراً لكان من المحتمل أن أجيب. . .
الخطب المؤذية: كنت بالأمس في أحد نوادي العاصمة، مع الحاضرين لسماع محاضرة تلقى به، وقام سكرتير النادي ليقدم المحاضر، وأنل للآن لا أعرف اسم هذا السكرتير، أما المحاضر فهو شخصية معروفة، فبالله أيهما أولى بالتعريف. . .؟ وهي عادة متفشية في أنديتنا وجمعياتنا، ينتهز السكرتير أو الوكيل أو الرئيس وقد يكون المراقب أو أمين الصندوق،. . . ينتهز أحد هؤلاء فرصة اجتماع الناس لسماع محاضرة لأحد الإعلام، فيحتل المنصة نحو نصف ساعة بحجة التقديم للمحاضرة وما هو إلا يريد توكيد شخصيته. أعجبني مرة أن رأيت الدكتور طه حسين بك يبرز إلى الجمهور وحده على المنصة بقاعة المحاضرات بالليسية الفرنسية، فلم يقدمه أحد، وما هو بحاجة إلى تقديم.
ذكرني موقف ذلك السكرتير بما قد نشر في إحدى الصحف من المتبع في بعض ولايات أفريقية الجنوبية لحماية الناس من الخطب الطويلة المملة، إذ يوجبون على الخطيب أن يقف على قدم واحدة، فإذا تعب ومست الأرض قدمه الثانية يجب أن يمسك عن الخطابة وإلا منعه السامعون من الاسترسال بقوة! ولو أن في تلك الولايات من يقدم الخطباء كمن هم لدينا في مصر، لقضوا عليهم أن يقفوا على إصبع واحدة من قدم. . .
وكم كان ظريفا ذلك الأعرابي الذي حضر حفل زواج قام فيه خطيب فحمدل وهلل وكبر وأطال في ذلك حتى أمل، فقال له الأعرابي: أيها الخطيب لا تقم الصلاة فإني على غير وضوء.
عباس خضر