مجلة الرسالة/العدد 824/أمام أبي الهول
→ المسرح والجمهور | مجلة الرسالة - العدد 824 أمام أبي الهول [[مؤلف:|]] |
مشكلة الشر في ضوء وحدة الوجود ← |
بتاريخ: 18 - 04 - 1949 |
للأستاذ راجي الراعي
يا إله الصمت، ويا ملتقى الأسرار، ويا عقدة الألسنة، ويا مثال المتأملين!
أيها الأسد الرائع المتحفز منذ القدم للوثوب على فريسته التي لم يجدها بعد. . . يا ربيب الفراعنة، ويا رفيق (الأهرام)، ويا عجيبة المصريين. . . أيها المتكبر الجبار الذي لم يخفض رأسه لأحد في الدنيا، وقد مرت كلها من أمامه. . . يا مصيبة الثرثارين ويا محتج الحائرين. . . أيها الضاحك الباكي، السعيد البائس، الحائر المهتدي، الثمل الصاحي، القوي بأهرامه، الضعيف برماله، الجريء بصدره، الحكيم بلسانه. . . أيها البحر الذي تلاطمت فيه أمواج الأسرار ولم تنفث زبدها. . . أيها الناسك الذي لم يؤمن بالعالم فأقام في صومعة الرمال وأنقطع إلى ربه ونفسه، الناسك الأكبر، زعيم الناسكين، تدق له نواقيس الذكرى في أودية التاريخ التي تعاقبت عليه، ومن يستطيع أن يحصيها؟.
أيها الثمل بالذكريات غمرته بخمورها فلم يقو على العربدة، وكيف يعربد الغريق؟ وطوقته بجمالها وقبحها فجمد كالمجنون وتكأكأت عليه الخلائق. . .
أيها البطل الضائع الذي ازدحمت في بطولته مشاهد القرون على مختلف ضروبها وألوانها فضاق بها ذرعاً ولبث مكانه لا يبدي حراكاً. . .
أيها المبرد بوسادته الحجرية لظى المغرمين، المخجل برباطة جأشه المذعورين الفارين، المحطم بصخرة حيرته وشكه سفينة المهتدين، المخرس بفصاحة عينيه زمرة المعربدين، الهازئ بالعابرات والعابرين، الضاحك على الأذلاء الخانعين، الباكي على الضاحكين!.
يا أبا الهول الذي هالته نفسه فلم يعرف أين يضعها وكيف يعبر عنها، ويا فتنة النيل ورب الوادي. . . أيها الأمين الأكبر الذي يحمل مفاتيح التاريخ ولم يخن واجب الأمانة، أيها المبرم مع المجهول عهداً يحسده عليه المعلوم، أيها الغارق في لجج اللانهاية ولم يبلل ثوبه. . . أيها المبسوط في حجره المنكمش في تصلبه، أيها الطليق بعينيه السجين بين ألغازه، أيها الناظر إلينا نظرته الغريبة بين صممه وبكمه كأنه يفتش بين السماء والأرض عمن جاءه بالصمم وعقل لسانه ليصعقه ويضمه إلى قلب رماله. . .
أيها الواقف بين الماضي والمستقبل كأنه الصلة المفقودة التي نفتش عنها! أيها الرج العجيب الذي لم يتحرك بعد في هذا الجيل، والكهرباء تشع في وجهه، والطائرة تحلق فوق رأسه! أيها الصابر صبراً دهشت له الأرض التي تصبر على موتاها، ودهش له البحر الذي يصبر على غرقاه. . .
أيها المتمرد الأكبر، أيها الحاكي الذي يردد أصداء الإنسانية، أيها العداد الذي يحصى فضائل الخليقة وعيوبها وساعات نعيمها وبؤسها. . .
يا أبا الهول!
أتيتك بعد تلك القرون التي توالت على رأسك. . أتيتك في القرن العشرين متأخراً، وتفرست فيك، فخطرت لي النعوت والأسماء التي كسوتك بها. . . رأيتك بعيني ولا أدري بأي عين رآك أسلافي، وحرت فيك كما حاروا من قبلي، ورمتني الحيرة بين أمواج الخيال فتخبطت في أسرارك، وغرقت في أوصافك!.
ما هي حقيقتك يا سيدي وأين هي؟ وهل أنت تجهلني كما أجهلك؟ من أنا؟ أنظر إليَّ جيداً. . . أقوي أنا أم ضعيف؟ أسعيد أنا أم بائس؟ أنا كاتب يعرض في القراطيس رسوم النفس والحياة. . . فهل قلمي، وهل رأيت رسومي؟ هل أنت شاعر بي، أم أنت تنظر إليَّ وترى نفسك؟!
قل لي أبا الهول: ألأمسي أنا أم لغدي؟ وأين هو رقمي في جدول الإنسانية؟ وهل في جبيني السطر الذي تفتش عنه منذ القدم؟ أمصيب أنا في عقيدتي أم مخطيء؟ وهل الشعراء في نظرك هم الناس، وهل في صدرك القاسي فؤاد رحيم؟
أتيتك أسألك عن حقيقتك وحقيقتي، فهل من جواب يخرج من فمك ويريحني؟ أما تاقت نفسك يا صاحبي إلى الكلام ولو مرة واحدة، ألم تسأم الصمت؟؟
حدثني. . وأن كنت معقود اللسان، ففي عينيك الجاحظتين ألف بيان دفين. . . لا تخش أن تبوح لي بسرك، فقد هجرك الناس وجئتك وحدي، وفي هذا الدليل على حبي وإخلاصي. . .
إن في رأسك حلماً كبيراً قديماً حار فيه لسانك، وسقط تحت أثقاله صدرك، فجثمت مكانك صابراً صبر الأسياد لا صبر العبيد. . . لقد أقعدك حلمك عن السير، وملأ نفسك فلهوت به عن الناس. . .
حدثني أبا الهول: ما هذا الحلم الذي تنسج خيوطه على مهل؟ أما حان لك أن تستريح؟ لقد طال حلمك وطال صبري!
بماذا تفكر؟ أبالله وسمواته وكواكبه ونجومه، أم بالقرون التي مرت بك، أم بهذا العالم الفاني، أم بي؟؟
حدثني. . ولكن لا، ابق صامتاً، فإنني أخاف إذا تكلمت أن لا يقال بعد ذلك: هذا (أبو الهول). . . إن صمتك حديث الناس، وقد لا يكون حديثك حديثهم، فما يدريك أن تكون الكلمة الأولى التي تنطق بها وبالا عليك، ودليلاً على أنك لم تكن إلا حجراً. . ابق صامتاً. . . إن قوتك في صمتك. . . أنت ملك الصمت، فلا تخلع عرشك بيدك!
ولعلك فقهت معنى الحياة، فرأيت أن الصمت خير ما فيها، أنت صخرة اقتطعتها السماوات من جبال عظمتها وأمجادها، فكبرت نفسك حتى أنفت أن يكون اللسان بوقها وترجمانها ورسولها، وهل يصلح اللسان، هذا الثرثار الضعيف المزعج ليعبر عن أسرار النفس والطبيعة؟ هل يقوى على الثبات في ساحة النفس الكبيرة إذا ثار بركانها؟
انظر إلى الفيلسوف كيف يخرس ساعة يصطدم بالمجهول، وإلى الجندي كيف يُعقل لسانه ساعة يصطدم بالخطر ويصافح الموت، وإلى الفنان كيف يصمت صمته العميق ساعة يسحره الجمال، وتحتل الشاعرية أعماق قلبه. . . وانظر إلى الفقير الذي شرب ثمالات الكؤوس كيف يعجز عن النطق وفي فمه كل دموعه، وإلى المؤمن الناسك كيف يقطع لسانه ليتصل بالخالق، وإلى النسور والأسود كيف تأوي إلى عزلتها وصمتها وتترفع عن الخلائق. . .
أبق صامتاً، أبا الهول، فقد يكون في صدرك كثير من الحسد والضغينة والرياء والضعف والكبرياء والطمع واللؤم. . . وأنا لست بحاجة إلى نفث سمومها، فيكفيني ما ينساب في طريقي من الأفاعي. . . يكفيني هذا الإنسان الذي يوزع لسانه الشقاء في العالم ويكشف ما انطوى عليه صدره!
ابق صامتاً، فلا أدري ما وراء صمتك. . . إن كنت إنساناً فزميلك يكفيني، وإن كنت من جماعة (الأولب) فابق بين آلهتك. . .
ابق صامتاً، فالصمت أرحب من الكلام وأبلغ لأنه يحويه! راجي الراعي