الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 823/إيوان كسرى

مجلة الرسالة/العدد 823/إيوان كسرى

بتاريخ: 11 - 04 - 1949


للأديب كاظم المظفر

ازدهرت الدولة الفارسية في عهدين من عهودها التاريخية المهمة: العهد الأول، أيام سابور المعروف بـ (ذي الأكتاف)؛ والعهد الثاني، أيام الملك العادل كسرى انوشروان. فقد تنازع هذا مع ملك روما الذي كان العدو الأول للفرس وأول منافس لكسرى. وقد حاربه وتغلب عليه في عدة مواضع بعد أن واصل هل زحف جيشه إلى مجاهيل أفريقيا واليابان والصين والروس فأصبحت إمبراطوريتهم من أعظم إمبراطوريات العالم.

وكانت عاصمة ملكهم (طيسبون). وذلك أيام الملوك الساسانية وكثير ممن سلف من ملوك فارس الأولين. وتقع هذه المدينة في الجانب العربي للمدائن من أرض العراق، ولكن سابور بن هرمز حول العاصمة إلى الجانب الشرقي من المدائن، وسكن هناك بعد أن بنى الإيوان المعروف بـ (إيوان كسرى) لهذه الغاية. . . وإنما سمي الإيوان باسم كسرى دون أن يسمى باسم بانيه سابور لما أدخل عليه الثاني من محسنات كثيرة في هيكلة كالزخرف والنقش وإقامة التماثيل بعد أن أتم الأماكن الناقصة من بناء هذا الإيوان، إذ لم تتسن لسابور إتمام بنائه قبل موته.

والإيوان ينبئنا عما وصلت إليه الحضارة الفارسية من تقدم ورقي وازدهار. وفي ذلك يقول الخطيب البغدادي في وصف المدائن: (لم تزل المدائن دار مملكة الأكاسرة ولهم بها آثار عظيمة وأبنية قديمة منها الإيوان العجيب الشأن. لم أر في معناه أحسن منه صنعة ولا أعجب منه عملاً) وقيل إنما سميت هذه المدينة بالمدائن لكثرة ما بنى بها الملوك والأكاسرة وما أبقوا فيها من الآثار وهي على جانبي دجلة شرقاً وغرباً ودجلة تشق بينهما.

ومن أهم الأسباب التي دعت ملوك فارس إلى جعل عاصمتهم في المدائن موقعها الجغرافي الحسن وهواؤها الطيب النقي وتربتها الصالحة وماؤها العذب. ويقال - في هذا الصدد - إن الإسكندر المقدوني نزل المدائن وسكنها بعد أن جال في ربوع الأرض وبعد أن وطئ السهل والجبل فلم يختر منزلا من منازل العالم التي رآها وفتحها سوى المدائن. وقد بنى بها مدينة عظيمة وجعل عليها سوراً أثره واضح حتى وقتنا هذا. إلى أن توفي فيها وحمل تابوته إلى الإسكندرية؛ لأن أمه كانت مقيمة هناك ودفن عندها.

ولما فتح المسلمون بلاد الفرس واستولوا على المدائن تحت قيادة سعد بن أبي وقاص في صفر سنة 16هـ وهي السنة الرابعة من خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، خرب المسلمون ما خربوا من قصورها وانتهبوا ما انتهبوا من رياشها وأثاثها، ووصل عمل التخريب إلى إحراق ستر باب الإيوان فأخرجوا منه ألف ألف (مليون) مثقال من الذهب. فبيع المثقال بعشرة دراهم وبلغ ذلك عشرة آلاف ألف (10 ملايين) درهم. وقد جعل سعد بن أبي وقاص الإيوان محطاً لرحله وصلى فيه صلاة النصر بثماني ركعات.

وأنشئت في الدور الإسلامي الأول مدينة البصرة والكوفة فانتقل الناس إليهما. وما كاد المنصور يختط مدينة بغداد ويبنيها حتى تهافت الناس عليها وهجروا المدائن شيئاً فشيئاً حتى أصبحت أكثر العمارات خاوية والبنايات والقصور قفراً.

ولقد أراد الرشيد أن يهدم الإيوان وشاور في ذلك يحيى بن خالد البرمكي حين كان معتقلاً عنده إثر الفاجعة المعروفة فأشار عليه بأن لا يفعل، ولكن الرشيد أصر على رأيه في هدم الإيوان، وشرع في تخريبه. ثم نظر فإذا يلزمه في هدمه أموال طائلة لا طاقة له بها، فأمسك عن ذلك وكتب إلى يحيى يعلمه الخبر فأجابه أن ينفق في هدمه مهما بلغ من الأموال ويحرضه على فعله. فعجب الرشيد من تناقض كلامه وبعث إليه يسأله عن هذا. فقال: أما ما أشرت عليك به في الأول فلأني أردت بقاء الذكر لأمة الإسلام وبعد الصيت، وأن يكون من يرد في الإعصار ويطرأ من الأمم في الأزمان يرى مثل هذا البنيان العظيم فيقول إن أمة قهرت أمة هذا بنيانها لأمة عظيمة شديدة منيعة. وأما جوابي الثاني فأردت به نفي العجز عن أمة الإسلام كي لا يقول من يأتي في الإعصار الآتية إن هذه الأمة عجزت عن هدم ما بنت فارس. . . فلما بلغ الرشيد ذلك قال: قاتله الله فما سمعته قال شيئاً قط إلا صدق فيه ثم أعرض عن هدم الإيوان.

أما الآن، فلم يبق من ذلك البناء الشامخ إلا طاقه وجناحاه. وقد ورد أن هذا الإيوان من أعظم أبنية العالم، وهو مبني بالآجر على مرتفع من الأرض طوله (150) ذراعاً، في عرض مثلها، وأمامه ميدان طوله (80) ذراعاً في عرض (25). وقيل سعة الإيوان من ركنه إلى ركنه (90) ذراعاً وارتفاعه (80) ذراعاً. وقد تهدم هذا الإيوان ولم يبق منه في القرن السابع الهجري على ما ذكر ياقوت. إلا طاق يعرف بطاق كسرى، وهو طاق عظيم بني بالآجر طول كل آجر نحو ذراع في عرض أقل من شبر. وكان فيه من التماثيل والصور شيء كثير: منها صورة كسرى أنوشروان وقيصر ملك إنطاكية وهو يحاصرها ويحارب أهلها.

وأما المدائن فقد أصبحت شبه قرية في الجنب الغربي من دجلة أهلها فلاحون، شيعة أمامية. ومن عاداتهم أن نساءهم لا يخرجن نهاراً أصلاً. وفي الجانب الشرقي منها مشهد الصحابي المعروف سلمان الفارسي رضوان الله عليه، وله موسم يذهب الناس إليه لزيارته والتبرك به ويكون ذلك في منتصف شعبان من كل سنة. وكان على مقربة من الإيوان قبران محترمان يرقد فيهما الصحابيان: عبد الله الأنصاري، وحذيفة ابن اليمان فأشرفا على الغرق لأن يه دجلة كانت - ولا تزال - تنال من الشاطئ، فنقلت الحكومة بقايا رفاتيهما إلى جامع سلمان الفارسي في عام 1350 هـ بمهرجان عسكري فخم.

وقد شاهدت الإيوان منذ سنة تقريباً فرأيته لم يبق من عظمته غير الطاق المرتفع الذي يطاول السحاب بعلوه. أما ما وصفه (البحتري) من تلك الصور المنقوشة على الإيوان كصورة كسرى وجنوده وقواده وهم يتقدمون إلى جيوش أعدائهم الرومان. وصورته والجارية الحسناء تقدم له كأس الشراب وقد أحدقت به المغنيات والراقصات. كل تلكم الصور وأمثالها لا وجود لها الآن في الإيوان فقد انطمست أعلامها وانمحت آثارها. والفرق واضح بين ما كان عليه الإيوان في عصر الدولة العباسية وبينه في عصرنا الحاضر.

وكان من ولع شعراء العرب بوصف ما يرونه من آثار الطبيعة وما فيها من جمال وسحر، أو تجهم وعبوس، أن تطرقوا إلى عظمة هذا الإيوان، وذلك حين كانوا يقفون على أطلال المدائن الخاوية فيتصورون أن أهلها أحياء يسيرون في الأزقة والشوارع بدعة واطمئنان وأن الملوك في وسط قصورهم مع بلاطهم وحاشيتهم وما عليهم من ثياب مزركشة وحلل زاهية فتستفز هذه الأخيلة قريحة أولئك الشعراء وتحرك هذه المناظر قيثارتهم الشعرية، فيروحون ينشدون قصائدهم التي تفيض بعواطفهم المكبوتة إزاء ذلك الملك الذاهب فيأتون بالشعر والسحر الحلال. وكان من بين الذين شاهدوا عظمة الإيوان وما فيه الشاعر الأرجاني الذي رأى التماثيل الموجودة في الإيوان فنظم قصيدته الرائعة التي لم تدعه إلى نظمها عصبية الفرس - كما يدعي البعض - وإنما كان استجابة لطبع الشاعر وتلبية لسجيته المطلقة التي دعته إلى وصف بعض الصور الجميلة التي شاهدها. وكان من هذه القصيدة قوله:

رأيت عجيباً والزمان عجيب ... رجالاً ولكن ما لهن قلوب

تماثيل في صخر فحيت كأنها ... بنو زمن لم يلف فيه أريب

نزلنا وفوداً في حماها ولم يكن ... لنا من قراها في الوفود نصيب

فنحن لدى كسرى إبرويز غدية ... نزول ولكن الفناء جديب

بظاهر قرميسين والركب محدق ... حواليه فيهم جيئة وذهوب

لدى ملك من آل ساسان ماجد ... وقور عليه التاج وهو مهيب

مكان المناجى من خليليه واقفاً ... وإن عز منهم سامع ومجيب

يرينك من تحت الحوادث أوجهاً ... بها من تصاريف الزمان شحوب

وقاموا على الأقدام لا يعتريهم ... مدى الدهر من طول القيام لغوب

وقصيدة شاعر الدولة العباسية أبو عبادة البحتري التي وصف بها الإيوان فكانت آية من آيات التصوير الشعري بعد أن سارت مسير المثل لما فيها من وصف بديع بعد أن ذكر جميع ما رأى من النقوش والتماثيل التي ارتسمت على جدران الإيوان وما أحيط به من العظمة والجلال. . . وهاهو يقول في أولها يمتدح نفسه:

صنت نفسي عما يدنس نفسي ... وترفعت عن جدي كل جبس

وتماسكت حين زعزع عني الد ... هر التماساً منه لتعسي ونكسي

إلى أن يقول في وصف الإيوان مشيراً إلى ما فيه من زخرف وتصاوير:

لو تراه علمت أن الليالي ... جعلت منه مأتما بعد عرس

فإذا ما رأيت صورة أنطا ... كية ارتعت بين روم وفرس

والمنايا موائل وأنوشر ... وأن يزجى الصفوف تحت الدرفس

وعراك الرجال بين يديه ... في خفوت منه وإغماض جرس

وكأن الإيوان من عجب الصد ... عة جوب في جنب أرعن جلس

مشمخر تعلو له شرفات ... رفعت في رؤوس رضوى وقدس ليس يدري أصنع إنس لجن ... سكنوه أم صنع جن لإنس

غير أني أراه يشهد أن لم ... يك بانيه في الملوك بنكس

وقال ابن الحاجب في وصف الإيوان ويخاطب بانيه ويذكره بتقلب الدهر وعثرات الزمن:

يا من بناه بشاهق البنيان ... أنسيت صنع الدهر بالإيوان

كتب الليالي في ذراها أسطراً ... بيد البلى وأنامل الحدثان

إن الحوادث والخطوب إذا سطت ... أودت بكل موثق الأركان

ولشاعر قريش السيد الشريف الرضي يفتخر بالإسلام وقوته على الفرس وذلك في ذي الحجة 397هـ وقد اجتاز بالمدائن ونظر الإيوان فبهره منظره وأنشد في ذلك:

قربوهن ليبعدن المغارا ... ويبدلن بدار الهون دارا

إلى أن يقول:

قد نزلنا دار كسرى بعده ... أربعاً ما كن للذل ظوارا

وإذا لم تدر ما قوم مضوا ... فسل الآثار واستنب الديارا

آل ساسان حدا الخطب بهم ... واسترد الدهر منهم ما أعارا

كل ملموم القرى صعب الذرى ... يزلق العقبان منه والنسارا

جعجعوا الإيوان في مبركة ... مبرك البازل قد فض السفارا

مطرقاً إطراق مأمون الشذا ... غمر النادي حلماً ووقارا

أو مليك وقع الدهر به ... فأماط الطوق عنه والسوارا

ويحكي أن الملك جلال الدولة البويهي اجتاز بالإيوان فكتب عليه.

يا أيها المغرور بالدنيا اعتبر ... بديار كسرى فهي معتبر الورى

غنيت زماناً بالملوك وأصبحت ... من بعد حادثة الزمان كما ترى

وروي أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) مر على المدائن عند ذهابه إلى حرب الخوارج في النهروان. . . فلما رأى آثار كسرى وقرب خراجها قال رجل ممن معه:

جرت الرياح على رسوم ديارهم ... فكأنهم كانوا على ميعاد

وإذا النعيم وكل ما يلهى به ... يوماً يصير إلى بلى ونفاد

فقال علي: أفلا قلتم كما قال الله عز وجل: (كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم، ونعمة كانوا بها فاكهين. كذلك وأورثناها قوماً آخرين، فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منتظرين).

وكان ممن زار المدائن وشاهد القصر الأبيض - الإيوان - الإمامان الحسن والحسين ابنا علي بن أبي طالب (ع) وذلك حين قتل أبوهما وقد توجها إلى المدائن فلحقهما الناس بساباط فحمل على الحسن رجل من أهل الكوفة فطعنه في فخذه، وسبقهم الإمام حتى دخل قصر المدائن فأقام فيه نحواً من أربعين ليلة ثم توجه إلى معاوية بن أبي سفيان وصالحه.

ومن العلماء الذين وقفوا على أطلال الإيوان علم الهدى السيد المرتضى الذي استثارت المناظر قريحته وطفق ينشد من قصيدة معروفة منها:

يا زميلي أنخ بشرقي سابا ... ط مناخاً على الركائب دحضا

قد رأينا الإيوان إيوان كسرى ... فرأينا كالطود طولاً وعرضا

وترى العين منه أبهة الملك ... وعيشاً لأهله كان خفضا

حيث كانت ضلوع من ولج الأ ... يوان ينفض بالمخافة نفضا

ولعل أحسن من وصف الإيوان من المعاصرين شاعر النجف السيد محمود الحبوبي في قصيدته العامرة (وقفة على طاق كسرى) يقول في أولها:

قفا واسألا أعجوبة الزمن الكبرى ... عن الأعصر الأولى وعن ربه كسرى

لقد شاهد الأجيال والدهر يافع ... وشاهدها والدهر محدودب ظهرا

هنا كان كسرى أم هنا لست دارياً ... سلا هذه الجدران فهي به أدرى

وأنشد في الإيوان أيضاً الشاعر النجفي الشيخ عبد المنعم الفرطوسي قصيدة عامرة أولها:

قف في المدائن واستنطق بها العبرا ... عن ألف جيل وجيل فوقها عبرا

واستعرض الدهر أشكالاً منوعة ... فيها لتعرف من أحوالها صورا

واستخبر الرسم عنها حين تقرؤه ... فسوف يعطيك عن تاريخها خبرا

والعين إن تك قد فاتتك رؤيتها ... فلا يفوتك منها أن ترى الأثرا

ويقول فيها مخاطباً الإيوان:

أنشودة أنت للأجيال خالدة ... لذاك أضحى فم الدنيا لها وترا

وآية طأطأ الدهر الخطير لها ... لما تسامت على عليائه خطرا وفكرة في دماغ الفن زاولها ... قرناً فقرناً ليبديها فما اقتدرا

حتى إذا نضجت أفكاره ولدت ... نتيجة ترهب الأجيال والعصرا

كاظم المظفر

(النجف - العراق)