الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 822/فزان بين يدي الأتراك والطليان

مجلة الرسالة/العدد 822/فزان بين يدي الأتراك والطليان

مجلة الرسالة - العدد 822
فزان بين يدي الأتراك والطليان
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 04 - 04 - 1949


للأستاذ أحمد رمزي بك - 2 -

العدوان الإيطالي

15 - في أكتوبر عام 1911 روع العالم الإسلامي والعربي بخير اعتداء صارخ قامت به إيطاليا على القطر الطرابلسي بغير إعلان حرب وبدون مسوغ. ولم يكن هناك نزاع أو ما يشبه النزاع، بل كان هناك أمن وسلام. ولم يعلم الناس بأمر مفاوضة انقطعت أو أمر اختلاف على مبدأ أو رأي أو قاعدة مما تختلف عليه الأمم والشعوب فيتخذ ذريعة للحرب، بل لم يسمعوا بشيء أو بعض الشيء مما يحضر الأذهان لمثل هذا العدوان وينبه العقول لمقدمة.

16 - وإنما سيرت إيطاليا بوارجها وجحافلها واستيقظ أهل المدن طرابلس وبني غازي ودرنة الآمنة، على أصوات المدافع، تقذف عليهم الحمم والموت في عقر دارهم الله من يوم كنا صغاراً لا نعقل من الأمر شيئاً، ولكننا لمسنا الألم والأسى، مرتسمين على وجوه الآباء والأهل والعشيرة والجيران فحزنت قلوبنا لحزنهم وتألمنا لألمهم.

كنا صغاراً نلعب ونلهو - فتركنا اللهو وقاطعنا اللعب وشعر كل منا بأن ساعة فاصلة قد دقت في حياته. نعم كان وقع الاعتداء شاملاً وكان الجرح عميقاً ليس من الجراح التي تبرأ وتلتئم وتنسى مع الزمن.

وسرت بين الناس موجة دافعة، من تلك الموجات التي تملأ النفوس والمشاعر، وتخفق لها القلوب، وارتجت مصر من أقصاها، فمن كتب عليهم القتال من المجاهدين قاتلوا وقتلوا، ومن لم يقدر على تحمله جاد بالمال عن نفسه وبنيه.

وأتى أنور ومعه حفنة ممن باءوا أنفسهم في سبيل الله، وصعد عرب طرابلس وعرب برقة وعلى رأسهم السيد أحمد السنوس ليكتبوا بدمائهم ملحمة من ملاحم الملثمين والموحدين في دفاعهم وجهادهم واستماتتهم عن أرض أندلس فواجهوا الموت وعاينوا الهزيمة، كما لاح لهم الظفر والمجد، وقاتلوا وانتصروا واستشهدوا، وامتلأت أيديهم بالعتاد والسلاح وأسرى العدو.

17 - وفجأة خفقت أصوات المدافع وعادت السيوف إلى أغمادها وسادت فترة هدوء على الجبهة. نعم لقد قامت حرب أشد هولاً، هي حرب البلقان واتجهت الأنظار لمعارك في جبهة مقدونيا حيث تعرض ثلاثة ملايين من المسلمين الهجوم والتشتيت وتساءل الناس عن المصير.

أما مقدونيا فرثاها شوقي بقوله:

يا أخت أندلس عليك سلام ... هوت الخلافة عنك والإسلام

وأما ليبيا وبرقة فقد استحوذ عليهما الطليان ورتل قائل بشعر قديم فقال:

أحقاً خبا من جورندة نورها ... وقد كسفت بعد الشموس بدورها

وقد أظلمت أرجاؤها وتزلزلت ... منازلها ذات العلا وقصورها

ترى للأسى أعلامها وهي خشع ... ومنبرها مستبعد وسريرها

ومأمومها ساهي الحجى وإمامها ... وزائرها في مأنم ومزورها

كلا لم تدم المحنة طويلاً إذ قامت الحرب العظمى الأولى سنة 1914 ودخلت إيطاليا الحرب، فارتجت البلاد فعادت إلى الجهاد وبدأت ملحمة جديدة من تلك الملاحم الخالدة في تاريخ العروبة التي تقاتل فيها فئة صغيرة فئة كبيرة - فيأتيها النصر من عند الله.

18 - لقد فرحت مصر وفرحنا بمعارك درنه وعين زارة وغيرها من التي من الله بها على المجاهدين والمرابطين وذوي البأس في قتال الطليان وكان ذلك في عامي 1911 - 1912. أما ايام الحرب العظمى فقد سار المجاهدون فيها من نصر إلى نصر، بل كان يوم يمر يأتي إليهم نصر جديد من عند الله، ولم تمضي 1915 إلا وقد زحزحوا الطليان عن برقة واستعادوا فزان، واقتحموا خصومهم ومعاقلهم واحد بعد الآخر، واستحوذوا على أسلحتهم وسياراتهم وأسروا كتائبهم المرتزقة من سود وحبش وغيرهم، ساقوهم بأسلحة الطليان لقتال الطليان وتلك والله مقدرة لأهل برقة وليبيا.

وتتبعوا المنهزمين وسدوا عليهم المنافذ والطرق. وفي يوم أصبحت العاصمة تحت أزير رصاصهم وغدا الساحل تحت سيطرتهم فأتتهم المؤن والذخائر من حيث شاءوا.

فهل رأيت دفعة كهذه الدفعة أو قوة من المستضعفين يملأها الإيمان والثقة في النفس والدعوة إلى الحق والقتال في سبيل الله عملت في القرن العشرين عملا يشبه هذا؟ إنها وأيم الله وقفة رائعة.

19 - وانتهت الحرب العظمى الأولى 1918 وتدخل الإنجليز بين الطليان وأهالي البلاد فاعترفوا بنظام ليبيا ومسراطه وأقروا أمارة برقة ووقعوا المعاهدتين وضمنوا استقلال الداخل وخيل للناس أن عهداً من الطمأنينة والأمن قد أشرق.

وفي يوم من الأيام إذ موسوليني يضرب بمواثيق إيطاليا وضماناتها عرض الحائط وحنث بالإيمان المأخوذة وآثار حرباً ضروساً مهلكة يحاول بأساليبها إبادة شعب بأسره. كانت تعليماته وأوامره وقراراته واضحة لا شبة فيها فليراجعها من يشاء يجدها في كتبهم وما نشره قوادهم.

وكان كبش الفداء شعب ليبيا.

20 - قابل هذا الشعب، صدمة الخيانة بشجاعة نادرة. رأى الحرب تفرض عليه في دياره، فواجهها كما يواجهها كل مقاتل كريم كتبت عليه التضحية فقدم بنيه وأحفاده. ضيق عليه الخناق بحصار من البر والبحر، فتحمل وصبر. أوذي في حريته ومعاشه وماله ودكت بيوته، ولكن لم ينزل على حكم ظالميه، ولا تراجع عن مبدأ من مبادئه.

واتبعت إيطاليا سياسية العنف والتشريد، فلم ترع شيخاً ولا مقعداً ولا طفلاً ولا رضيعاً وخربت المنازل وأفنت قبائل وحولت بقاعاً عامرة فجعلتها صعيداً جزراً.

21 - هذا هو الشعب الأبي الكريم الذي حررته الديمقراطية في الحرب الأخيرة واتخذت من اسمه عنواناً ومثلاً لتحرير الشعوب المظلومة المغلوبة على أمرها. والذي جمعت من أفراده ورجاله المتطوعة، وحاربت بهم، وقالت للعالم هاأنذا قد أرجعت الحق لأهله، وأنقذت أول شعب وقع العدوان عليه وأزلت أثر الظلم والطغيان عن عاتقيه.

وترقب أهل البلاد نعمة الخلاص، وباتوا يعللون الآمال، فماذا يراد بهم اليوم؟ إننا لنسمع الكثير من اللغط. فمن قائل بعودة هذه الأرض البائسة إلى سادتها الطليان، وآخر يقول بانتداب الغير عليهم كأن هذه البلاد خلو من السكان!

22 - أنه ليهمنا نحن معاشر الأمم العربية، شأن برقة وليبيا، ويهمنا شعب هذه البلاد. لماذا؟ لأننا منه وهو منا. إنها لصلات الدم والقربى والثقافة والتاريخ الحي، لا التاريخ المتحجر الجامد، ثم ما يوجبه هذا التاريخ المشترك من ذكريات الجهاد والنصر والهزيمة.

إننا نعبر عن رأيه ونقول، هذا الشعب لا يريد شيئاً مستغرباً أو فوق متناول الإنسان، وأنه يريد أن ينعم بحدوده وبلاده واستقلاله وحريته. إنه يطلب كياناً تحت الشمس شأنه شأن بقية الشعوب الصغيرة.

فهل تجاب دعوته؟ وهل يجد لتضحياته حسابا، وهل يعترف بجهوده؟ أم ستعرض بلاده للبتر والتقسيم، ويوضع مصيره وحريته ليضارب بها في سوق توزيع مناطق النفوذ؟!

23 - كان عدد سكان ليبيا وبرقة العرب في مستهل عام 1910 أكثر من مليون نسمة؛ وقد هبط هذا العدد إلى أقل من النصف، على أثر سياسة التشريد التي اتبعتها الحكومة الفاشستية فكأن هذا الشعب قد بذل من الأنفس والأرواح دفاعاً عن كيانه واستقلاله ما لم يبذله الشعب الإيطالي طوال قرن من الزمن ثمناً لتحريره! فهل رأيتم شعباً يضحي بنصف عدده في سبيل مثله العليا؟

هذا هو الشعب العربي في ليبيا وبرقة الذي ينتظر أن يكتب الناس تاريخ جهاده في الفترة بين حربين عالميتين.

والآن أعود بحضراتكم إلى نهاية عام 1914 أي بعد إعلان الحرب الأولى في الأشهر التي كانت فيها إيطاليا على الحياد.

(يتبع)

أحمد رمزي

(ملحوظة): سبق للرسالة أن نشرت مقالاً عن ليبيا بقلم أحمد رمزي وقد استعان به في محاضرته هذه.